شياطين ديستويفسكي في باريس / عمار المأمون

التساؤلات التي يطرحها العرض لا ترتبط فقط بالصنعة المسرحيّة، بل بجدوى التغيير الذي يقوم به الثوريون إن وقعوا في فخ العدميّة.

بدأ المخرج والممثل الفرنسي سيلفان كروزيفولت، بالعمل على مفاهيم الثورة وجدواها، منذ عام 2009 في عرضه “رُعبنا”، مُحولا الخشبة إلى مساحة للصراع السياسي والتفكير الديالكتيكي، ليتلمس تأثير الأفكار الجديدة على الأفراد بوصفهم كيانات منفصلة ذات خصوصيّة، وأعضاء في جماعات مختلفة ترغب في تغيير النظام القائم، سواء عبر التنوير الفكري أو المواجهة العنيفة.

يستضيف مسرح الأوديون هذا العام ضمن مهرجان الخريف المسرحي عرض كروزيفولت الأخير “الشياطين”، المقتبس عن رواية فيودور ديستويفسكي التي تحمل ذات الاسم، والتي تتناول الظروف السياسية والفكرية التي كانت سائدة في منتصف القرن التاسع عشر، كالتململ من حكم القيصر، والرغبة في التغيير الاقتصادي، والنزعة لتبني الأفكار “الغربيّة” دون التفكير في الخصوصيّة المحليّة الروسيّة، لكن ما حصل، أن هذه الأفكار/الشياطين، غذّت جيلا من الثوريين الراديكاليين، العدميين والاشتراكيين والملحدين، الذين يسعون لتوظف العنف العشوائي من أجل التغيير، دون أي اعتبارات للمستقبل.

يُوزع على الحاضرين، أثناء أخذ أماكنهم في صالة العرض، منشور بعنوان “ورقة ضد الفزع”، ليكون دليلا مصغرا لمتابعة الأحداث في القرية الروسيّة الوهميّة، ومعرفة التغيرات التي تطرأ على قاطنيها، خصوصا أن العرض يمتد لأربع ساعات، ويتألف من فصلين، الفارق بينهما بضع سنوات.

ألعاب السرد

يمكن النظر إلى المنشور السابق كمحاولة لتوظيف تقنيات ديستويفسكي السرديّة ضمن الشكل المسرحي، فالورقة تعطي المشاهد سلطة “الراوي كليّ المعرفة” الذي يوظفه ديستويفسكي في الرواية، أما تعدد الأصوات، وقدرة كل شخصية على أن تتحول إلى راو قد يفاجئان الراوي الأصلي، تتجسد أمامنا في حضور الممثلين على الخشبة وتنقلهم بين الجمهور، لا كأن الواحد منهم ينتظر “دوره”، بل كشخصية واعية بأنها في مسرحيّة، ومدركة لما يحصل أمامها، إذ تتدخل حين الحاجة، وتُعلق على ما تراه وتدفع الحبكة إلى الأمام وفق منطقها الخاص.

جثة المسيح شاهدة على شياطين العالم
جثة المسيح شاهدة على شياطين العالم

يحوي العرض معالم من القسوة والكرنفاليّة، يبرز عبرها التناقض بين فكرتي الإلحاد ووجود الإله شكلا مسرحيا، لنرى أنفسها أمام أشكال متنوعة من الأداء الجسدي واللغوي، تتأرجح بين التعبير العنيف عن ثوريّة الخلاص الأرضي والشروط السياسية لإنتاجه، وبين ذاك الربانيّ الذي لا ينتمي إلى عالمنا هذا، إذ ندخل العرض لنفاجأ بعُري الممثلين.

 ثم توزيع الشامبانيا على الحاضرين على صوت موسيقا الروك، وكأننا ندخل اجتماعا أناركيا سريا، ليقطع الخشبة بعدها المسيح مع حيوان بلاستيكي أليف، ثم يتحول نهاية إلى ساتير أسطوري شبق وكوميدي، مع ذلك يبحث عن الاستقرار العائلي، أما تناقضات فضاء العرض، فتتجلى مثلا في كيس ملاكمة عليه أيقونة دينية، ويعلوه جرس كنيسة، وصليب من ثلج يذوب على طول العرض.

كسر قواعد اللعبة

تفعل الصيغة السابقة تقنيات اللعب، فالمكان المُنار كليا أغلب مدة العرض، يسمح للممثلين بمخاطبة بعض أفراد الجمهور بصورة مباشرة، بل ودعوة واحد منهم إلى الخشبة لقتل إحدى الشخصيات، كما يمتد اللعب إلى الممثلين أنفسهم، الذين يتحررون من أدوارهم التي يؤدونها، ويأمرون الحاضرين بالبقاء في الصالة، إن حاول أحدهم الخروج لأي سبب.

روسيا وأزمة الشباب فيها
روسيا وأزمة الشباب فيها

يتداخل الزمن الدرامي مع الحالي إثر الألعاب السابقة، لتحضر الأفكار الثورية الماركسيّة، وأفكار مدرسة فرانكفورت، وإحالات إلى ديستويفسكي نفسه وتراثه الأدبي، عبر استخدام لوحة “المسيح ميتا في القبر” كطاولة أحيانا، وإيقونة أحيانا أخرى، والمثير للاهتمام أن ديستويفسكي سقط صريعا أمام اللوحة حين رآها للمرة الأولى، حسب ما تذكر زوجته في مذكراتها، ما يجعلنا أمام عرض متعدد الأصوات، حر من زمنه المفترض، نصارع فيه الأفكار الجديدة و”الشياطين” التي تسمم عالمنا، وتعمي بعضنا عن سبيل التغيير.

الثورة العدميّة وفخاخ الملل

التساؤلات التي يطرحها العرض لا ترتبط فقط بالصنعة المسرحيّة، بل بجدوى التغيير الذي يقوم به الثوريون إن وقعوا في فخ العدميّة، فحينها، لا يصبح لهم هدف سوى التخريب العشوائي، وهذا ما نراه في العنف المتبادل بين سكان القرية، إذ نشهد مبارزات بالمسدسات، وأذيّة جسديّة ولفظية، وعلى النقيض، قد تتجلى العدميّة بالشلل، وغياب القدرة على التغيير الكليّ، لنرى هذا “العجز″ مجسدا بشخصيات ترفض المشي، وتستخدم كرسيا مدولبا حين يحاصرها اليأس، وكأنها تفقد حتى القدرة على المشي والانتقال بين أنحاء الخشبة.

الممثلون برعوا على الخشبة في شتى الألعاب الفنية
الممثلون برعوا على الخشبة في شتى الألعاب الفنية

يتملك الملل المشاهد في بعض الأوقات، فصيغة الكرنفال واللعب الحيويّة تتلاشى مثلا أمام “الرسالة المكتوبة”، التي يوظفها ديستويفسكي في النص الأصلي كتقنية سردية، وتحضر على الخشبة ضمن ذات الصيغة، إذ نرى أحياناً شخصيتين فقط، تقرأ واحدة منهما رسالة طويلة كتبتها للأخرة.

ذات الملل نراه في بعض الحوارات الطويلة، والتي تبدو نقاشات وجوديّة ساذجة تنتمي إلى القرن التاسع عشر، لا إلى زمن العرض المتغيّر الذي نرى فيه صور فلاديمير بوتين، وعلم روسيا الاتحاديّة، ونخضع فيه لأنظمة رقابة وهيمنة تنتهك حتى خلايانا الجسديّة.

يتمحور العرض حول سؤال الحريّة، والسعي لتحقيقها بأقصى أشكالها، لنصل نهاية إلى الانتحار، بوصفه الشكل الأسمى للخلاص الفردي، والانعتاق الكلي من السلطة السياسية والدينية، وعبره يمكن للفرد أن يحقق السيادة الكليّة على ذاته، وهذا ما يتم تحدي الجمهور به، بسؤالهم من منكم حرّ إلى الأقصى الآن وهنا؟

وكأن هذا السؤال يخفي آخر وراءه، من منكم يجرؤ على الانتحار؟ لكن المحبط، أن هذه النتيجة، لا تثير الدهشة، بل تبدو ساذجة، كون الانتحار هو الحلّ الأول الذي يراود كل من يطرح سؤال الحرية الفردية، سواء كان يتبنى وجهة نظر لا دينيّة تُخلّص الحياة من سؤل المعنى، أو واحدا من أولئك الذين يرغبون في تحدي السلطة الإلهية، واحتكارها لحق منح الحياة وأخذها.

__________________

المصدر : العرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *