صقر الرشود.. رجل التضحيات الذي أحبه الجميع

689b7592-177f-4c83-8025-d427f14f560e

أينما يَممت وجهك في عالمنا العربي الكبير اليوم شطر المشرق والمغرب، ورغم مرور سنوات طويلة على رحيله المباغت عن دنيانا الفانية وجدتَ اسمه الخالد محفوراً في ذاكرة المثقفين الأوفياء؛ من فنانين وأدباء وغيرهم من إنت.ليجنسيا مؤثرة، كواحدٍ من أهم رموز الإبداع في الوطن العربي، ممن ينتمون بوستالوجيا إلى الزمن الجميل، الذي نستذكر أطلاله بشغفٍ عارم في كل تظاهرةٍ مسرحية تقام هنا أو هناك.
إنه صقر الرشود، الذي لا يحتاج اسمه إلى تعريف أو ألقاب، فابداعه المتوقد بمشاعل النجاح قد سبقه في تقديمه كعرابٍ لأبي الفنون وواحدٍ من رواد نهضتنا الفنية المسرحية في الكويت والخليج والوطن العربي.
فهو فنان متعدد المواهب بكل معنى الكلمة، وربما كان من الإنصاف وصفه بالفنان الشامل من خلال ممارسته لكثير من الأجناس الفنية؛ بدءاً بالكتابة ومروراً بالتمثيل وانتهاءً بالإخراج، هذا على صعيد المسرح فقط، أما في التلفزيون فقد شارك بالظهور ممثلاً لافتاً، وبالتأليف والإشراف وكذلك الإخراج الذي يُتقنه بحرفنة، بالإضافة إلى حضوره كنجم إعلامي بارز لطالما لفت الأنظار عبر تقديمه برامج حوارية كانت وما زالت تُعتبر من النوادر النفيسة في أرشيف وزارة الإعلام الكويتية، خاصة تلك الحلقة التي استضاف فيها الشاعر السوري العملاق الراحل نزار قباني، وكذلك لقاءه الإذاعي بالفنان والموسيقار الكويتي الكبير الراحل عوض دوخي.
كما أنه أديب موهوب أيضاً، فلقد كان شاعراً فذاً وأتقن كتابة القصة القصيرة في مرحلةٍ مبكرة من عمره، وله اسهامات ناضجة ولافتة استوقفت كثيرا من النقاد في هذين الحقلين الأدبيين.
والحديث عن تجربة المخرج المسرحي الكبير الراحل صقر الرشود ذو شجون، وربما لا يتسع المكان هنا -في هذه المقالة القصيرة- للخوض في تفاصيلها المزدانة بالإبداع، وحيث دأب كثير من النقاد والأكاديميين المتخصصين في مجال الدراسات المسرحية على تناولها مشكورين بين الفينة والأخرى، ولذلك حرصتُ أن يقتصر سردي هنا على ثيمة التضحية بمفهومها الإنساني في شخصية الرشود وأثرها في نتاجه المسرحي الإبداعي.
ربما كانت التضحية صفة ملازمة لشخصية الفنان المبدع صقر الرشود منذ نعومة أظفاره، فهو الذي اختار المجيء إلى بلده الكويت كشابٍ يافع، وحيداً تاركاً أسرته المقيمة في المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية، بعد أن رفض والده فكرة القدوم معه إلى أرض الوطن آنذاك.
ولم يكن سهلاً لفتى بعمر الرشود حينها هجرَ دفء العائلة وفقدَ جلساتها الحميمة التي يحرص كل من كان في سنه على التنعُم بمغرياتها الحياتية وبلحظاتها الثمينة الآسرة التي تكاد ترسم ملامح شخصية الفرد خاصة في فترة طفولته وشبابه.
فأياً كان الحكم على قراره المفصلي بالمغادرة من السعودية إلى الكويت مثار جدل في أوساط أهله وجماعته وقتها، فإن حدس المراهق الرشود ربما أسهم باشعال جذوة التمرد في داخله باكراً والتي يحركها بلا شك طموح حالم بغدٍ مشرق كان ينتظره في نهاية المطاف.
مثلما كانت التضحية الثانية أكثر جرأة من سابقتها، يوم أن قرر الرشود بجسارة دخول دهاليز عالم الفن وخوض مغامرته ممثلا، وكلنا نعرف تلك النظرة الدونية المغلوطة التي يضمرها كثير من المحافظين اتجاه كل من يعمل في حقله بازدراء حينها، حيث كانت الحركة الفنية في الكويت ببداياتها، خاصة لشاب ينحدر من أسرة نجدية كريمة محافظة ومعروفة بانتسابها إلى قبيلة الفضول العريقة، فلم يكن الأمر يسيراً ومتاحاً بصورة أفضل، كما نظن اليوم، إذ أصبح الفن صناعة قائمة بذاتها وله مؤسساته الأكاديمية التي ترفد أروقته المشرعة أبوابها بالمؤهلين من متخصصين في مجالاته المختلفة كافة.
والمتابع لمسيرة الرشود الإبداعية، وتحديداً في تجربته المسرحية، يلاحظ أثر مثل هذه التضحية وربما كانت نابعة من معاناة ذاتية في شخصيته كمؤلف ومخرج، من خلال تصديه المبكر لكتابة مسرحية «تقاليد» عام 1960، وهو أول نص مسرحي في تاريخ المسرح الكويتي، بعد أن كانت الأعمال تقدم ارتجالاً على خشبته، وقد جاءت تلك المسرحية كصرخة ثائرة في وجه التقاليد والعادات والأعراف التي كانت سائدة كتابوهات في المجتمع آنذاك.
وتأتي التضحية الثالثة باقتناص جزء من وقته العائلي الثمين كعريسٍ شاب ووالد لأبناء وبنات صغار، من أجل اتمام مهمته الإبداعية على أكمل وجه، فهو من المبدعين القلائل المهمومين والحريصين على اتقان عملهم، ويبدو ذلك جلياً من خلال ردود الأفعال الإيجابية التي حصدها طوال مسيرته المسرحية، ونال عنها جوائز قيمة ذات يوم كعربون تقدير وإشادة بدوره الكبير كمخرج متمكن من أدواته دائماً، وهذه الأصداء الطيبة ما كان لها أن تكون لولا الجهد المضني الذي كان يبذله مع كل عملٍ جديد.
وطبعاً كانت ضريبته غالية، خاصة فيما يتعلق بمشاغله الأسرية وشؤونه العائلية كزوج وأب وأخ وعم وخال وغيره. ولعله كان يعوض مثل هذا التقصير غير المقصود -إن جاز التعبير- والذي تتطلبه حنكته كمبدع استثنائي بحرصه الشديد على اصطحاب بعض أبنائه وبناته الصغار معه إلى خشبة المسرح أثناء البروفات والتحضير لأي مسرحية، ملاطفاً إياهم بودٍ ودعابة وموفراً لهم أجواء اللهو والمرح في فترات الاستراحة.
وفي هذا السياق العائلي نفسه الذي حرص المبدع الرشود أن يحافظ على أُلفته -قدر الإمكان- بتوفير الجو المناسب لأسرته الصغيرة حتى لا يحرمها إبداعه من التمتع باللحظات الحميمة الجميلة الدافئة، كسائر الأسر الأخرى في كل مكان، كان صقر على موعد مع التضحية الرابعة التي حملت بين طياتها فصلاً تراجيدياً تمثل بفقدانه ابنه الصغير (فراس) الذي توفي -رحمه الله- عام 1975 إثر عارضٍ صحي ألمّ به وهو بعمر الرابعة، وصادف يوم دفنه سفر فرقته للتحضير لتقديم عرض مسرحيته الشهيرة «علي جناح التبريزي وتابعه قفة» ضمن فعاليات مهرجان دمشق المسرحي، حيث كانت الاستعدادات على قدمٍ وساق هناك، فلقد أصر الرشود على اللحاق بطاقم المسرحية في اليوم التالي، حاملاً حزنه الكبير كأبٍ مفجوع للتو بفقدان فلذة كبده معه في قلبه المكلوم بحسرة الرحيل من الكويت إلى سوريا، فقط ليشارك زملاءه بحضوره المحبب والذي يبعث في نفوسهم الثقة دائماً، وكان أن قدر المشاركون في العمل هذه التضحية النادرة وثمنوها من فنانٍ ومخرج مخلص بحجمه، فانعكس أثره إيجاباً على عملهم كممثلين فأجادوا أداءهم على أكمل وجه، وكان النجاح حليفهم ليظفروا جميعاً بالفوز بجائزة المهرجان وقتها، محققين نصراً فنياً مسرحياً لبلدهم الكويت ويحصدوا جائزة المهرجان بجدارة.
وأخيراً وليس آخراً بالطبع في سلسلة تضحياته العظيمة المتلاحقة تلوح في الأفق تضحيته الخامسة حين يترك المبدع صقر الرشود طواعية وطنه الكويت الذي أحبه إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، التي استقدمته في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، مستفيدة من خبراته في تأسيس بنيتها المسرحية التحتية، بعد أن ضاقت الساحة الفنية المحلية بإبداعاته، فَفضل قبول العرض على مضض، وغادر الرشود حينها الأهل والأحباب والأصحاب في مسرح الخليج، مصطحباً أسرته الصغيرة ليقيم في إمارة أبو ظبي وسط أهلٍ وأحباب جدد، وساهم في إنشاء فرقته الخاصة مُدشناً مسرحي رأس الخيمة والشارقة، ومشرفاً على المسلسل الإماراتي الناجح الشهير «اشحفان»، وحيث لم تمنعه الإقامة في الإمارات من متابعة أخبار الحركة المسرحية في بلده الكويت لحرصه الشديد على تطويرها هي الأخرى.
(*) قاص وكاتب كويتي

خبير مسرحي في الإمارات

تميزت فترت مكوثه في الإمارات وعمله خبيراً مسرحياً هناك كمرادف للنهوض الفني بتلك الدولة، وحيث يعتبر من العصور الذهبية لازدهار الحركة المسرحية فيها على مر السنين، إلا أن القدر لم يمهله كثيراً وفارق الدنيا خلال فترة عمله هناك، ورحل وهو في سن السابعة والثلاثين إثر حادثٍ مروري مؤسف، بعد انفلاب السيارة التي كانت تقله وبعض زملائه من الممثلين المسرحيين الإماراتيين في أحد أودية مدينة خورفكان السحيقة بنهاية عام 1978.
أعترف بأن تضحيات المخرج المسرحي الكويتي المبدع الراحل صقر الرشود كثيرة ولا يمكن حصرها بعجالة في مقالٍ عابر هنا، وربما نحتاج بصراحة إلى دراسة لاحقة كبحثٍ يمكن أن تستفيد منه الأجيال القادمة، لما فيها أيضاً من ع.بَر مهمة ودروس ثمينة يمكن أن نستخلصها من تجاربه الإبداعية الثرية، وأجمل ما فيها بحق أنها عززت وبهمة عالية من محبته في قلوب مريديه المخلصين عبر السنين، ممن يتذكرونه مشكورين بوفاءٍ نبيل حتى يومنا هذا، فهو في النهاية مفخرة للجميع لأسرته ولبلده الكويت والخليج والعرب.

بدر أبو رقبة العتيبي

http://www.alqabas.com.kw/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *