سينما” الفضاء الميت! صميم حسب الله

 

المصدر/المدى/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

أسهمت فكرة (موت المؤلف) التي تبناها المفكر والناقد الفرنسي (رولان بارت) بوصفها منطلقاً لإعادة قراءة النص بمعزل عن مقترحات المؤلف التي كان يشترط توافرها في قراءة النص الدرامي، الأمر الذي أسهم في إنتاج مقترحات عدّة ساعدت في إزاحة سلطة المؤلف التي كانت مهيمنة على النص.

وتأتي إشتغالات المخرج المسرحي في صناعة الرؤية الإخراجية، بوصفها فعلاً إبداعياً لايرتبط بالضرورة بالمقترحات المدونة في نص المؤلف، بل إن الرؤية الإخراجية صارت مغايرة تماماً لما تأسس عليه نص المؤلف،  فضلاً عن ذلك فإن فكرة الإطاحة بالمؤلف على نحو كلّي بدت تراود المخرج المسرحي ، الأمر الذي دفع به إلى إنتاج صياغات متنوعة تسهم في إنتاج نص لايحتكم إلى مؤلف بذاته، كأن يعمل المخرج إلى تحويل نسق سردي متمثل في القصة أو الرواية إلى نص مسرحي، أو يتعامل مع منظومة شعرية مغايرة عن منظومة السرد ويذهب بها لإنتاج نص مسرحي شعري من دون أن يكون للمؤلف حضور في بناء النص الدرامي، وتأتي تجارب (المخرج المؤلف) بوصفها واحدة من المقترحات التي بدأ المخرج المعاصر بالعمل عليها سعياً وراء الإطاحة بالمؤلف من جهة والعمل على إنتاج أفكار تقترب من خشبة المسرح وتبتعد عن رفوف المكتبة من جهة أخرى، وقد أسهم ذلك في إنتاج (نص العرض) الذي يختزل فيه المخرج المؤلف الكثير من المضامين البنائية التي قد يحتاج المؤلف إليها في التعبير عن فكرة النص، وبعكسه فإن المخرج المؤلف يذهب في التعبير عن مضامين (نص العرض) عن طريق إنتاج أشكال محايثة للمضامين ومختزلة لها في الوقت ذاته،  وتندرج مسرحية (سينما) للمخرج المؤلف (كاظم النصار) في سياق المغايرة في إنتاج نص إخراجي من دون الاتكاء على سلطة المؤلف التي أزاحها (كاظم النصار) عن طريق إنتاج نص مرتبط بخشبة المسرح يحتكم على دلالات ثابتة اختارها المخرج في رحلة التدوين النصي الأولى التي اعتمدها في تأسيس فضاء العرض المسرحي الذي تشارك فيه  كل من  الممثلين (إياد الطائي، علاوي حسين، باسل الشبيب، زيدون داخل ، أزهار العسلي) ، سينوغرافيا (جبار جودي)، دراماتورجيا (د.سعد عزيز) ، وتم تقديم العرض على خشبة المسرح الوطني في بغداد مؤخراً.
اختار المخرج المؤلف تأسيس الفضاء النصي على مستويات عدّة، اعتمد في بعضها على توظيف تقنيات مسرح اللامعقول، وقد تمثل ذلك في إنتاج بناء درامي دائري، إذ تنتهي فيه الأحداث من حيث بدأت، وهي تقنية لجأ إليها كتاب الدراما في مسرح اللامعقول للتعبير عن انهيار المجتمعات في مرحلة مابعد الحرب، الأمر الذي أدى إلى إنتاج لغة درامية تنسجم مع ذلك البناء الدائري وهي لغة تعتمد أساساً على الإختزال اللفظي، إذ لجأ كتاب اللامعقول إلى تهشيم اللغة ورفض صياغاتها الزخرفية منها والسردية، الأمر الذي بدت معه تلك اللغة الجديدة منسجة مع فرضيات البناء الدائري للنص الدرامي، وعلى العكس من ذلك فإن اعتماد المخرج المؤلف على تقنيات البناء الدائري بدت هجينة على ملفوظ سردي قائم على المنولوج الذي يحتكم إلى فعل التكرار اللفظي من اجل الكشف عن الشخصيات التي تحكمها  ثوابت  البناء الدرامي الأفقي الذي لايعتمد التنامي، ويعود ذلك إلى اختيار المخرج للبنية المكانية الثابتة التي تتشارك الشخصيات فيها من دون أن يكون لكل شخصية فضاءها ومرجعياتها التي تنفرد بها عن غيرها، فضلاً عن ذلك، فإن إعتماد المخرج على المتلازمات اللفظية التي كشفت عن توافر الشخصيات على صوت أحادي يتمثل بشخصية المؤلف نفسه، الأمر الذي بدا فيه المؤلف حريصاً على إثارة النسق الشعري الذي يعتمده في الكثير من مدوناته التي يسطرها في (وسائل التواصل الإجتماعي) والتي تلاقي الكثير من القبول والاحتفاء من جمهور ذلك الفضاء الافتراضي، إلا ان عملية تحويلها أو كتابة ملفوظ نصي على غرارها ومحاولة التفاعل معه على خشبه المسرح  يظل بحاجة إلى (مسرحته) حتى يكتسب الصفة الدرامية  التي تعتمد الفعل لا السرد، وفي ذلك اشتراطات عدة منها أن مسرح اللامعقول الذي اعتمده المخرج المؤلف في البناء الدرامي يحتاج إلى لغة درامية تنسجم معه قوامها الاختزال ولا تركن إلى السرد، فضلاً عن ذلك، فإن الركون إلى ملفوظ نصي من دون إنتاج معادل (بصري/ادائي) يحيل المتلقي إلى مقترحات جديدة تساعد في تطوير المضمون وتسهم في الحفر داخل الوعي الجمعي من اجل الوصول إلى المعنى المضمر داخل النص ، لا أن يظل الملفوظ ساكناً كما في حوار (صاحب المقبرة ميشبع)، أو في فكرة مثيرة للاهتمام  تمثلت في  (تمرد الموتى) على (الدفان)  الذي يزاحمهم بدفن المزيد من (الموتى) من دون أن يراعي ضيق المكان عليهم،  إلا أنها ظلت فكرة حبيسة الملفوظ النصي الذي لم يتمكن المخرج المؤلف من الخلاص منه ، بينما تندرج فكرة المخرج المؤلف على نحو أساس على الإطاحة بالنص المقدس الذي ينتجه المؤلف ولايرضى المساس به، الأمر الذي بدا فيه المخرج (كاظم النصار) غير قادر على الخلاص من سلطة (المؤلف/النص) الذي عمل على تدوينه حتى بات حبيساً لمدونته النصيّة وغير قادر على الافتكاك من مضامينها وملفوظها المزمن، فضلاً عن ذلك، فإن محاولة المخرج المؤلف في  توظيف تقنيات (الكباريه السياسي) لم تكن فاعلة، ذلك أن مفهوم الخطاب في الكباريه السياسي يعتمد، وبحسب ماذكر في (المعجم المسرحي على  وجود ” فقرات  لها طابع  الهجاء السياسي، والنقد اللاذع، وبرع فيه مغنون هجاؤون” بمعنى آخر، فإن الكباريه السياسي يعتمد المباشرة في التعبير عن الحدث السياسي، من دون الركون إلى الملفوظ  الرمزي كما ورد في النص (الزلزال دمرنة) وغيرها من الصياغات اللفظية.
ترتبط فكرة التعبير عن الفضاء المسرحي عن طريق الرؤية الإخراجية التي يعتمدها المخرج في تحويل الأفكار المتوافرة في النص إلى صياغات سمعية وبصرية تنتظم في تشكيلات بصرية  تسهم في التعبير  عن المعنى، وقد اختار المخرج العمل على بناء فضاء يحتكم إلى فكرة (الثبات/ الموت) لاسيما وأن فضاء النص جاء مرتبطاً على نحو أساس بما ذهب إليه (المخرج المؤلف) في رحلة تدوين النص الدرامي، بمعنى آخر، فإن حضور السينوغراف في هذا العرض يرتبط في عملية تجسيد الشكل المتوافر في المقترح النصي، وقد بدا السينوغراف غير قادر على مغادرة المقترح النصي بوصفه ضرورة فكرية وجمالية اعتمدها (المخرج المؤلف)  إلا أن فكرة إنتاج فضاء (ميت / مقبرة) ظلت بحاجة إلى فرضيات التحول البصري ،بوصفه معادلاً (للثبات/ الموت) والمقصود بالتحول البصري، إحالة المتلقي إلى فضاء (المقبرة) الموحش وعدم الاكتفاء بالقطع الديكورية التي افترض كل من المخرج والسينوغراف، أنها تؤدي إلى خلق الإحالة العلاماتية في التعبير عن شواهد المقبور، فضلاً عن ذلك، فإن عدم الاشتغال على منظومة اللون للتعبير عن (المكان/المقبرة) أسهم في خلق فجوة مكانية بين المنظومة البصرية والمنظومة اللفظية،  الأمر الذي  تحولت فيه السينوغرافيا إلى مفردات ديكورية غير منتجة للمعنى، فضلاً عن ذلك، فإن اعتماد المخرج على  تقنيات المسرح الملحمي لاسيما في توظيف الفواصل الغنائية التي لم تكن منسجمة مع خطاب العرض من جهة ولم تكن تحيل المتلقي للتعبير عن مضامين محايثة لما ذهب إليه المخرج المؤلف، بل إنها بدت تعبيراً عن عدم قدرة الفعل الإخراجي على إنتاج خطاب مشهدي قادر على إنتاج المعنى، حتى أن فكرة التعبير عن المقبرة /الموت لم تأت عن طريق المفردات الديكورية، بل اختار المخرج توظيف إيقونات صورية للتعبير عن موت الشخصيات، وبذلك نراه يلجأ إلى الحلول المباشرة والبسيطة في التعبير عن الفضاء / المقبرة، فضلاً عن أن، تلك المعالجة قد توافرت في عرض سابق للسينوغراف (جبار جودي) في مسرحية (خيانة) التي قام بإخراجها قبل مدة قصيرة.
تنوعت الأزمنة التي اختار المخرج المؤلف التعبير عنها عن طريق الشخصيات التي جاء كل منها للتعبير عن زمن مغاير عن الآخر، إذ أن شخصية (العسكري) التي جسدها الفنان (إياد الطائي)، وقد بدا واضحاً عن طريق الملفوظ النصي انها شخصية (شهيد) في الحرب مع إيران في حقبة الثمانينات من القرن الماضي، وشخصية (الشاعر) التي جسدها الفنان (علاوي حسين) الذي بدا  أنه ضحية من ضحايا الجوع  في حصار اقتصادي  دمر المجتمع العراقي في تسعينيات القرن الماضي، وشخصية  (سائق التكسي) التي جسدها الفنان (زيدون داخل)   الذي يعد ضحية من ضحايا الإرهاب في بداية الألفية الجديدة، وشخصية (المراسلة الصحفية) التي جسدتها الفنانة (ازهار العسلي) وهي ضحية الديمقراطية الزائفة التي جاءت إلينا عن طريق الحرب وانتجت لنا موتاً ومقابر لاتنتهي، وتأتي شخصية (حفار القبور) التي جسدها الفنان (باسل الشبيب) للتعبير عن الحاضر الميت.
بدا واضحاً أن الأداء التمثيلي  اتكأ على نحو أساس على الملفوظ النصي، سواء  ذلك الملفوظ الذي يثير السخرية والذي أفاد منه الممثل (زيدون داخل) مستفيداً من تلقائيته التي لم يعمل المخرج على توظيفها في إنتاج اداء تمثيلي مغاير عن تجارب سابقة اكتسب فيها (زيدون داخل) حضوراً وفاعلية، بل اختار المخرج الاتكاء على خبرته وتلقائيته، وقد أفاد الممثل (علاوي حسين) من تجربته السابقة مع المخرج (كاظم النصار) في مسرحية (احلام كارتون) الأمر الذي كشف عن قدرته في التعبير عن متطلبات المخرج من دون أن يعمل على مغادرة الاداء النمطي الذي يتكئ على المتلازمات اللفظية التي بدت مثيرة وفاعلة، إلا أن فعل التكرار قد أسهم في الإطاحة بها. وقد جاء اداء الممثل (إياء الطائي) منسجماً هو الآخر مع شخصيته التي جسدها في مسرحية (خيانة) التي اعتمد فيها على القدرة الصوتية، من دون البحث في أعماق الشخصية عن مقترحات للأداء تحيل المتلقي إلى ذلك العسكري الذي هزمته الحرب التي اراد أن يكون بطلاً فيها، من جهة أخرى، فإن الممثل (باسل الشبيب) اختار التعامل مع شخصية حفار القبور على نحو ينسجم مع مرجعيات تلك الشخصية من الناحيتين النفسية والإجتماعية، الامر الذي جعله يلجأ إلى توظيف الصمت الذي بدا فاعلاً في مواضع عدّة، إلا أن المخرج اختار الإطاحة بذلك النظام الأدائي عن طريق الفواصل الغنائية التي أسهمت في تغييب الاداء المنتظم الذي إعتمده الممثل في تجسيد الشخصية، ويحسب للمخرج كاظم النصار ، توظيفه للممثلة (ازهار العسلي) التي اكتسبت حضورها في بعض التجارب المسرحية عن طريق صوتها الغنائي الذي يخفي طاقة تمثيلية كشفت عن حضورها  الادائي، من دون أن يستثمر المخرج قدرتها الغنائية التي كان يمكن الإفادة منها في مواضع مختلفة من العرض.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *