«عنبرة» وجه المرأة العربيّة الثائرة مسرحياً

منذ بدء تفتّحها على الحياة وشؤونها، بدأت الكاتبة اللبنانيّة عنبرة سلام الخالدي (1897- 1986) تلاحظ الظلم اللاحق بالمرأة. بدأت تعاين مسائل الحجاب والزواج والعلم والعادات الاجتماعيّة التي قد تعترض وجود المرأة وحرّيتها، فهي نفسها التي ارتدت «الفيشة» (النقاب باللهجة البيروتيّة) هرباً من كلام الناس، قالت: «الفيشة تحجب الألوان والأشكال مش بس عيوني». وكأنّ «الفيشة» تحجب الحياة بأسرها عن المرأة القابعة خلفها بصمت واختفاء. وفي تحيّة منها الى نضال عنبرة سلام الخالدي، المناضلة في قضيّة تعليم المرأة، قدّمت الكاتبة والمخرجة عليّة الخالدي (حفيدة عنبرة سلام الخالدي) مسرحيّة «عنبرة»، عن المرأة التي تربّت في بيت من أعرق بيوتات بيروت (بيت سلام)، محاولةً قدر المستطاع تحسين حال المرأة وتحريرها من ضغوطات المجتمع. وتأتي المسرحية بعد صدور كتاب عنوانه «جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين» (عن منشورات الجمل)، وهو كتاب يجمع إلى المذكّرات المسرودة وصفاً جميلاً للنصف الأوّل من القرن العشرين. فتقول عنبرة في بداية مذكّراتها: «أحبّ قبل أن أبدأ هذه الجولة من ذكرياتي، أن أوضح أنّ ما أرمي إليه فيها ليس سرد يوميّات أو تأريخ سيرة لعائلتي أو لحياتي الخاصّة، كما يفعل مؤرّخو ما يُسمّى السيرة الذاتيّة، بل قد يكون تأريخاً لمعالم عصر عشته بذاتي، وصورة حيّة لحوادث وأحداث اجتماعيّة وسياسيّة شهدتها بنفسي». (ص 13)

ترسم مسرحيّة «عنبرة» (تُعرض حالياً على مسرح بابل- بيروت) الخطوط العريضة لحياة هذه المناضلة من بدايتها حتى سنّ الثلاثين تقريباً، أي الوقت الذي ألقت فيه خطبة وهي مكشوفة الوجه. تدور الأحداث في بيت سلام، ويتابع الجمهور تطوّر شخصيّة عنبرة وأهمّ الأحداث التي صقلت شخصيّتها وجعلتها ما غدت عليه لاحقاً. وهذه الأحداث تأتي مفصّلة بلغة جميلة صحيحة متماسكة في كتاب مذكّرات عنبرة الذي يبلغ حوالى المئتين وثلاثين صفحة.

الكتاب والمسرحيّة سيرتان لنضال عنبرة في الدفاع عن المرأة وحقّها في التعلّم والتحرّر. فتظهر على المسرح عنبرة وعائلتها وصديقاتها وحبيبها الأوّل المناضل السياسيّ والصحافيّ الذي حكم بإعدامه جمال باشا الجزّار ورئيس جريدة «المفيد»، عبد الغني العريسي.

قد يكون مفهوم «الحبيب» شبه مقبول في حياتنا اليوم، أمّا أن تكون الفتاة في بدايات القرن العشرين على اتّصال بشاب لا يمتّ إليها بصلة قرابة، فهو فضيحة وأمر غير مقبول أبداً. من هنا بوادر التمرّد الاجتماعيّ والعلميّ والفكريّ، والعاطفيّ حتّى.

عنبرة، كاتبة لبنانيّة متحدّرة من عائلة سلام المعروفة في الأوساط الاجتماعيّة البيروتيّة بمحافظتها وتمسّكها بأوامر الدين، فوالدها سليم سلام (أبو علي) من أبرز رجالات السياسة في عصره، شارك في مؤتمر باريس الذي عُقد العام 1913 قبل الحرب العالميّة الأولى للمطالبة بشيء من حقوق العرب المسحوقين تحت نير الظلم العثماني وحكم السلطان المستبدّ عبد الحميد الثاني. وكانت له مكانته الاجتماعيّة وصداقاته المتينة مع أكبر العائلات البيروتيّة من المسيحيّين والمسلمين. ووالدتها هي الأخرى امرأة متعلّمة متحدّرة من عائلة تتّصف بالعراقة والرفعة الاجتماعيّة، حرصت منذ صغرها على تعليم بناتها وتثقيفهنّ بمعزل من رأي المجتمع المحيط. واللافت أنّ عنبرة ليست الوحيدة من أبناء بيت سلام التي برزت على الصعيد السياسيّ والاجتماعيّ، فشقيقها محمّد برع أيضاً على صعيد الخدمات العامّة والخاصّة واهتمّ بشؤون مدرسة المقاصد ردحاً من الزمن، وبرز كذلك شقيقها صائب سلام الذي أصبح في ما بعد نائباً عن بيروت ثمّ وزيراً فرئيساً للوزراء مرّات عدة، وهو والد الرئيس تمام سلام المكلّف حالياً برئاسة مجلس الوزراء.

أظهرت مسرحيّة «عنبرة» التي تسرد أبرز محطّات حياة البطلة، وعبر الشخصيّات التي تظهر على المسرح أو تلك التي نسمع أصواتها فقط، أبرزَ المعالم الاجتماعيّة بدايات القرن العشرين: قصص زواج الفتاة وهي في سنّ صغيرة لرجل يكبرها سنّاً، أو لتسديد دين على الوالد، أو لـ «سترها»، أو لغيرها من الأسباب غير الإنسانيّة، تعرّض الفتاة للضغوطات إن أرادت إكمال علمها، وتعرّض عائلة الفتاة التي تريد التعلّم إلى الانتقاد والتعيير، وغيرها من المشاهد الاجتماعيّة التي شكّلت الواقع في النصف الأوّل من القرن العشرين ولا تزال سائدة حتّى اليوم في عدد من المجتمعات.

لقد ترك الأديب والمصلح الاجتماعي المصريّ قاسم أمين (1863- 1908) بصماته الصريحة في تاريخ المرأة العربيّة، شأنه في ذلك شأن كبار المدافعين عن حقوق المرأة من نساء ورجال. وجوه أخرى كثيرة طالبت أيضاً بضرورة تعليم المرأة وتثقيفها ومنحها الفرصة للتعلّم والخروج إلى أنوار الحياة، وثمة شخصيات كثيرة طالبت وما زالت تطالب بحقوق المرأة العربيّة، لكنّ قضيّة عنبرة تبقى درساً حقيقياً في التمرّد والمعرفة والتعلّم من أجل إخراج المرأة من الظلمة والظلم اللذين تقبع خلف قضبانهما منذ قرون.

 

كاتيا الطويل

http://www.alhayat.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *