علم العلامات في عالم المسرح

أعجبتني مقولة وما زلت مقتنعاً بها، وهي كلمة وردت في مفتتح كتاب نقدي، يذكر فيها الكاتب حرصه الشديد على دقة وسهولة اللغة مهما كلفه ذلك من جهد وعناء، وبرر هذا حتى لا تصبح الصياغة عقبة فى طريق الفهم كما يحدث فى بعض الدراسات النقدية الحديثة بسيطة المحتوى معقدة الصياغة.

وهو في قوله محقًا حيث إن استخدام المصطلحات النقدية يجب أن يكون موظفاً في مكانها الصحيح من الدراسة الأدبية، وبحيث تنير الطريق إلي الوعى الثقافى العام، ولا تحقق عكس مقصودها فتقف عقبة في التعاطي مع مثل هذه الأطروحات، والتي قد لا يستوعبها المثقف العام بسهولة، إن لغة النقد الأدبي العلمية بهذا الطرح الصعب يجعل منها في نظر البعض لغة متعالية علي القراء، حيث تصل رسالة سلبية لعقولهم وتجتاح قلوبهم، فيفسرون هذا التعقيد أنه بمثابة إشهار تلك الصخور من كتل الكلام المبهم، فلا صوت يعلو علي صوت المتعالى بالعلم، فلا يقترب أحد من منطقة نفوذه، وإذا كان متحدثاً أشاع إرهاباً فكرياً لدي مستمعيه، حيث يطلق صخوره النقضية مسننة بمصطلحات مكثقة، مهاجمًا من يشاء حتي دون أن يطالع النص المنقود ذاته، كما نجد في بعض الحلقات النقاشية، بينما حقيقة العلم في ذات صاحبه يكون سمته التواضع ومعاونة الغير، والإشادة بفضائل الآخر، وانكار الذات.

والحقيقة أن بعض الكتاب في النقد الأدبي لا يقصدون تلك الرسائل السلبية، ولكن عدم تبسيط اللغة النقدية، وكثافة المصطلحات، وصعوبة وتعقيد المعني، وعدم تعبيد الطريق للفهم البسيط للأمور يؤدي إلي سوء الظن وفقدان الصلة بين الكاتب في هذا المجال والقارئ.

دفعني لتلك الكتابة أني قرأت في علم العلامات فوجدت بعض الكتابات شديدة الغموض والعسر، بينما الأمر أبسط من ذلك بكثير، ومن الكتابات التي حاولت تقديم شروحاً لهذا العلم كتابات الناقد “عصام الدين أبو العلا”، خاصة كتابه “مدخل إلى علم العلامات في اللغة والمسرح” من مطبوعات الهيئة المصرية العامة للكتاب، وجاءت كتاباته للتركيز على أسس هذا العلم في مفهوم من قاموا بتأسيسه، وهما العالم السويسرى “فرديناند سوسير”، والفيلسوف الأميركى “تشارلز ساندرس بيرس”، ونعجب حين نطالع أن هذا العلم تم تأسيسه في العقد الأول من القرن العشرين في لغتين مختلفتين، اللغة الفرنسية بقلم سوسير (1857 – 1913)، واللغة الإنجليزية بقلم بيرس (1839 – 1914).

وقال الناقد إنه اتجه لدراسة العلم في إنتاج الرائدين بسبب أنه بعد تأسيسه بدأ الدارسون بالاهتمام به حتى الآن، لكن تلك الدراسات اتسمت بالغموض وتداخل المفاهيم فيما أنتجوه من مصطلحات فنية، فقرر أن يعود إلى الأصل. وهنا دلالة مهمة إذا رأى هذا التعقيد الناقد المتخصص، فما بالنا بالمثقف العادي، مسكين فعلًا القارئ في رحاب هذه الأحاجي والألغاز!

وببساطة “العلامة” لدى سوسير هي الكل الذي يتكون من الدال والمدلول معاً، بمعنى أن العلامة تتشكل من (الدال / المدلول)، وبإجمال العلامة مقارنة شيء باسم لهذا الشي، وأنه قبل سوسير كان الدال يسمي صورة سمعية، والمدلول كان يسمى المفهوم، وقال إن اللغة مؤسسة اجتماعية، وأن هذه الرابطة بين الدوال والمدلولات هى ما تواضع عليه أفراد المجتمع. أما بيرس فقام بتطوير آخر بعدد من التصنيفات للعلامات على أسس متنوعة، لكنه أضاف أيضاً فكرة الركيزة وهى الرابط بين الدال (سماها الموضوعة) والمدلول (أطلق عليه المفسرة)، يعني العلامة لدي سوسير عنصرين فقط (الدال / المدلول)، وعند بيرس 3 عناصر (الدال “الموضوعة” / الركيزة “رابط من وجهة ما وبصفة ما” / المدلول “المفسرة”)، وما زال الأمر صعبًا لكن مع المتابعة نجد أن بيرس صنف العلامات حسب طبيعة الركيزة إلى ثلاثة أنواع تالية من الركائز: (وتأمل معى بساطة الأمثلة).

أولًا: “الإيقون”: الركيزة هي التماثل بين الدال والمدلول، وهي ركيزة منطقية، مثال: صورة الفتاة المرسومة على أماكن خاصة فقط بالنساء، فالفتاة هنا تساوي صورتها أو تماثلها.

ثانيًا: “المؤشر”: الركيزة هي الإحالة إلى المدلول عبر الدال، وهي ركيزة منطقية، مثال: العلامات الخاصة بالطرق.

ثالثًا: “الرمز”: الركيزة هنا عرفية أي يتواضع عليها أفراد المجتمع (أي ممكن أن تكون منطقية أو غير منطقية)، مثال: صورة الميزان وتحتها عبارة (العدل أساس الملك)، الركيزة هنا تساوي كفتي الميزان، والاشتراك أو وجهة الركيزة هو مبدأ المساواة، وتذكرت لدى قراءة هذا المثال شعر للعقاد:

إنا نريد اذا ما الظلم حاق بنا عدل الاناسي لا عدل الموازين

عدل الموازين ظلم حين تنصبها على المساواة بين الحر والدون

ما فرقت كفة الميزان أو عدلت بين الحلي و أحجار الطواحين

أما عن علم العلامات في المسرح، فيعتمد على ما يسمى مراوغة العلامة او انشطارها، وهو ما قاله سوسير عن اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول “وهي ما أشرنا له سابقاً حول ان تلك العلاقة تكون في سياق مجتمعى ما، أي يتواضع عليها أفراد المجتمع”، ببساطة العلامة خاضعة لوجهات النظر وحسب اتفاق الناس، لذلك ببساطة أيضاً هناك فرق بين النص المسرحى والنص الدرامي، والنص الدرامي هو النص المسرحى معروضاً على خشبة المسرح، بين قوسين (النص الدرامى لا حياة له إلا علي خشبة المسرح)، فالمسرح أبو الفنون والعرض المسرحى هو جماع تفاصيل التصور الفني النهائي.

يقول الناقد عصام الدين أبو العلا: “.. ذلك لأن ثمة نصوصاً – وهى الغالبة – كتبها أصحابها خصيصاً للمسرح، وفيها تضحى العلامات المسرحية موضع (…) الفعل، أما تلك المسرحيات التي يكتبها أصحابها للقراءة بخاصة فإنه من الخطر أن نعتبرها مشروعاً للعرض، إذ أنها عمل مكتمل لا نقيصة فيه”.

وأرى أن القيمة الأدبية للنص المكتوب هي الأصل، وأن المسرحية إذا لم يتم عرضها رغم أنها مكتوبة خصيصاً للمسرح، ماثلت المسرحية المكتوبة للقراءة فقط، وتظل العلامات فيها موضع للقول فقط.

يقول الناقد عصام الدين أبو العلا: “العرض المسرحي هو موضوع دراسة العلامات المسرحية الشاملة”. ويظل لتبسيط اللغة النقدية أهمية ثقافية معتبرة لأطراف عملية الكتابة من قراء ونقاد ومبدعين.

بقلم: خالد جودة أحمد

http://www.middle-east-online.com/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *