عولمة الخطاب المسرحي في مسرحية “انتظار غودو ” / محمد فتاح التميمي

أصبحت العولمة اوالكوكبة أو الكونية من أكثر الكلمات استخداماً في الأدبيات المعاصرة. وقد تم تعريف العولمة علي أنها إكساب الشيء طابع العالمية، وجعل نطاقه وتطبيقه عالمياً. وأضحت ظاهرة العولمة الهاجس الطاغي في المجتمعات المعاصرة، فهي تستقطب اهتمام الحكومات والمؤسسات ومراكز البحوث ووسائل الإعلام. ويندر أن لا نسمع أو نقرأ في كل يوم حول هذه الظاهرة أو جانب من جوانبها المتعددة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وبخاصة تدويل الإنتاج والاستهلاك والتبادل والتوزيع والاستثمار وتعاظم تأثيرها علي أوضاع الدول والحكومات وأسواقها وبورصاتها ومختلف الأنشطة الاقتصادية فيها.
ماذا يعني مصطلح العولمة؟ما مدي علاقته، واختلافه، بالاستعمار القديم؟ بالإمبريالية؟ بالرأسمالية؟ بالنظام العالمي الجديد؟ أن المسألة، هنا ليست مجرد مسألة معرفية، مجردة، بل لان معرفة علمية بواقع (العولمة) أضحت ضرورة سياسية واقتصادية لتوضيح الأساليب والوسائل الجديدة للدفاع عن مصالح الشعوب العالمثالثية ومنها شعبنا العربي، في وجه أنظمة العولمه الأكثر حداثة في السيطرة والاستغلال والأكثر شراسة في انطلاق التوحش الرأسمالي في أعلي قدراته من حيث استخدام أرقي منجزات العلم والتكنولوجيا والمعلوماتية وشبكات الاتصال، بهدف أساسي: استثمار شعوب العالم وتحويل كل قدراتها إلي مؤسسات هائلة تملكها شركات محدودة العدد، تسيطر علي كوكب الأرض والفضاء الخارجي والحكومات.
في مسرحية في انتظار غودو للكاتب الأيرلندي الذي يكتب باللغة الفرنسيّة مَجالاً وَاسَعاً وفضاءً خصباً للمقاربة التطبيقيّة لفكرة أن الأدبَ من غير غاية أو لا يسعى نحو هدف، كما يدّعي أصحاب النسق الإيديولوجيّ والدينيّ والأخلاقيّ، فالكتابة معناها ألا نصلَ، أو أن تنتظر، أو أن تعود من حيث اتيت كلّما تقدّمت للإمام…فكرة أن تكتب معناه أنك كلّما تقدّمتَ عدتَ وكلّما عدت تقدمتَ في دائرة لا تنتهي تجدُ تجلياتها في هذه المسرحية التي كانت مفصلاً في تاريخ الأدب والفنّ عموماً، وفي تاريخ المسرح خصوصاً، في فرنسا كما في كل العالم…عندما سئل صموئيل بيكت عن الثيمة الرئيسية لمسرحيته، اشار الى مقطع للقديس أوغسطين ” اتمنى لو أتذكر المقطع بلغته لاتينية ، انه أروع في اللغة ألاتينية منه في اللغة الإنكليزية ” لاتياسوا ،اذا صدر الحكم بادانة احد اللصين ” وهنا يلمح بيكت الى مفهوم الإنجيل عن الإدانة والخلاص لقصة آدم وحواء في بدء الخليقة وكيف ان هذا المفهوم انتقل من جيل لآخر في تاريخ الإنسان الممتد . وفيه ايضا أشار الى مصير الأنسان على الأرض ، فالأنسان محكوم سلفا باحد النهايتين اما الخلاص او الهلاك . يبدو ان بيكت كان شبه متأكد من ان على الأقل البعض منا سينجو بينما الآخرين سيحكم عليهم بالهلاك . ولكنه ليس متأكدا كيف يمكن لهذا الخلاص ان يحدث ، الشيء الذي نراه في التصرفات الفوضوية والاابالية لشخصياته الذين كانو يهيمون بلا هدف في حركة دائرية تتخطى حدود المسرح ، أضف لذلك اضهرت هذه الشخصيات مقدرة اقل على التفكير الخلاق للتعبر عما في داخلها الشيء الذي يعكس حالة الضياع وعدم اليقين الذي تعاني منه . الحالة التي يريد بيكت ان يطرحها في المسرحية تتطابق مع الجملة أعلاه ” احد اللصين حكم عليه بالهلاك” وربما اعفي الآخر .ناقش المؤلف مقهوم الخلاص والهلاك في الفصل الأول من مسرحيته ؛ عندما دخل استراغون وفلادمير في نقاش حول قصة اللصبن الذين وضعا على الصليب مع السيد المسيح وكيف ان الحواريين اختلفا حول صلب احدهم وإعفاء الآخر : وكذلك عندما سئل فلادمير رسول غودو ( الصبي) عن اخيه الذي كان يعمل راعيا لغودو : حيت سئل فلادمير الصبي :أته لايصربك؟ يرد : الصبي لاياسيدي :من يضرب؟ انه يضرب اخي. (ص51) هذا الاستنتاج يجعلنا نعتقد ان المسرحية عالمية في مضمونها وهذه العالمية جعلتنا نعتقد ان بيكت هو احد الرواد من كتاب المسرح الذين كانوا وراء عولمة النص المسرحي من خلال تبنيه مفهوم مسرح العبث. الأوائل
 
 
 
من هو صمويل بيكيت؟!!…
 
ولد بيكيت عام 1906مـ وفي العام 1989 كان شَمساً سوداء قد انطفأت، لتخلّف وراءها إرثاً أدبيّاً ورأسمال ثقافياً وفضاءً جماليّاً ما زال إمكاناً للبحث والدراسة والاستثمار وإعادة الإنتاج، في أدب بيكيت الكثير من عناصر التراجيديا والكوميديا والألم والأمل التي تمثّل الإنسانيّة جمعاء والتي تمسّ الوجدان الأنساني في الصميم، ولعلّ من المهمّ أن نذكر أن بيكيت لم يكتب بالإنجليزية ـ لغته الأم ـ سوى ديوان ” عظام أكّو ” في عام 1935 وقد رفض أن يترجم هذا الديوان للغة الفرنسية التي سيصبح من أكبر كتابها حين يصدر عدّة أعمالٍ كان من ضمنها ديواناً بعنوان ” قصائد ” صدر في العام 1978، كذلك مسرحية ” أيام هانئة ة؟!! “…لبيكيت عددُ من الأعمال الشعريّة والروائيّة والمسرحيّة ” موللوي ” وتكملتها ” مالون يموت ” و ” اللامسمّى ” و ” وات ” خاتمة الثلاثية الروائيّة موللوي ومالون، وروايتان قصيرتان هما ” الحب الأول ” و ” الصحبة “، بعد ذلك تأتي مسرحية ” في انتظار غودو ” التي صدرت في العام 1952، ليحوزَ في العام 1969 مـ على جائزة نوبل للأدب، لتتشرف تلك الجائزة بأن يدرج في قائمة حائزيها اسماً كانَ وما زال اسماً يثير عدداً من أسئلة الفنّ وجماليات الكتابة وتكنيك الأدب وإشكالات الحياة والوجود… 
 
عولمة الخطاب المسرحي في مسرحية ” انتظار غودو”
 
يهدف هذا البحث إلى تقديم قراءة جديدة لواحدة من أهم المسرحيات التي كتبت في القرن العشرين حيث صنفت هذه المسرحية خطأ ضمن مسرح العبث في حين ان المسرحية تناقش قضايا في غاية الأهمية والجدية يواجهها بالتحديد الإنسان المعاصر وهو يمر بتحديات في غاية الأهمية والخطورة ومن ضمنها الأزمات بمختلف أنواعها السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى قضية الأيمان بوجود كائن أسمى يلجأ إليه الكائن البشري عندما تكون هذه التحديات خارجة عن سيطرته وإرادته أو عندما تفشل كل مايوجد حوله من فلسفات وعقائد في مواساته. ماهو المرجع الذي يلجا إليه هذا الإنسان عندما تنقلب القيم الراسخة في ذاته رأسا على عقب؟ الفلسفة عجزت عن إعطائه تفسيرا معقولا ومقبولا لما يحيط به ، قال الوجوديون وعلى رأسهم جون بول سارتر ” ” يجب ان ينظر الى العالم على انه محض عبث”على البشرية ان تعترف بعدم وجود أي تفسير معقول كلي للكون” وهذا الرأي لم يصمد أمام الأحداث الجسام التي واجهة البشرية المعاصرة حيث ان الأنسان بوصفه كائنا عاقلا يريد ان يفهم او يبرر مايجري حوله ، وجاء من قبلهم الماركسيون بفكرة ان البشرية عليها ان تنتظر اليوم الذي ينعم فيه الجميع بالمساواة والسعادة عندما يموت الشعور الطبقي في نفس الأنسان ، ولكنها لم تصل إلى هذا اليوم الموعود ، واخيرا جاءت فكرة الديمقراطية الليبرالية التي قال عنها احد أنصارها وهو فرنسيس فوكياما في كتابه الموسوم ” نهاية التاريخ” بأنها خاتمة المسك للبشرية ولكنها تعثرت سائر الفلسفات التي سبقتها ومن هنا تبرز أهمية الحاجة إلى منقذ أو مخلص يأخذ بيد الإنسان الى عالم تفسر فيه كل الأحداث تفسيرا معقولا ويكون له عونا ومددا ولعلني أرجّح من خلال النصّ أن يكون غودو معادلاً لفكرة الخلاص أو النجَاة التي تشكّل بنية الفلسفة الكلاسيكية كما تشكّل بنية الأديان في أوقات الأزمات . هذا اذن انسان القرن العشرين ، شخص لا يعلم مايريد لانه لن يستطيع الوصول لهدفه مهما حاول ، فهناك القوى الاكثر تسلطا عليه ،اكثر واوضح من الاله وهي التي تتحكم بمصيره ومصير الشعوب وتتحكم في كل معطيات حياته المادية والروحية، فأصبح مجرد اداة لتنفيذ مايؤمر به وما عليه الا ان يطيع وينفذ، فتحول الصراع من صراع بين الانسان والالهة بحكم القدرية الى صراعه بين الانسان والتسلط او بينه والالهة بحكم القوة .كما ان هناك قوة خفية تتسلط عليه في ولادته ومماته لا يعرف كنهها ولِمَ يعيش وكيف ولِمَ يموت ولماذا !!؟؟ وهنا تدخل اسئلة حول حياته المحصورة مابين فجوة الولادة وفجوة القبر دون ان تتحكم به ارادته هو ، فعاد انسان القرن العشرين للتحديق بما يتحكم به في الكون! وكان لهذه التساؤلات مصدرها المتنوع في العلوم والفلسفات التي وجدت في القرنين الماضيين وبالذات في القرن التاسع عشر خصوصا بعد كتابي نيتشه ودارون ، فاصبح مصير الانسان مجهولا مشتتا ضائعا تلعب به الأهواء ماتشاء، فخلق في ذاته إرباكا في العودة الى السؤال الابدي : ماذا في السماء ؟ وما هو مصير الإنسان ؟ فوجد مسرح اللامعقول من خلال كل تلك التراكمات سواء الوجودية او غيرها لتولد منه فعلا يؤسس عليه الأدب القادم الذي نعت باللامعقول ( إن مسرح اللامعقول مثله في ذلك مثل المسرح الإغريقي يعتمد على ربط الإنسان بالمطلق سواء كان حاضرا أو غائبا متجاهلا تماما واقع الانسان الاجتماعي والتاريخي وهكذا ظل البعد الميتافيزيقي يهيمن على الانسان في مسرح اللامعقول كما كان يهيمن عليه في المسرح الاغريقي ) ” البناء الفكرى لشخصية البطل فى مسرحية صمويل بيكيت”فى انتظار جودو”) . د / عبد الغنى مرتضى)
وبالمناسبة الكاتب نفسه لم يعط أي صفة لأدبه ،انفرد أدب بيكيت بخروجه من إطار الخطاب المسرحي التقليدي بهدف الوصول إلى اكبر عدد من الناس بمختلف جنسياتهم ومشاربهم . وتلخص هذا التفرد بالخروج عن النص المسرحي التقليدي بأدواته المعروفة من حبكة ” قصة” وتقنيات وأفكار ومكان وزمان الحدث ليكون أكثر شمولية وانفتاحا وقابلية لمخاطبة الآخرين مهما كانت خلفياتهم وهوياتهم كما يقول الدكتور أحمد طه في بحثه الموسوم ” عولمة الخطاب المسرحي في خدمة العبور والتفاهم الثقافي” وفيه قدم قراءة جديدة لمسرحية “انتظار غودو” . في هذه المسرحية صحيح لم يخرج الكاتب بأي حل للقضية التي أثارها كما خرج شكسبير في مسرحياته التراجيدية بإعادة القيم والقواعد التي خرج عنها الأشرار إلى نصابها ولكن أثارت هذه القضية تكفي للقول بان الكاتب يؤمن بقضية حاجة البشرية إلى عون ميتافيزيقي لينقذها من ورطتها وان كان هذا العون لم يصل في المسرحية ولكن مجرد تصور الإنسان وجوده أو تخيله يعطيه أملا في الوجود ومبررا ليواصل مسيرته في الحياة وهذا في رأي كافي لإخراجها من تصنيف أدب اللامعقول. 
 
فكرة مسرحية في انتظار غودو 
 
رجلان اسم احدهم فلادمير والآخر استراكون يلتقيان قرب شجرة . يتحدثان عن مواضيع شتى ويصرحان بانهما ينتظران رجل يعتقدان اسمه غودو ولكن بينما ينتظران يدخل شخصان آخران اسم احدهم بوزو في طريقه الى السوق لبيع خادمه ليكي . يتوقف لفترة من الوقت ويتجاذب اطراف الحديث مع فلادمير واستراغون . يقوم ليكي بتسليتهم وذلك بادائه حركات راقصة والكشف عن افكاره وبعد ذلك يغادران . بعد مغادرة ليكي يدخل صبي ويخبر فلادمير بانه رسول غودو . ويخبر فلادمير بان لن ياتي الليلة ، ولكنه سيأتي بكل تاكيد غدا . يسال فلادمير الصبي عن غودو ثم يغادر . بعد مغادرة الصبي يلتقي استراغون وفلادمير ثانية عند الشجرة لينتظران غودو . ياتي بوزو ولكي ثانية ولكن هذه المرة بوزو اعمى ولكي اخرس ، بوزو لايتذكر لقائه السابق بالرجلين ، ثم يغادر ليترك فلادمير واستراغون في حالة الأنتظار . ياتي الصبي مرة اخرى حاملا نفس الرسالة السابقة ليخبر فلادمير واستراغون بان غودو لن يأتي ويصرالصبي على انه لم يلتقي يهما في المرة السابقة وهكذا يتنهي الفصل الأول والثاني دون ان يلتقيا بغودو.
في مسرحية في انتظار غودو نجد خمس شخصيات هم ” إستراجون، فلاديمير، بوزو، لاكي، غلام )، ويمكننا أن نعتبر غودو شخصيّة رئيسيّة في هذا النصّ، إذ إن غودو هو بنية النصّ الأساسيّة، وما هذه الشخصيات إلا وحدات نصيّة تشتعل في فضاء النصّ انتظاراً لغودو الذي لا يأتي أبداً، ولعلّ سؤالاً أساسيّاً يظلّ يراود المتلقيّ ويرسمُ حيرة وغموضاً يتشكّلُ حول هذه الشخصية المجهولة في ماهيّتها وهيأتها ودورها وجدواها، ويرجح من خلال النصّ أن يكون غودو ” أي شيء يتوقعه الإنسان ليساعده في تحمل وجوده”” دليل الطالب الى مسرحيات صموئيل بيكت” الخلاص أو النجاة يمكن أن نضعَ عدّة تحديدات لتلك الفكرة، من تلك المسميات مثلاً الله، كما يمكن أن نضع احتمالاً لما يسميه البعضُ الغاية أو الجدوى، وكلّها احتمالات دلالية تندرج تحت فكرة الخلاص لكنّ الأكيد أن غودو هذا لا يأتي مهما طال الانتظار وظلّ هكذا حتى نهاية الفصل الأخير. 
لعلّ البعدَ الأبرز في المسرحية هو البعد اللغويّ، حيث نجد لغة خالية من المشاعر، مفرّغة دلالاتها من الأحاسيس، لتترك أثراً في ذهن المتلقيّ، وإحساساً مرافقاً في عمليّة القراءة، بأن الحياة مجرّد أحداث ووقائع لا تنبئ إلا بالخواء ومرحلة الصفر، فبكيت يستخدم في مسرحيتهِ لغة مختزلة جداً، عادية، خالية من التكثيف الصوريّ والمجازيّ، إلا إن تلك اللغة قلقة، متشظيَة، عبثيّة، مُحايدة تصل لحدود العدم، تتساوى حين تتناول ثيمة الخلاص / غودو، أو الحذاء، أو لاكي، أو الموت، أو الانتحار، أو الحزن والبكاء، مما يجعل الكلمات والحوارات مفرغة من الحالة الشعوريّة لترسم من خلال فراغها حالة شعورية تشير لثيمة العبث واللا جدوى والإحساس بالموت أو مرحلة العدم، خصوصاً أن تلكَ اللغَة تتضافرُ بنيويّاً معَ الأحداث اللا معقولة، فمثلا يبتدئ الفصل الأول بتحديد الزمان بأنه في المساء، لكنّنا ندرك من خلال الحوار بأن الوقت نهارٌ مشعٌّ، بالرغم من أن المشهد يدور في المساء، ومن هنا نجد تأويلاً لنهاية الفصل الأول حين يقول إستراجون لفلاديمير حسناً، هل نمضي؟ فيردّ فلاديمير قائلاً هي بنا نمضي، لكنّهما رغمَ ما قالا لا يتحركان، ولعلّ في رسم صورة مشهد الدخول للاكي وبوزو ما يرسم أفضل حالة للامعقولية حيث يدخل بوزو رابطاً عنق لاكي بحبل بقصدٍ أن يجرّه، لكنّ لاكي هو من يدخل أولا، ليتبعه بعد ذلك بوزو، واللغة في المسرحية كما الأحداث تتضافرُ مع الفوضوية واللا منطقيّة وانعدام السياق التي تأتي فيه الكلمات والثيمات واحدة تلو الأخرى دون أيّ وضوح أو سياق منطقيّ سوى المنطق الداخليّ والضمنيّ للنصّ وهو أن الحياة مجرد عبث وفوضويّة ولا جدوى، الشخصيات في مسرحيات بيكت استعانة ” بلغة تعج بكلمات ميتة ” حيث ان كل كلمة يقضى عليها قبل ان يكون لها الوقت الكافي لتصل الى المعنى المقصود بواسطة الكلمة التي تليها ، اضف الى ذلك ان الحورات بنيت على أساس ان كل سطر يقضي على السطر الذي سبقه ، الواقع ان شخصيات بيكت لا يعرفون ماذا يفعلون؟ وأين يذهبون؟ وبماذا يفكرون؟ ماالذي سياتي به الغد؟ انهم يمثلون حالة في عالم التحول المستمر حيث لايوجد الا الشك واستحالة الوصول الى معاني محددة ، استحالة الوصول الى يقين ثيمة أساسية في مسرحيات بيكت ، اللغة علاوة على ماذكرت تحولت الى قطعة فنية مجردة لتعكس اضطراب الشخصيات وتحولت الحورات الى كلمات متراكمة فارغة من المعنى لتعكس افكار غير مترابطة ، بتعبير آخر فقدت اللغة الإنسانية خاصيتي إيحاء المعنى والدلالة لصالح لغة مبعثرة حيث وضعت الوحدات اللغوية ( morphemes)بشكل كيفي ، وباختصار انهارت اللغة وفقدت معناها لتعبر عن حالة كونية من خيبة الأمل والقلق والإحباط واللامبالاة صفات أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية ” لقد قضينا مساء امس في الحديث عن شيء غير محدد ان هذا يجري الآن لمدة نصف قرن” .بقي ان اشير ان استراغون وفلادمير استعانا بلغة تكرارية دائرية الهدف منها افراغ المتكلم من هويته وفي الحوار التالي خير دليل : استراغون : ماذا فعلنا البارحة؟ فلادمير يكرر نفس السؤال ولم نحصل على اجابة لسؤاله—– وهذا يقودنا الى استنتاج ان هدف بيكت الضمني في مسرحيته طمس الحدود بين الشعوب ، اللغة قد تشكل عائقا للتواصل بين أفراد الجنس البشري ، اضف الى ذلك انه يعتبر اللغة كوسيلة كونية للتواصل بين افراد البشر لا انها وسيلة للتواصل بين المجتمعات الإقليمية ، الأمر الذي يقودنا إلى استنتاج ان هف الكاتب هو عولمة النص المسرحي ، وتجسد ذلك بالابتعاد عن جميع قواعد ما يعرف بدراما الكلاسيكية وجعل ذلك وسيلة للعبور الى الأدب والدراما . تخلى الكاتب عن الحبكة ، الشخوص ، الدافع والفكرة الرئيسية والحوارات المحددة والتي هي من العلامات البارزة في مسرحيات (سوقكليس ، شكسبير ، جونسون ومارلو وحتى يرنادشو واليوت)لمصلحة ايجاد صور ذهنية غير مترابطة حسب مايذكر ريتشارد هرلاند في كتابه ” النظرية الأدبية من افلاطون الى بارتيز” . وهو بهذا قد اجهز على عناصر الدراما ” ليقرب البعيد ، ويجعل الغريب مالوفا” حسب تعبير وردزوورث ، وعمل على وضع تبسيط مبالغ فيه للثيمةالرئيسة وهدفه في ذلك سوق فكرة عالمية الى قراءه قائمة على حقيقة ان الحياة بمعناها الأوسع تعني الانتظار ، قتل الوقت والتشبث بامل ان تتحق في يوم ما على الأقل جزء من امانينا يقول فلادمير لأستراغون”لننتظر ونرى ماسيقول. استراغون يرد عليه من؟ فلادمير :غودو؟ لننتظر حتى نعرف بالضبط كيف نقف على قدمينا. . اصداء مسرحيات بيكت شقت طريقها في عالم الأدب وبالذات في مسرحيات هارولد بنتر ويوجين يونسكو من خلال عدد من ألأفكار الكونية التي تدور اساسا حول ادراك الأنسان لطبيعة الكون العابثة ، وامنية الأنسان الموغلة في القدم في معرفة الحقيقة ، يقول “مارتن اسلن” في كتابه ” مسرح العبث” . ” التجارب التي يسطرها بيكت في مسرحياته هي اكثر عمقا ورسوخا من كونها مجرد سيرة ذاتية” . انها تكشف عن الصفة الزائلة للكون ، وإحساس الأنسان المأساوي بعدم مقدرته على ادراك ذاته في عملية البناء والهدم التي تلازم التغير في الزمن ، وصعوبة التواصل بين الكائنات البشرية والبحث الذي لاينتهي عن الحقيقة في عالم بدا كل شيء فيه غير مؤكدا والحد الفاصل بين الحلم واليقظة في تغير دائم. يشر أسلن في المقطع أعلاه الى مسالتين هامتين : المسالة الأولى : عملية التغير الدائم للكون الذي يحيط بنا ، التغير الذي لايعرف توقفا في اعادة صياغة وتشكل الأفكار والمفاهيم في عملية بناء واعادة بناء لاتنتهي ، والثانية صعوبة التواصل بين الكائنات البشرية والبحث الدائم عن الحقيقة ، فلادمير وبوزو ، ليكي واستراغون يجسدون بشكل عجيب هذه المفاهيم خاصة اذا أخذنا أفكارهم وعلاقتهم بنظر الاعتبار . فهم يحاولون بشكل مستمر ان يتوصلا الى اتفاق بشان القضايا البسيطة التي يثيرونها من وقت لآخر ولكنهما يفشلان بشكل مأساوي ، ويحاولان كسر رتابة الزمن الذي يرزحان تحته ولم يفلحان كذلك “أحيانا أشعر أن كلّ الأشياء سواء وعندئذ أحسّ بالاضطراب “..”في وسط كل هذا لا شيء يحدث أبداً” ” إننا في الانتظار. لقد استبدّ بنا الملل “. هذا يعود بنا الى فكرة ان هذه الشخصيات في بحثها الدائم عن الحقيقة المحيرة، في توقها الى معرفة لغز “غودو” الذي لن يات ، وفي عدم قدرتها على التواصل ، تنفي عن نفسها أي صفة اجتماعية مميزة ، الى درجة تجعلنا نعتقد بانهم يمثلون كل انسان ، الوضع الساكن الذي يشير اليه استراغون في كلماته ” لا شيء يحدث، ما من إنسان يأتي أو آخر يذهب – انه لأمر رهيب”، تكرر في نهاية الفصل الأول والفصل الثاني ” : استراغون : الا سنذهب ؟ فلادمير : نعم لنذهب ( لايتحركان ) ، في الفصل الثاني يتخذ استراغون دورا آخر حيث ان فلادمير هو من يطرح السؤال . عندما ننتهي من قراءة المسرحية سنجد أن الثيمات ذاتها تعود مرّة أخرى، بنفس الألفاظ أحيانا، وأحياناً أخرى بألفاظ مقاربة، ما يجعل التكرارَ دلالة عميقة أن الحياة عبارة عن سلسلة متواصلة من التكرار الذي يشيء بالعبثيّة ولا معقولية الحياة ولا جدواها، لينتهي فصلها الأخير كذلك بما انتهى به الفصل الأول كما ذكرنا سابقاً، ولعلّنا لو حاولنا أن نبحث في فضاء النصّ وبنيته عما يؤكّد قراءتنا لاحتمالات غودو الدلاليّة، فسنجد كثيراً من المقاطع التي إن أخرجناها خارج سياقها النصيّ فستجد ثيمات العبث والتكرار، وحين نعيدها لسياقها الحواري سنجد أن سياق الحوار وسياق الجمل المخرجة خارج السياق تتضافر من أجل رسم صورة أكثر عمقاً لذات الثيمات… ” متى! متى! في يوم ما، ألا يكفيك هذا.. يوم ما يشبه يوماً أخر ”.التحليل المنطقي لعلاقة فلادمير يقودنا الى استنتاج ان خطاب بيكت المسرحي خطاب عالمي في أساليبه وطرحه للأفكار لأنه يتسامى في مضامينه ، ووسائله الفنية حدود وقيود الدراما الكلاسيكية . مسرح اللامعقول هشَّم كل البنى ألأساسية للمسرح التقليدي ووضع أُسساً جديدة ، وشخصية البطل إحدى هذه ألأُسس في أية مسرحية ( في هذا المسرح نجد ان الكاتب لا يتقيد بالمواصفات والعرف في البناء المسرحي ،فالشخصيات قد تغير سنها او جنسها وملامح شخصياتها مراراً في نفس المسرحية وقد لا يكون المكان المسرحي محدد المعالم . ولأول وهلة تظهر أحداث المسرحية كأنها سلسلة من العشوائيات التي لا تربط بينهما صلة ما ولكن يراد بهذا ألأسلوب المسرحي إظهار المفارقة بين حلم ألإنسان في الحياة وواقع الحياة نفسها ( القاريء لمسرح العبث نادراً ما يجد شخصيات متفردة محددة الملامح في إطار سياق إجتماعي تأريخي محدد ، فشخصيات هذا المسرح تقترب الى حد كبير من النمط ألإنساني الذي كان يقوم بدور البطولة في المسرحيات الدينية في العصور الوسطى وكان يسمى ببساطة ألإنسان او (Every Man ) أي رمز جميع البشر(البناء الفكري لشخصية البطل فى مسرحية صمويل بيكيت ( فى انتظار جودو ) د / عبد الغنى مرتضى) . ويعود هذا الى حقيقة ان الشخصيات في مسرحيات بيكت قد تخلت عن هويتها الفردية لصالح هوية كونية تمثل البشرية جمعاء . استراغون وفلادمير لايمثلون حالة فردية منعزلة مستقلة ، ولكن شخصيات تمثل البشرية باجمعها. اما المجموعة الثانية ( بوزو و لاكي ) فهما يمثلان السيد والعبد ، المُستغِل والمُستَغَل ، فبوزو الذي يكيل الضربات والجَلْد ل(لاكي) ويُحَمِّله مَتاعه ويأمره وعليه الطاعة وكأنه مطَية حَمل لا غير ،ويأكل العظام التي تركها له (بوزو ) بعد أن إلتهم اللحم لوحده .توحي هذه العلاقة بان معادلة (السيد-العبد) لم تتغير ، اذ مايزال السيد متمثلا ببوزو يعامل العبد بازدراء والعبد ما يزال يحاول ان يخلص نفسه من الشباك التي ألقيت عليه. هذا يذكر مرة اخرى بان هذه الشخصيات تحمل نفس صفات نظرائها من بني البشر الشيء الذي يجعل منها شخصيات كونية . يقول استراغون لبوزو” انهم لاينتمون الى هذه الأجزاء من العالم” ما معنى هذا ؟ انهم يمثلون البشرية جمعاء ، في مقطع رائع آخر من المسرحية ، يؤكد فلادمير لصديقه استراغون مشيرا الى بوزو الذي يستنجد بهم ” لقد أخبرتك ان اسمه بوزو” يرد استراغون : سنرى حالا – هابيل –هابيل ، بوزو : النجدة ، ثم يناديه : قابيل – قابيل بوزو : النجدة ، هنا يقول استراغون : انه يمثل البشرية باجمعها – ، وفي مقطع آخر يؤكد استراغون ” في هذا المكان – وفي هذه اللحظة من الزمن – نحن كل البشرية شئنا ذلك أم أبينا – لنمثل بجدارة ولو مرة صنفنا السيئ الذي سلمنا القدر القاسي إليه” .وفي كلام بوزو الى استراغون ” انتم مخلوقات بشرية بلاشك ( يضع نظاراته) بقدر مايستطيع المرء ان يرى ( يخلع نظاراته) ( ثم يطلق ضحكة هائلة) نفس المخلوقات كبوزو ! صنعت في صورة الإله. قول بوزو هذا ” هو واستراغون ينتميان الى نفس المخلوقات ” وإنهم صنعوا في صورة الإله ، لا يترك شكا بأنهم يمثلون حالة كونية ، لا حالة مستقلة قائمة لذاتها . وعلى هذا معنى كل جزء من العلاقة بين فلادمير واستراغون من جهة ، بوزو وليكي من جهة أخرى يكشف عن مصدر جديد للمعرفة حول الطبيعة الكونية لهذه الشخصيات، غايتهم أصبحت كما يقول كينث كنبمان في كتابه ” هل لوجودية بيكت جذور في فلسفة هيجل” ” وسيلة للكشف عن نوايا المؤلف” التي يلخصها فلادمير في المقطع التالي ” في هذا المكان ، في هذه اللحظة الزمنية ، نحن جميع البشرية ، شئنا ام ابينا ، لنستفد من ذلك قبل فوات الأمان ! لنمثل ولو مرة بجدارة الصنف السيئ الذي سلمنا القدر القاسي إليه ” ، المعايير التقليدية التي على أساسها تقاس مدى نجاح المسرحية تم تجاهلها لصالح أعراف وقواعد جديدة والهدف من ذلك ترويج لغة جديدة للمسرح لتصل الى أقصى بقعة في العالم “جون كلادر” في نقده لأعمال بيكت ” وصل إلى نفس الاستنتاج حين قال ” يرى نيتشة إن الإنسان يحل محل االأله وبرنادشو يرى إن الإنسان في طريقه لأن يصبح اللأله ، بينما يرى بيكت إن الخلق خطئا كونيا ولو انقرضت الكائنات ، لن يكون ذلك أمرا مأساويا ، لأنه على الأقل مؤقتا، سيضع حدا لألام البشرية ” . لابد أن نعرف ان مسرح اللامعقول انبثق كرد فعل تجاه التغيرات التي حدثة بعد الحرب العالمية الثانية ، هدفه إخراج الفرد من وجوده التقليدي وحياة الدعةو الرضا عن النفس ، بعد الحرب سادت اجواء من اللامعقولية وغياب الدين ممهدة الطريق بذلك لانهيار القيم التقليدية التي هيمنت على حياة الناس لعقود . هذه التحولات لم تؤثر فقط على أنماط وأساليب الحياة ، وإنما شملت الأنماط التقليدية من الفنون بضمنها الرواية ، الشعر والمسرح ، بعض النقاد ذهب الى حد القول بان ” مسرح العبث كان يمثل ردة فعل تجاه غياب البعد الديني من الحياة المعاصرة ” ” وينظر إليه أيضا كمحاولة لاستعادة أهمية الأسطورة والطقوس الى عصرنا وذلك عن طريق لفت انظار الأنسان الى واقعه الذي يحيط به. اراد بكيت في مسرحيته ان يسوق لنا فكرة معنى وجودنا على الأرض كمخلوقات بشرية كما يوضح ذلك بوزو بقوله ” في يوم ما ولدنا ، وفي يوم ما سنموت ، نفس اليوم ، نفس اللحظة ” ” ما ان نولد حتى ينفرج ساقينا على القبر ، يشتوهج الضوء لحظة ثم ينطفي ، ليحل الظلام مرة اخرى ، فلادمير يكرر كلمات بوزو فيما بعد ” انفراج الساقين على القبر وولادة عسيرة” . اصداء لهذه الأفكار تتردد في كل المسرحبة وبالذات عدم اليقين بالأمل في الخلاص ومصاعب وتفاهة الحياة بين الولادة والموت.وهذه اصداء لأفكاركونية شغلت افكار البشرية منذ ولادتها بغض النظر عن التطور التاريخي الذي مرت به، أي الذي شغل قكر إنسان التكنولوجيا المتقدمة كان هاجس الأنساني البدائي . وهكذا صور الأنسان في مسرح اللامعقول ضائعا منقطع الجذور في حاضر مخيف وماض لايعلم عته شيئا ومستقبل مجهول ، رؤية اللامعقول هذه تنسجم مع الكتر من الأمور المتنافرة والعصية على التفسير في حياة الإنسان وهذا هو الذي جعل الحدث في هذه المسرحيات يتأرجح بين الفعل الكوميدي والمأساوي. 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *