عين(الصدمة النفسية وتمركز الذاكرة في المسرح العيادي)سوريا

عين(الصدمة النفسية وتمركز الذاكرة في المسرح العيادي)سوريا

مقال: لوت زينب

أستاذة في المدرسة العليا للأساتذة

تخصص نقد حديث ومعاصر

 

1-المسرح العيادي و الصدمة النفسية:

المسرح فضاء مفتوح الدلالة، منصهر الذوات التي تبلغ ذروة المعنى بتجسيد الحركة، ومساهمة التجربة النفسية في فهم المتلقي(الجمهور).وتأطير مستوى الصدمة النفسية Traumatisme psychologique ومحاولة الانصهار في ذات تعرضت لكوامن ألم قوي تهتز فيها نفسية الإنسان وتنهار القوى الداخلية المتحكمة في تفكيره وعواطفه، ويؤشر الطب النفسي كثيرا لخطورة التعامل مع المرضى المصابين بحالة الجرح النفسي الناجم من أسباب ظاهرة كالحروب والتهجير وآثار القتال بين أطراف نزاع، ومخاطر الكوارث الطبيعية بأنواعها، وتصبح ردة الفعل نسبية وقد ترتفع لدرجة الانتحار، و الفن المسرحي صوت يخترق هاجس الصمت، أو يثير السكون القابع في النفس ليحرك قدرة خامدة، ومحصورة ومقموعة لتفجير نواة التفكير السلبي ومواجهة الفن لوحشية الحياة، ومرارتها، لأن المريض النفسي يكون فاقد القدرة على التعبير عن انفعالاته ومشاعره، ولهذا يكرس المسرح لغة الاختصار وأحيانا الصمت والحديث بالحركات كمرهم أولي يبين احتواءه لسلوكات المرضى، (مسرحية 190)لمؤلفها (خماط جبار) تحدي شحنة سالبة تتحكم في احباط التقدم النفسي والسلوكي في ايجاد حلول ومنافذ للاستقرار و الرؤية الايجابية نحو الوجود، حيث يصبح المفهوم الخفي للموت متمركزا في بقعة سوداء تتعمق في فرز طبيعة كره الذات والنفور منها وعدم الاستعداد لبناء قرار يستند لقوة التجديد، والالتزام بمبادئ تقدس معنى التعايش مع النفس و الآخر.

من أعراض الأزمة النفسية:

يرى بايرون Pierron أنه في كل حالات الصدمة النفسية هناك مفهوم اقتصادي، فنحن نتحدث عن كميات من الطاقة سببها أحداث عنيفة تفوق شدتها صادرة عن الإثارات كما ان هناك حقيقة تفرض نفسها وهي أن الصدمة النفسية لا تتعلق فقط بطبيعة الحدث حيث أن نفس الحدث يكون له تأثيرات مختلفة على أفراد مختلفين[1]

يتعرض الكثير من الأشخاص أثناء مرورهم بأزمات نفسية متعثرة، تفوق قدرة الاحتمال، وتعترض الأشخاص لواقع مرير يصعب تحمله فينعكس على أوضاع التأقلم والعودة للحياة الطبيعية، فتتضاءل فرص الحياة بالنسبة لهم وتنشطر دائرة الهواجس و الآلام الأولية على الشعور وتتمثل :

 

أما الأعراض الجسدية فتتمظهر على  :

يتمظهر المسرح في مواجهة مشاكل الصدمة بالترابط الآتي:

 

2-العيادة المسرحية بين التجريب ووظائف التعبير:

المسرح التعبيري العيادي إنجاز يتغلغل في منطق المريض وفرضياته نحو الوجود، لكنه يعمل على تعميق المعرفة بمرضه ومؤشراته، والمعايير المهمة الظاهرة في سلوكه والمتخفية في خلفية تواجده  «يحاول الدارسون النفاذ في النسيج المسرحي ( النص + العرض)ومن ثم تأمله بوصفه بنية من العلاقات المتشابكة الدالة التي يكشف تفاعلها عن المعنى المستتر في بنية الخطاب كما يشير إلى طريقته المتميزة في إثراء المتلقي وتعميق وعيه بنفسه وخبراته بالواقع (…) كما أن الصورة بتجلياتها المتخيلة إحدى المعايير المهمة في الحكم على أصالة التجربة المسرحية لأنها تعبير وليس محاكاة»[2]وتجاوز المحاكاة التمثيلية لوقائع واختزال أحداث خارج حدود المسرح لم يعد فاعلا مهما في العيادة المسرحية بقدر ما يمكن أن يصبح التعبير عن المرضى وتشخيص معاناة لا يمكن شق الطريق إليها إلا بخبرة سيكولوجية وإكلينكية عالية في معالجة الصدمة النفسية، و التعبير عن الواقع هو ما يمكن ملامسته في مسرح 190للمؤلف(جبار خماط) حيث يجذب المتلقي نحو( القصاب-الدم-الموت- البرودة) في هرم أعمق وهو الذاكرة.

تتشكل عملية التجريب في ابتكار طرق العلاج في المسرح العيادي ، ولعل تفكير ( جبار خماط) ككاتب مسرحي تمنحه ذلك البعد في تنظير عملية تناسب طبيعة تفكير المريض، وفي مسرحية          ( 190) مواجهة مباشرة نحو مجموعة دلالات تسيطر على الجهاز العصبي للمريض «فإن جميع أشكال الابتكار والإبداع ضرورية،التجريب في المسرح هو توكيد عنصر حي ويعني هذا أنه -بأسلوبه الفني-إنما يقوم بإسقاط رؤية عالمنا المعاصر، وردود أفعاله، بثراء خبرته وفكره ومعارفه وإنجازته ومخاطره،لذلك أيضا ، على هذا التجريب أن يكون “فاعلا”، يقوم بوعي كامل ومسئولية خالصة، بمخاطرة الإرهاص والتنبؤ،إن التجريب الحقيقي ماهو إلا تزايد صيغ الابتكار الجديد»[3] كما أن المخرج خبير بردود الأفعال الناجمة عن العرض و الأداء حيث يهيمن على تفكير المتلقي بما يعترض مستقبل التلقي وأفق جمالية انتظاره، استقرار الجدانب التعبيري في بؤر توتر النفس هو مهمة المؤلف في تخطيط الأداء و العرض واختيار اللغة.

توظيف اللغة هي توظيف مساحة المعنى(اللغة المسرحية=استراتيجية المعنى) و يؤسس المعنى بحد ذاته صورة زاوية مرضية يعاني منها المريض مثل مخلفات الحروب التي تكون رموزها غالبا( دماء/ برودة/صقيع/فقدان/ غدر/فرار…)«التوظيف الجيد للغة التعبير التي استطاع الكاتب من خلالها أن يكثف صرع الأضداد في النفس على مستوى التعبير اللغوي»[4]تصبح اللغة خيط تواصل رفيع بين المتلقي و الممثل الحامل للكلام، وتوظيف المترادفات مثل توظيف الأضداد تعكس حركة فضاء بين ثنائيات تعيش في حس يهز كيان التناقض الموجود داخل نفسية المريض .

ولتمثيل مقطع من المسرحية:

ذاكرة تابوت قبل موته بنصف ساعة

.. غسل أسنانه عطَّر جسده .. بعطره الثمين بارد.. مثير صعد سيارته

.. فجاة نسي حياته رصاصة غادرة من الصوب الاخر تركته وحيداً ينتظر تابوتا لائقا لاناقته قبل الموت لم يكن في باله .. ان المشيعين دماء ثور مغدور مثله وحيدا تركوه..

صحيفة طارت من محل قصاب ملطخة بدماء الثور الذي فقد ذاكرته .. فقد كل شي..

سوى نظرته للقصاب الذي كان صديقه قبل دقائق انكره بسكينه الناشطة ..

هراوته الغليظة كسرت رقبته دم الثور على شفتي نجمة اعلانات مبتسمة في الصفحة الاخيرة الصحيفة

.. حطت على رأس الأنيق الذي فقد ذاكرته ..

مثل ثورنا المغدور بانتظار قبر لائق لهما !![5]

تتمثل الملفوظات في مستوى واحد تقريبا لكنها تمنح بؤر اهتزاز في ذهن المتفرج حيث تعد الذاكرة مركزا لكا صور الدمار حوله المتمثلة (الموت-الثور-القصاب – الدم) فالقصاب مقترن بالدماء التي يذرفها الثور المذبوح، وأحيانا يبقى تساؤل المتلقي لماذا يختار الثور تحديدا، وعلاقة الإثارة تبقى حاسمة بين رمزية اللغة ووظيفتها،ووجود الثور بسماته الفيزيولوجية مقترن بالثورة والقوة والحماسة …، وانهيار هذه السمات مرتبط بالغدر في المسرحية .

3-مركزية الذاكرة في المسرح العيادي:

تمثل الذاكرة بالنسبة للإنسان واقع وجوده وهاجس تواجده وسعة ارتباطه بالواقع فإن تهديم الواقع من حوله سيكون هزة قوية بالنسبة للذاكرة التي تترسخ فيها معالم ومحيط التهديم على المستوى النفسي و الجسدي و السلوكي، وذاكرة الفنان بصفتها الجمالية تتموقع في وصف إسقاطي للعوامل المؤثرة  (دماء-غدر…)« فالذاكرة الجمالية المتكونة من عوامل لا فسيولوجية ولا إبستيمولوجية وهي ذاكرة تتناغم مع أحداث سالفة وراهنة مكنونة بهذا التناغم علاقة ربط فلها أن تعطي لهذا الربط طبيعته خاصة حزينة أو سعيدة (…)وكذلك بالنسبة إلى الشاعر والكاتب الروائي وكل من يحاول أن يعمق ذاكرته بواقعة خلال عمل ما فتلك الأعمال هي مقومات حفظ الذاكرة ومقومات تجلي الجميل على الدوام (…) فالذاكرة المنعطفة نحو الجميل تكون ذلك الجزء من فلسفة الجمال الّتي تترجم كل تفاصيل الذاكرة والحدث إلى معاني جميلة تسهم في تعزيز الوصف»[6]  ولعل ملامسة موضوع الذاكرة ليس لتعليل الظاهر لمكوناتها الفيزيولوجية مع أنها كامنة تحقق اشتغالها، لكن الذاكرة أو الحافظة كما سماها العرب القدامى تحمل المعاني، وتؤسس المحيط الجمالي،  تكسب مهارات التعبير عن قضايا فكرية وإنسانية وجمالية، هي أشبه بالإنعكاس الدائم نحو معطيات سابقة ولاحقة ومتزامنة،«وليس الخيال نفسه إلا عملا من أعمال الذاكرة إذ لا شيء نتصوره لم نكن نعرفه بوجه ما، من قبل »[7] تمنح مساحة كافية لتفاصيل والتوجيه المغري إلى مكانة الأشياء في النفس، وما حققته من أثر نفسي وروحي قبل انتقاله إلى الكتابة كأنها مادة تنغمس فيها اللغة لتكتب حال ذاتها ورؤيتها للوجود، وما يؤثر فيها ويستأثرها في المريض النفسي إثر الصدمات التي يكثف فيها المسرح العيادي طريقته في معرفة الحقائق كّأنه يحل شفرة أزمة خانقة يعاني منها المريض. ليعيد له ثقة المعرفة بالحاصل و تقدير الأثر النفسي الذي يعاني منه، وهي أول خطوة لتجاوز الجرح الداخلي، فطريقة الارتداد الشعوري التي يثيرها المسرح العيادي أصبحت مصطلحا فاعلا في الشفاء واستعادة التوازن بشيء من الجمال الفني و اختصاصية اللغة المسرحية في توزيع الأداء بترميز فضاء الصوت و الحركة و الإضاءة على الخشبة .

 

[1] Pierre Marty. Les Mouvement individuels de la vie et la mort Masson – Paris-1976-P.102

[2] -الربيعي علي محمد،الخيال في الفلسفة و الادب و المسرح ، دار الصفاء للنشر و التوزيع ،عمان، 2011، ص.159

[3] -باربرا لاسوتسكا-بشونباكالمسرح والتجريب ما بين النظرية و التطبيق،تقديم وترجمة :هناء عبد الفتاح،مراجعة :دوروتا متولي، المجلس الأعلى للثقافةالمشروع القومي للترجمة،1999م، ص.40

[4] -ميجيل دي أونامونو، دراسة ومختارات ، دراسة وترجمة:محمود السيد علي ،المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة،1998، ص.102

[5] – جبار خماط حسن  ، مسرحية 190( مجموعة  نصوص من العيادة المسرحية)

[6] -مجموعة من الباحثين والأكاديميين العرب،إشراف وتنسيق وتقديم : أم الزين بنشيخة المسكيني، منشورات ضفاف بيروت لبنان، كلمة للنشر تونس، منشورات الاختلاف الجزائر، ط/1، 2015م، ص.129-130

[7] -مصطفى ناصيف، الصورة الأدبية،دار الأندلس بيروت، لبنان، ط/3، 1983م، ص.31

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *