عين(سعد الله ونوس في المسرح الأردني)سوريا

عين(سعد الله ونوس في المسرح الأردني)سوريا

عواد علي

المصدر : مجلة الجديد

المصدر: موقع الخشبة

رغم أن “سعد الله ونوس” ظلَّ حتى وفاته، محكوماً بالأمل، لم ييأس من تغيير الواقع السياسي العربي المتردي، إيماناً منه بأن “ما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.

من بين مسرحيات “سعد الله ونوس” العشرين، حظيت أربع منها باهتمام المخرجين في المسرح الأردني، فقدموها خلال العقدين الأخيرين في عدد من المهرجانات المسرحية، وهي “مغامرة رأس المملوك جابر” إخراج مهند الصفدي 1997، “رحلة حنظلة” إخراج أشرف طلفاح 2002، “طقوس الإشارات والتحولات” إخراج زيد خليل مصطفى 2008، و”أحلام شقية” إخراج نبيل الخطيب 2009. وقد أتيحت لي فرصة مشاهدة الاثنتين الأخيرتين منها.

عاد “سعد الله ونوس”، في مسرحية “طقوس الإشارات والتحوّلات” (1994)، بلغة مجازية، إلى هزائم قديمة في تاريخ العرب ما قبل النهضوي، تاركاً للفرد أن يحتل مكانته الأساسيّة، ويتحمل مسؤوليته التاريخيّة، وهي من سمات مسرح ونّوس في مرحلته الأخيرة: الانتقال من الوعي الجماعي إلى التمرّد الفردي. وقد استحوذت في هذه المسرحية، إطاراً لدلالتها المركزية، العلاقة بين المرأة والرجل، لكن برؤية أكثر حراكاً من المسرحيات السابقة، عبر ظاهرتين متعاكستين في حلقة المحرم والعصيان المستتر: الأولى هي ممارسة السادة الرجال للجنس مع خادماتهن قبل بلوغهن، ومن ثم تحويلهن الى عاهرات يعترف المجتمع بشرعية وجودهنّ في وسطه، والثانية هي المكاشفة في العلاقات الجنسية المشبوهة حتى الشاذة منها لاتخاذ هؤلاء السادة من الغلمان مناهل جنسية، بما يكفل التراتبية الاجتماعية بين السادة والخدم، أو العاهرات من جهة، والهيمنة الذكورية من جهة أخرى.

إلاّ إن المسرحية، التي تدور أحداثها في دمشق القرن التاسع عشر، تفترض اختراقاً لهذه التراتبية كأن تقوم امرأة من السادة- تحت رغبة عارمة لجسدها بالانطلاق والتحرر لم تشبعها بزواجها من رجل سيد، اعتاد معاشرة العاهرات، هو “عبد الله” نقيب الأشراف- بالتحول من امرأة سيدة إلى غانية أو عاهرة تبيع جسدها، ملبيّةً بذلك أصداء أصوات عاشتها من خلال اغتصاب أبيها وإخوتها الذكور للخادمات في حرمة البيت الذي ولدت وتربت فيه، مع ملاحظة أن هذه المرأة أبدت رغبة في الرقص أكثر من الجنس لتسويغ تحولها هذا، لكن ماذا تفعل اذا ما ارتبط الرقص بالعهر في مجتمعها؟ طبعاً هذا المجتمع سوف يتصدى لهذه الظاهرة الجديدة بالمفهوم الطهراني ذاته فيجري إصدار فتوى بتحريم البغاء لتقتل المرأة على يد شقيقها الأصغر، في حين يقتل زوجها شهوات جسده عن طريق الزهد والتصوف، فتكتمل بذلك حالة الفصام الشرقي بين ما هو ظاهر وما هو مخفيّ، بين تقشف الروح وشهوانية الجسد، بين حلال الرجل وحرام المرأة، وصولاً إلى فضح الخطاب السلطوي في وجوهه المتعددة.

ورغم أن المسرحية تشرّح المحرمات الثلاث الرئيسة (الدين، الجنس، والسياسة)، التي عادةً ما تخشى منها الرقابة العربية، فقد شغف بها العديد من المخرجين العرب، وكانت الفنانة اللبنانية “نضال الأشقر” رائدة في إخراجها وتقديمها عام 1996، ثم أخرجها المخرج المصري حسن الوزير للمسرح القومي (1997)، وتلاه المخرج الفرنسي من أصل عربي وسام عربش عام 2004، لكن العرض، الذي قدمه في دار الأوبرا بدمشق، منعه الرقيب بعد يومين، وذهبت فرقته بعد ذلك إلى حلب لتجد مصير المنع أمامها حينما أدان الرقيب العرض بأنه يتعرض لتشويه صورة المفتي ورجل الدين. [كما عرضت في حماه وفي محرده دون  إثارة أو تعليق أو منع – إضافة من كنعان البني ] ويومها قال المخرج “عربش” “أصبحنا نعرف أنه عندما نشتغل على نص لسعد الله ونوس ستكون هنالك مشاكل تثار، فهو لم يعش حياة مريحة كإنسان أو كفنان.. وإذا كان ثمة مشاكل سياسية أو دينية في المجتمع فيجب ألا نحملها للنص أو المخرج”. وفي العام نفسه كان للمخرج العراقي الراحل عوني كرومي” تجربة مهمة مع المسرحية، فقد قدمها في عرضين بألمانيا، أحدهما باللغة العربية، والثاني باللغة الالمانية. ثم أخرج المسرحية المخرج الأردني زيد خليل مصطفى (2009)، فالمخرج الكويتي “سليمان البسام” للمسرح الوطني الفرنسي، باللغة الفرنسية (2013)، والمخرج السوري “فرحان الخليل” لفرقة سعد الله ونوس المسرحية في اللاذقية، والمخرجون المصريون: سناء شافع، محمد يوسف، خالد حسونة.

استهل المخرج “زيد خليل مصطفى” في العرض، الذي قدّمه في مهرجان الأردن المسرحي بعمّان، ومهرجان المسرح العربي الأول بالقاهرة، بأهازيج وغناء جماعي، ثم أدخل الجوقه إلى خشبة المسرح بين قرع الدفوف لتبدأ رحلة السرد، وكشف المستور، وفق رؤية إخراجية تقوم على صياغة عوالم الطقوس والإشارات، ومفارقاتها المضحكة المبكية، بكثير من الاختزال، والاعتماد على التقشف في السينوغرافيا من أجل إفساح المجال للممثلين (خليل مصطفى، حيدر كفوف، عبدالرحمن بركات، رائد شقّاح، بيسان كمال خليل، سارة الحاج، ماهر القوقزة، وبشار نجم) أن يتوغلوا في شخصيات المسرحية الاشكالية، حيث الفرجة تغوص إلى داخل النفس لتكشف ترددها وتهاويها، ضعفها الحقيقي وجبروتها المزيّف المكتسب عن طريق الأقنعة التي تلبسها السلطة لسدنتها. مسرح فقير في إطار الخشبة والمشهدية التي أرادتها تلك الرؤية، حيث تتدلى من السقف مجموعة دفوف، كعلامات تشير إلى الموروث الشعبي العربي، والمناخ الطقسي الجامع بين تناقضات الغانية “وردة” وصوفيه القائم على سدة القضاء والعدالة وفتاوى المصير، فيما يضع المخرج على جانبي الخشبة قماشا شفافا تظهر من خلفه الشخصيات كظلال، في استصبار وحل إخراجي لإطلاق دلالات النص المفعم بالإشارات الحادة.

وقد استُقبل العرض بقراءات شديدة التباين والتناقد، فالكاتب والناقد الإماراتي “مرعي الحليان”، مثلاً، عدّه عرضاً طليعياً على جميع المستويات الفنية، بدءاً من اختيار نوعية أداء الممثلين، واعتماد الدخول والانفصال عن إطار الشخصية، ومروراً بجعل الجوقة محركاً رئيساً لمسار الأحداث، وانتهاءً بالانتقال من مكان وزمان النص إلى ملامسة الواقع العربي الحالي، وهي كلها، حسب رأي الحليان، “تدعم فرجة فيها الشيء الكثير من أحلام العرض المسرحي العربي الذي يصلح عرضاً عالمياً بالدرجة الأولى”. في حين رأى الكاتب “أحمد الزعتري” أن العرض “سقط في هوة التهريج والتسخيف. ولم يستطع المخرج، أو لم يرِد، القبض على الفكرة، وأقحم مشاهدَ مغرقة في المحليّة الأردنية لحرَس المفتي (الفاسد) الذين لم يمتلكوا حتى أدوات النطق الصحيح (وهذا ينطبق على الممثّلين كافة)، واعتمد تهريج “أفيهات” الأفلام المصرية الكوميدية لينقلب الحرس فجأةً إلى غانيات يرقصن بملابس الرقص، ويردَحنَ لبعضهن”. وكتبت “إسراء الردايدة”  مقالا عنه ذهبت فيه إلى أن المخرج استطاع خلق تناغم جماعي مع أعضاء فريق عمله. وكان الأداء، بشقيه الفردي والجماعي، عنصراً أساسياً فيما حققه العرض من نجاح، وهو أداء تميّز بتلقائيته، وحسن إدارته للمواقف وتحولات اللحظة، وبجرأته أحياناً، وخفة ظله في أحيان أخرى. وكان رأيي الشخصي، الذي طرحته في الندوة التقيمية للعرض، “أن المخرج لم يكن موفقاً في حذفه مشاهد وحوارات من نص سعد الله نوس، لأنه نص محكم ليس فيه زيادات”.

أحلام شقية

رغم أن سعد الله ونوس ظل،ّ حتى وفاته، محكوماً بالأمل، لم ييأس من تغيير الواقع السياسي العربي المتردي، إيماناً منه بأن “ما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”، فإنه لم يخفِ ضعف إيمانه بمن يقود إلى هذا التغيير، وهو يشهد تصدع النظام العربي، ونزوع معظم زعاماته إلى الاستبداد، وقمع الحريات المدنية، ومغازلة التيارات الظلامية. وقد أفضى ذلك إلى تخليه، قبل رحيله بثلاث سنوات، تخلى سعد الله ونوس عن مشروعه المسرحي الذي أطلق عليه “مسرح التسييس”، وانتقل إلى ما يمكن تسميته بـ”مسرح التشريح”، الذي ينبني على تشريح بنية المجتمع العربي من خلال نواته الصغيرة “الأسرة”، وذلك في أربعة نصوص مسرحية هي “يوم من زماننا” و ”أحلام شقية” عام 1995، “ملحمة السراب” عام 1996، و ”الأيام المخمورة” عام 1997.

حاول ونوس في هذه النصوص تشخيص الداء الذي يضرب المجتمع العربي، وهو الداء المتمثّل بمنظومة القيم المتخلفة التي تؤطره، وبوطأة التقاليد الصارمة التي تهيمن عليها بنيته الذكورية. وقد حظي نص “أحلام شقية” باهتمام المخرجين المسرحيين العرب، رغم تأخرهم كثيراً في إخراجه، أكثر من بقية النصوص، فجرى تقديمه، مثلاً، في مصر (محمد أبو السعود، عام 2004)، فلسطين (منير بكري، عام 2007)، سوريا (نائلة الأطرش، عام 2008)، والأردن (نبيل الخطيب، عام 2009).

تجري أحداث مسرحية “أحلام شقية” في منزل شرقي تقطن فيه أسرتان، الأولى تتكون من الزوج “فارس” (أدى دوره أحمد العمري) وزوجته “ماري” (أدتها نهى سمارة)، التي تَقدّم بها العمر ولم تنجب بسبب مرض جنسي أورثه إياها زوجها الماجن ليلة زواجهما، وسط جهلها وقلة خبرتها، وتسويغ  الأمر وفق الموروث الجنسي المتخلف، والثانية تتكون من الزوج “كاظم” (مثّله رأفت لافي)، وهو رجل متسلط (كان عسكريا)، مقامر، لا يجيد سوى القمع، عاطل عن العمل، ينتهي في النهاية إلى مخبر، وزوجته وابنة عمه الشابة “غادة” (مثلتها إيمان ياسين)، التي لا تكن له ودّاً بسبب زواجها القسري منه. السيدة ماري تكره زوجها، لكنها لا تستطيع الانفصال عنه بسبب زواجهما المسيحي.

ينشأ الصراع في المسرحية حينما يأتي طالب جامعي اسمه “بشير”، ويستأجر الغرفة في الطابق العلوي من المنزل، وبمجيئه يستيقظ الأمل في صدر “ماري”، فتقتنع في هلوساتها اليومية بأنه ابنها الغائب. فيما تقع “غادة” في حبه تعويضاً عما فاتها مع ابن العم. إنها لا نلتقي هذا الشاب وجهاً لوجه، لكنه يظهر في حلم ماري، وربما في حلم آخر لغادة. وهكذا يشكّل “بشير” نوعاً من الحلم، الحبيب المشتهى، الخلاص للشابة من زوج قمعي أجبرت على الزواج منه، بينما كان محل سخرية من قبل، في حين يمثّل لماري خلاصاً من زوج ماجن، وتعويضاً عن ولد.

السلطة الذكورية القمعية التي يرمز لها “كاظم” تتحرك لاغتيال ذلك الحلم، فتتآمر على طرد “بشير” من المنزل، تحت يافطة “الحفاظ على الشرف”، إلاّ أن ردة فعل المرأتين على ذلك تكون أقسى، وأشد مضاضةً من تلك المؤامرة، فالسيدة “ماري”، التي تحتفظ بسمّ لزوج لم تتمكن من قتله، تقنع جارتها “غادة”ً بدسه في الطعام الذي ستقدمه لزوجها، لكن المصادفة تلعب دورها، فيأكل طفلها من ذلك الطعام، ويموت بدلاً من الزوج. وبذلك الخطأ القاتل تدخل “غادة” في دوامة من الشقاء، وكأنه مكتوب عليها ألا تحلم. وتبدو نهاية المسرحية غارقةً في السوداوية، ليس فيها أي بصيص أمل.

هذا هو الخيط الرئيسي لحبكة المسرحية، وثمة خيط آخر، لا يظهر مجسداً كفعل درامي بل من خلال الشخصيات، وهو حكاية “بشير” الذي رفض قتل أخته بطلب من أبيه لأنها هربت مع حبيبها، واختار أن يواجه خنوع أمه لأبيه، والموروث البائد حول الشرف، بردَّة فعل تُعدّ مطلباً لتطوُّر المجتمع وانسلاخه عن هيكله المهترئ.

إن الفارق الزمني بين الأسرتين في المسرحية، كما يقول مخرج العرض نبيل الخطيب، يجعل كل منهما منتمياً إلى زمن عناصره مختلفة، لكن حيثيات حكايتيهما متقاطعة ومترابطة في آن واحد، وكأن الزمن، زمن المجتمع العربي، ثابت لا يتحول، إلاّ إلى ما هو أسوأ لتتماهى الحكايتان، بحيث تبدو قضايا الأُسَر الشابة امتداداً لآلام وأوجاع الأسر الأقدم منها، لينتهي مصير الأسرتين إلى مصير واحد هو الدمار والموت.

ينكأ سعد الله ونوس في هذه المسرحيه، بجرأة، جرحاً غائراً في جسد المجتمع العربي المريض، ألا وهو قضية المرأة، مبرزاً بحسه التقدمي البعد الإنساني عبر مستويين: الاجتماعي الظاهري، والفردي المكبوت، وذلك من خلال تشريح موضوع محاط بتابوات كثيرة. إنه يقدم مقاربة درامية للذات الإنسانية في صراعها الداخلي، ومدى التقاطع والتنافر بينها وبين محيطها، والتغيرات التي تطرأ على الإنسان حين يعي هذا التنافر ويحاول أن يتخطاه.

قدم المخرج “نبيل الخطيب” بصرياً مشاهد متقطعة للفضائين المتجاورين اللذين تعيشان فيهما الأسرتان (أريكة وقطعة أثاث إلى يمين الخشبة تختزلان على نحو تعبيري بيت ماري وزوجها، وطاولة على يسار الخشبة تختزل بيت غادة وزوجها، وفي أعلى الوسط  ماكنة خياطة قديمة خلفها كرسيان تستخدمهما الزوجتان) عامدا إلى محو أي فاصل بينهما، وذلك ليعزز مستوى الرؤية، بحيث عندما يؤدي ممثلان أثنان يتحول الممثلان الآخران إلى ممتفرجَين مشاهدين، فاعلين، ومشاركين في بناء الصورة، وبناء التحولات الزمنية والمكانية، أي أن المتلقي يلحظ وجود ممثلين هم متفرجين على المسرح في الوقت نفسه، يتناوبون في عمليتي الأداء والتلقي، وهذا ما جعل العرض يدخل في لعبة الميتا مسرح، أي أن العرض يتمرأى في ذاته، كاسراً وهم الواقع، أو ما يمكن أن يتولد من تصور بأن ما يراه المتلقون أمامهم هو واقعة مجتزأة من الحياة، عامداً إلى إبلاغهم بأنها واقعة مُمسرحة مصاغة برؤية جمالية تشير إلى الواقع بصور مجازية ورمزية. وقد عمق هذه الرؤية أيضاً ذلك التداخل بين الفصحى والعامية في حوارات الممثلين.

لقد أكد نبيل الخطيب في تجربته الإخراجية لهذه المسرحية الشيقة اللاذعة، أنه مخرج ذو مخيلة خصبة، وحساسية فنية وجمالية قادرة على استنطاق ما هو مسكوت عنه في النص، وتقديمه في صور مشهدية شديدة الإيحاء.

كنعان البني – سوريا

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *