عندما تفقد فرنسا ذاكرتها وتنسى جرائمها / أبو بكر العيادي

“تياروي” عرض يكشف الوجه المظلم للاستعمار الفرنسي استوحته الكاتبة والمخرجة الرومانية ألكسندرا باديا.

على خشبة مسرح “الهضبة” بباريس، يتواصل عرض “تياروي”، الجزء الأول من ثلاثية بعنوان “نقاط اللاعودة” للكاتبة والمخرجة ألسكندرا باديا، التي تحاول في مشروعها المسرحي هذا أن تسلط الضوء على مناطق الظل في تاريخ فرنسا الحديث.

بعد “اقتفاء الأثر” (التي سبق أن قدمناه هنا)، يحتضن مسرح “الهضبة” بباريس عملا آخر لألكسندرا باديا، بعنوان “نقاط اللاعودة”، وقد استوحته الكاتبة والمخرجة الرومانية يوم أن سلمها ضابط الحالة المدنية شهادة الجنسية الفرنسية قائلا “بداية من الآن، ينبغي تحمّل تاريخ هذا البلد بمراحل عظمته ومناطق الظل فيه”.

فأما العظمة، فهي معلومة، تحفل بها كتب التاريخ الرسمي، وأما مناطق الظل، فمسكوت عنها، لا تنتأ منها غير نتف متفرقة هنا وهناك، في المجالس الخاصة، والسهرات العائلية، عن جروح الذاكرة التي لا تندمل، عن التخاذل أمام الزحف النازي، والعِمالة، والكولونيالية..

فاختارت أن تبحث بنفسها عمّا لا يجرؤ الفرنسيون على كشفه، عمّا لا يدرج في المقررات المدرسية، فوقعت على مجزرة منسية، ارتكبها جيش الاحتلال الفرنسي ضد من ساعده على محاربة النازيين، وتكتّم عليها سنين طويلة، ولم ينهض من المؤرخين سوى أرميل مابون لإنارة الحقيقة، فقد قضت هذه المؤرخة جانبا من حياتها تفتش في بطون الأرشيف عن الحقيقة المغيبة، لتعيد إلى الضحايا كرامتهم وتحفظ ذكراهم.

المجزرة وقعت في الفاتح من ديسمبر عام 1944 في معسكر تياروي (عنوان شريط لعصمان سمباي عام 1987) قرب داكار، حين أقدم الجيش الفرنسي على قتل مجندين سنغاليين كانوا قد حاربوا القوات النازية تحت الزي الفرنسي، بعضهم سُجن، وبعضهم الآخر التحق بصفوف المقاومة.

ولما شارفت الحرب على نهايتها، تم تسريحهم وإعادتهم إلى بلدهم مع وعد بتسليمهم جراياتهم، ولما طالبوا بحقوقهم، قابلهم الفرنسيون بالرصاص، وادعوا أنهم تصدوا لتمرد قتل خلاله ثلاثون شخصا، ولم يعد أحد إلى ذكر تلك المجزر الفظيعة، إلى أن زار الرئيس الأسبق فرنسوا هولاند السنغال في خريف 2012، فاعترف بمسؤولية جيش الاستعمار آنئذ، ووعد برد الاعتبار إلى القتلى الخمسة والثلاثين حسب زعمه، ولكن أرميل مابون تؤكد أن عدد الضحايا يفوق الثلاثمئة، دفنوا كلهم في مقابر جماعية، بلا شواهد ولا أسماء.

الكاتبة – المخرجة تقتفي في مسرحيتها مسار حيوات هزتها الفترات الحالكة، وتظهر كيف تنتقل الجروح من جيل إلى جيل

وهذه المجزرة هي جزء من النقاط السوداء في التاريخ الفرنسي، تلك التي يفضل الساسة إخفاءها بدل تدريسها، خشية الإساءة إلى السردية الوطنية، وقد انطلقت منها ألكسندرا باديا في صياغة “تياروي” الجزء الأول من ثلاثيتها المسرحية “نقاط اللاعودة”، من خلال شخصية عمار، ابن أحد المقاتلين السنغاليين الذين تم اغتيالهم، لتستكشف الآثار النفسية والجينيالوجية لتلك الصدمة، وإمكانية عيش حاضر مسكون على الدوام بماض أليم، ومحاولة بناء الذات بإرث مترجرج، أشبه برمال متحركة.

فعمار، من فرط هوسه بمعرفة الحقيقة، هجر زوجته وحبيبته نينا، وأهمل ابنه بيرم، إذ لم يخصّص له من وقته ورعايته ما يستلزمه واجب الأب نحو ابنه، هو أيضا لم يعرف عن والده سوى أنه اقتيد عنوة عام 1940 في صفوف الجيش الفرنسي، ليقاتل النازيين على التراب الفرنسي، وانتهت الحرب ولم يعد، ولم يجد عمار أحدا كي يخبره بما حاق بأبيه.

وما ذلك سوى منبع تاريخ يتداول من جيل إلى جيل حتى يوم الناس هذا، عن فرنسا التي فقدت ذاكرتها، ونسيت جرائمها، وتنكرت لمن بذلوا سواعدهم ودماءهم وأرواحهم للذود عنها، وأخفت تلك المجزرة تحت بساط سميك من الصمت المريب، وما عادت ترغب في تذكرها، ولكن المسرح كفن من فنون الذاكرة، ينهض لهتك الستر وفضح المسكوت عنه.

لا تمضي المسرحية في نسق خطي، بل يتناوب فيها الماضي والحاضر تناوبا تحضر فيه شخصيتان أخريان لهما علاقة بالمأساة، وهما نورا، الصحافية الجزائرية الأصل التي سبق أن زارت الجزائر بحثا عن جدّ لم تعرفه، قبل أن يعهد إليها بإعداد حصة إذاعية عن تلك الواقعة المؤلمة، وريجيس أستاذ اللغة الفرنسية، الذي اكتشف بعد وفاة والده يوميات يروي فيها الأب الفقيد واقعة تياروي كواحدة من المعارك التي خاضها في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحقبة الاستعمارية.

فالكاتبة- المخرجة تقتفي، هنا أيضا، مسار حيوات هزتها تلك الفترات الحالكة، وتحاول أن تظهر كيف تنتقل الجروح من جيل إلى جيل، وتجعل اللامرئي مرئيا، عبر سبر تيار الوعي الباطني لدى أبطال مسرحيتها، أي أنها تشتغل على الفضاء الخيالي، والتذكر، والتهويمات، وتقتحم المناطق التي يمكن أن تتجلى فيها دواخل الشخصيات، والطريف أنها اختارت ممثلين مثلها، من ذوي الجنسيتين.

تقول ألكسندرا باديا “حاولت أن أقتحم المناطق الغائمة في ماضينا، من خلال حكايات حميمة، أردت أن أعطي الكلمة لمن لا صوت لهم، ولا حضور في الكتب المدرسية، أولئك الذين تفتقد السردية الوطنية إلى سردياتهم”.

ولئن كان النص شافيا من الناحية التاريخية، منبها ومثيرا من الناحية الثقافية، فإنه لم يتجاوز حدود الخشبة، فالممثلون لم يفلحوا في إعطائه ما يكفي من الإيقاع والتوهج والقوة لشد الجمهور، والسبب أدبية النص المتعالية، وكثرة المونولوغات التي تبعث على الملل.

__________________

المصدر / العرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *