عندما تنهي المسبحة خازوق الحفلة قبل أن يبدأ..بقلم : يوسف الحمدان

جميل جدا ومن المهم ، أن يطرق شبابنا أبواب من سبقوهم من المخرجين والمؤلفين المسرحيين ، خاصة ذلكم الذين شكلوا وهجا مسرحيا رؤيويا فاعلا ومؤثرا ، في بيئتهم المحلية أو في الوطن العربي بشكل عام ، ومن بين هؤلاء ، الكاتب المسرحي المصري العربي المعروف ، محفوظ عبدالرحمن ، والمخرج المسرحي الكويتي المبدع صقر الرشود ، الذي تجاوزت رؤاه المسرحية الخلاقة ، حدود خليجنا العربي ، لتجد منافذها الحرة والمؤثرة ، مناخا عربيا أوسع ، وأكثر قدرة على تلقيها وانبثاثها في مختلف شرايينه الفكرية والسياسية والثقافية .
وقد تجلت رؤى الرشود في العديد من المسرحيات التي أخرجها لفرقة مسرح الخليج الكويتي ، ومن بينها ، بل وربما أهمها ، مسرحية ( حفله على الخازوق ) التي ألفها الكاتب المسرحي المبدع محفوظ عبدالرحمن ، الذي جاور الرشود في الكويت لسنوات إبداعية طويلة .
هذه المسرحية ، أغوت الكثير من الشباب المسرحيين في وطننا العربي بشكل عام ، ودفعت بعضهم للتصدي لها ، وعيا بها ، أو مغامرة على حساب ما تكتنزه من قيم فكرية وجمالية رفيعة .
ومن هذا المنطلق ، أجد أن هذا التوجه الشبابي ، مهما شابه من إشكالات ومشكلات في الرؤية الفكرية والإخراجية لهذه المسرحية ، إلا أن الجميل في الأمر، هو الاجتهاد في التصدي لها ، والذي يفتح بوابات أخرى للحوار معها من منطلق الذاكرة السبعينية ، أو من منطلق استحضار هذه الذاكرة السبعينية في أزمنة ألفية جديدة ومختلفة ومغايرة .
ومن بين هؤلاء الشباب الذين تبنوا مسئولية التصدي لمسرحية ( حفله على الخازوق ) ، المخرج الكويتي الشاب أحمد العوضي ، الذي قدمها لفرقة المسرح الشعبي الكويتية على خشبة مسرح الصالة الثقافية بالبحرين ضمن مهرجان أوال المسرحي العاشر، والذي استبدل هذا العنوان بعنوان آخر ، وهو ( خازوق في الحفله ) ، وبطبيعة الحال ، العنوان الجديد للعوضي يقترح علينا قراءة أخرى للمسرحية الأصل ، والتي تختزل فحواها في الفساد السياسي الذي آل بالأمة العربية ، وخاصة إبان النكسة ، إلى أردأ الأحوال ، وقد اتكأ محفوظ والرشود في رؤيتهما لهذه المسرحية ، على تعرية الواقع السياسي والاجتماعي ، إمعانا في كشف الزيف والكذبة الكبرى التي عاشتها الشعوب بوصف أنظمتها قوة قادرة على التصدي لكل ما من شأنه انتهاك سياجها الفولاذي ، فإذا هي في حقيقة الأمر هشة ومتردية ، وكل من كان يعمل على الحفاظ على قوة هذا السياج ، كان جزءا رئيسا من المؤامرة على انتهاكه .
إنها الخيبة في أسوأ حالاتها السياسية ، حيث لم تصحو الشعوب إلا على خازوق نصبته أنظمتها السياسية الفاسدة والمهترئة ، لتكافئهم به في حفلة الكشف عن حقيقة أمرهم العلقمية .
إذن هي حفلة على الخازوق ، فماذا يعني يا ترى استبدال العوضي هذا العنوان بـ ( خازوق في الحفله ) ؟ ألا يعد هذا العنوان نتائجيا في فحواه ومعناه ومبناه ؟ وألا يغاير بذلك مفارقة الفحوى في العنوان الأصلي للمسرحية ؟ وألا يعد هذا الخازوق استباقا للحفل الذي سيتعرى فيه الوضع العربي الفاسد برمته ؟ وهل نحتاج بعدها إلى حفلة مادام الخازوق أعلن حضوره فيها قبل أن تبدأ ؟ وإذا وقفنا على العنوان الأصلي ، سنلحظ المفارقة الكبرى في المسرحية ، حيث تتكيء الحفلة كلها على خازوق ، أما ) خازوق في الحفلة ) ، فلا يحيلنا إلا إلى محاولة غير مدروسة لتحجيم الحفلة وتضخيم وتفخيم وتهويل الخازوق ، حيث لا مجال للكشف أو التعرية ، طالما كل شيء قد اتضح تماما من الوهلة الأولى ، وهنا يبدو العنوان ، غير جدلي ودرامي إذا ما قورن بالعنوان الأصلي للمسرحية ، بل هو عنوان كما أسلفت ، حاضر ومعلن بقوة نتائجيته الفاقعة التي لا تفسح مجالا للحوار مع الخيوط الدقيقة للحفلة .
وتبرز هذه النتائجية الفاقعة ، كما يبدو في العرض كله ، حيث تتأطر في البداية عبر مسبحة كبيرة ، يرمز بها المخرج كما اتضح ، إلى تناسج حبات الأمة العربية ، وانفراط عقد هذه الحبات المسبحية في نهاية العرض ، أي انهيار قيم هذه الأمة كلها ، معضدا إياها بخطاب إنشائي صوتي نصائحي مسجل ، قال في فحواه كل شيء قبل أن نتتبع لحظة نمو الفعل الأول للعرض في هذه المسرحية .
وهنا يقع المخرج في إشكالية أخرى ، وهو أن لهذه الأيقونة ( المسبحة ) ، أيضا دلالاتها الدينية ، والتي على ضوئها تحدد قراءة المخرج للعرض المسرحي ، والتي ربما تأتي بالعكس تماما من رؤية الرشود للعرض ، حيث كان الجدل ينمو في المسرحية دون أن يكشف ، حتى اللحظة الأخيرة التي يكون المتلقي فيها جزءا من التجربة وليس متفرجا سلبيا عليها .
وهنا يكمن الفرق بين الرؤية والمسبحة بوصفها شعارا التباسيا للعرض ، ولعل أكثر الأمور التباسا في هذا العرض ، هو استحضار العوضي لشخصية رجل الدين الشهواني الذي يعد جزءا لا يتجزأ من هذه المسبحة من الناحية الأيقونية الدينية ، وكما لو أن بقية الشخصيات الأخرى التي تمارس الفساد السياسي في المجتمع ، بريئة من كل ما يحدث في هذا المجتمع ، وإن كانت معضدة لهذا الرجل أو لهذه الشخصية الدينية النمطية التكوين والمسار .
أما على الصعيد الفني ، فإن الشخصيات قد أخذت مسارا دراميا إيقاعيا موحدا في أدائها أو متشابها إلى حد كبير ، الأمر الذي يجعل من هذه الشخصيات كتلة واحدة ، لا تباين بينها من ناحية الهوية أو السلوك أو المرامي والغايات ، أداء لهاثي سريع ومتوتر ، ينم عن لياقة رياضية عالية لمن يؤديه ، ولكن لا يأخذنا نحو الحالة المسرحية التي تدفعنا لتأمل كيفية نموها وتحديد مساراتها ، وكما لو أنها كتلة واحدة في صوت واحد لمخرج اختزل كل ما فيه في شخصياته التي قدمها للعرض ، نستثني من ذلك الأداء اللهاثي الضجيجي ، الفنان نصار النصار صاحب المسبحة ، والسجين الذي لم نعرف بالضبط ما هي نهايته في هذا العرض .
أما على المستوى السينوغرافي ، فإنني أرى أن هذه السلالم العمودية المعدنية أو ( السكلية ) ، لم تضف جديدا إلى ما أضافه الرشود في صناديقه المتدرجة الإرتفاع والمستويات ، ولم تمنحنا دلالات أخرى متجددة في تكوينها ، بل ظلت ثابتة في عمق المسرح ، ليختتم المخرج العرض بانفراط المسبحة التي لا تحتاج إلى انفراط طالما التعرية للفساد لم يحسم أمرها بعد ، وبخطاب وعظي حي ومسجل ، يغاير تماما ما ينبغي أن تذهب إليه اللعبة في حالتها الجدلية مع المتلقي .
كنا بانتظار قراءة جديدة ، تعمق من الجدل القائم والذي لم ينته بعد حول الفساد السياسي في أنظمتنا العربية ، ولكننا على أمل أن تعقب هذه التجربة ، قراءة جديدة لما تم عرضه ، قد تدعونا لتأمل واقعنا مجددا من حرص ينم على أن للشباب اجتهاداتهم التي  لا تتوقف بانتهاء العرض

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *