سيميولوجيا المسرح : دراستان مهمتان غيرتا وبشكل جذري التحليل العلمي للمسرح

أحمد شرجي

لعبت مدرسة براغ للسيمياء، دوراً مهماً وفاعلاً في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، بتحويل مسار الدراسات الألسنية، من خلال انفتاحها على دراسة الفنون سيميائيا، وخاصة المسرح. وقد “كان عام 1931 تاريخاً هاماً بالنسبة إلى الدراسات المسرحية. وقبل ذلك، كانت الشاعرية الدرامية ­العلم الوصفي للدراما والعرض المسرحي­ قد أحرزت تقدماً جوهرياً ضئيلاً منذ أصولها الأرسطية “( إيلام، كير، سيمياء المسرح والدراما، ص 11.).
وظهرت في هذا العام دراستان مهمتان غيرتا وبشكل جذري التحليل العلمي للمسرح، فكتب أوتاكار زيخ Otakar Zich (علم جمال الفن والدراما) ويان موكاروفسكي Jan Mukarovsky (التحليل البنيوي لظاهرة الممثل). طرحت الدراستان الأسس العلمية التي ستبنى عليها النظرية المسرحية الحديثة، ومع موكاروفسكي نشهد أول تحليل علاماتي لدور الممثل. الذي نال اهتماماً كبيراً فيما بعد، من قبل بنيويي براغ، بوصفه “الوحدة الدينامية لمجموعة كاملة للعلامات”( نفسه، ص16).
بما أن العرض المسرحي يمثل تراتباً هرمياً دينامياً للعناصر المسرحية ­وهذا ما توصلت إليه حلقة براغ­ فقد كانت دراسة موكاروفسكي، تبحث في قمة الهرم، ألا وهو الممثل، حاول تحليل الوسائل التي مكنت شارلي شابلن في البقاء على قمة الهرم، وكيفية تحكمه بمكونات العرض ككل، كونه الممثل الذي يقوم بالدور الرئيس.
فيما أكدت دراسة أوتاكار زيخ على ضرورة الربط بين الأنساق غير المتجانسة. والتي يتبع أحدها الآخر في المسرح. وأن التجاور بين العلامات السمعية والبصرية هو الذي يصنع خصوصية العمل المسرحي، على الرغم من عدم ترابطها وتجانسها، لكنها تتبع بعضها بعضا على الخشبة. وكذلك رفض أوتاكار زيخ التسليم بأن الأولوية تكون للنص الأدبي، بل هو مجرد نسق من الأنساق في العمل الدرامي.
أخذ تلامذته هذه الفكرة، وعملوا على تعميقها، فتوسعت بحوثهم بهذا الاتجاه، ومن هذه البحوث، (التحليل البنيوي لظاهرة الممثل ­ يان موكاروفسكي Jan Mukarovsky)، و(مساهمة في دراسة العلامات المسرحية وعلامات المسرح ­ بيتر بوكاتيريف Peter Bogatyrev)، و(العلامات في المسرح الصيني ­ كاريل بروشاك Karel Brosak) و(حركية العلامة المسرحية ­ يندريش هانزل Jindrich Honzl) و(الإنسان والأشياء في المسرح، النص المسرحي بوصفه مكونا في المسرح ­1941­ يري فلتروتسكي Jiri Veltrotsky).
شكلت الدراستان الأوليتان الأخيرتان اللبنة الأولى لتأسيس سيمياء العرض المسرحي، وخاصة في تطبيقاتهما لمجموع العلامات الإيمائية وتوابعها. ومعهما بدأ ينظر إلى العرض المسرحي بوصفه وحدة سيميائية متكاملة، ولم تجزأ على وفق المفهوم السوسوري إلى دال ومدلول، بل أصبح العرض المسرحي علامة واحدة، تضم كل الأنساق العلاماتية الأخرى، بمثابة علامة كبرى.
لم تتوقف بحوث حلقة براغ، عند هذه النتائج، على الرغم من أهميتها في تطور النظرية المسرحية، بل حاول تلامذة موكاروفسكي، إلى أبعد مما ذهب إليه أستاذهم، وهو أن “نص العرض علامة كبرى”، بل كانت بحوثهم “تقوم على أساس دراسة العرض ليس كعلامة مفردة، بل كشبكة وحدات سيميائية تنتمي إلى أنساق مختلفة متفاوتة”( إيلام، كير،ص 13.).
ولم يعد ينظر إلى نص العرض بوصفه علامة كبرى، بمثابة الدال، والمدلول ما تنتجه العلامة الكبرى (نص العرض) عند المتفرج، بل شبكة سيميائية، أنساقها مختلفة وأيضا متفاوتة، تخضع لشروط التحليل السيميولوجي. طالما أن العرض المسرحي يتكون من عناصر مختلفة (خطاب لغوي، نص، مخرج، ممثل، ديكور، إضاءة، إكسسوار، ماكياج، أزياء، موسيقا). وهي خاضعة أيضا لاشتغالها اليومي داخل المجتمع، لأن “في المسرح تكتسب الأشياء التي تقوم بدور العلامات المسرحية…. مَقًومات خاصة وخصائص نوعية وصفات لا تملكها في الحياة الواقعية”( نفسه، ص 14-15).
وبناء عليه لا يكون نص العرض علامة كبرى، لأنه يتشكل من تأويل أنساقه العلاماتية الأخرى. وكذلك “إن سيل العلامات التي يطلقها مبدعو العرض ينشأ بالتالي في عقل المتفرج الفرد كعنقود cluster من الرسائل والمعاني ينتقيه انتقاء فردياً ومن ثم فهو فريد من نوعه”( إسلن، مارتن، مجال الدراما” كيف تخلق العلامات الدرامية المعنى على المسرح والشاشة”، ص193.). وبهذا يكون كل شيء على المسرح علامة، حتى لو كانت غير قصدية، يستقبلها المتفرج كونها قصدية.
يعزو كير إيلام K. Elam سبب تطور بنيوية براغ، لأنها تأثرت تأثيراً كبيراً مزدوجاً من الشاعرية الشكلانية الروسية ولسانية دو سوسير البنيوية، وكذلك فإنها “ورثت عن (سوسير) مشروع تحليل سلوك الإنسان الدلالي والاتصالي من خلال إطار عمل السيمياء العامة… كذلك تحديد كون العلامة تعمل بوجهين وكونها تربط حامل (Vehicle) المادة أو الدال (Signifier) بـالتصور الذهني (Mental Concept) أو المدلول (Signified). ونظرا لهذا الأرث، لم يكن من المستغرب أن يعمل الكثيرون من سيميائيي “مدرسة براغ” في وقت مبكر على كل ما يتصل بالمسرح، ولاسيما على مسألة تعيين العلامات المسرحية ووصفها وتوابع ­ العلامة”( إيلام، كير، ص13).
ولعل أولى المهام التي واجهتها سيميولوجيا المسرح، يتعلق أحدهما بالموضوع والآخر بالمنهج، ففي “خصوص الموضوع، كان يلزم تخليص المسرح من هيمنة نظرية الأدب ­وبالنسبة لمهمة المنهج­ فتمثل في ميل السيمولوجيا إلى التحرر من سطوة اللسانيات”( كاوزان، حقول سيميائية، ص67). وبهاتين المهمتين يكون المسرح قد انفتح على قراءات جديدة وفق التحليل السيميولوجي لخصوصية الفن الدرامي. لأن كل الطروحات قبل ذلك كانت تتعلق بـ(السيمولوجيا والمسرح)، وإن كانت هناك بعض الإشارات لذلك. ولكن مع مدرسة براغ بدا الأمر مختلفاً. ووجد تاديوز كاوزان أن “تطبيق الحقل المفهومي والاصطلاحي للعلامة على مختلف مظاهر الفن المسرحي، لم يزدهر إلا في الثلاثينات من القرن العشرين على يد منظري الأدب واللسانيين والفلاسفة ورجال المسرح المنتمين لحلقة (براغ)، والذين ساهموا في وضع ركائز هذا العلم الجديد”( نفسه، ص 58).
تأكيد كاوزان على ريادة مدرسة براغ بسميولوجيا المسرح، من خلال مؤلفات أعضاء الحلقة. وقد فند يري فلتروسكي ذلك (أحد أعضاء حلقة براغ)، في مقاله الموسوم (سيميولوجيا الفرجة تبحث عن ماضيها)؛ وجد أن سيميولوجيا المسرح لم يبتكرها بنيويو مدرسة براغ، بل لها جذور قديمة، امتدت منذ أن بدا القديس أوغسطين التفريق بين العلامة Signe والشيء Res، بمعنى العلامات التي تكون وظيفتها الأساس في الدلالة على شيء ما والأشياء.
وهذا يجده فلتروسكي اعترافاً للطبيعة السيميولوجية للمسرح، والحقيقة “ان مفهوم المسرح كمنظومة من العلامات ­ هو مفهوم قديم جدا. وعليه، فإذا كان تاريخه لم يدرس بطريقة منتظمة، فذلك لأن السيميولوجيا المسرحية المعاصرة استلهمت في البداية علم اللسانيات العام والتحليل السيمانطيقي للنتاج الأدبي وسيميولوجيا الفن”( فلتروسكي، يري، سيميولوجيا تبحث عن ماضيها، ص29). وكذلك درس لسنغ lessing مفهوم التقليد عند الممثل، وكيف أن لعب الممثل يؤسس ويفكك المظهر والسلوك الإنسانيين. وأكد ديدور Denis Dederot على أن الدال في عمل الممثل هو نقطة الانطلاق، وما المدلول إلا نتيجة. وهناك محاضرات هيغل عن الجمالية، التي يجدها فلتروتسكي ذات أهمية تاريخية في سيميولوجيا الفن. حيث استطاع في دراسته للأدب الدرامي أن “يكتشف إحدى الخصوصيات السيميولوجية المرتبطة بلعب الممثل: وهي أن جهازه ليس مادة جامدة كاللون في الرسم والمعدن أو الحجر في النحت، بل هي بالتدقيق “فرد” بأكمله: أي الممثل الذي ينغمس في عمله بجسده، وهيأته وصوته، بل بكل أوصافه”( نفسه، ص 36).
وأخذ هنريش تودور روتشر H. I. Rötscher (احد تلامذة هيغل) فكرة استاذه، وحاول تحليل المظاهر السيميولوجية لهذا اللعب، وأدرك “أن هذا الدال هو نتاج جماعي لسائر الممثلين الذي يشاركون في عرض مسرحي”( نفسه، ص39). وهناك أيضا اشتغالات هنريتش غومبيرز H. Gomperz في دراسة مظاهر نسق الدلالة وعملية إبرازها على المسرح. كذلك بحث بول فاليري P. valery عن “الدلالات الدقيقة والعابرة كما تفرزها مباشرة العناصر المادية للدال، محاولا بذلك إمساكها وتعريفها قبل أن تختلط في المدلول الكلي…”( نفسه، ص39).
وبهذا فند فلتروتسكي كل طروحات كاوزان وريادة مدرسة براغ لسيميولوجيا المسرح. لكن تبقى آراء فلتروتسكي بهذا الشأن، على أنها تتبع تاريخي، ولا تخرج من هذا السياق، لأنها لم تكن سوى استشهادات، لمقولات ضمن السياق الزمني لطرحها. ولكن اتسمت اشتغالات حلقة براغ بالتخصص، وتوظيف اللسانيات، على المسرح، حيث كانت هناك دراسات متخصصة كما أسلفنا سابقا، تبحث بسيميولوجيا المسرح.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لبحوث مدرسة براغ، لكنها ظلت حبيسة اللغة التشيكية، لأنها لم تترجم إلى اللغات الحية الاخرى مثل الفرنسية، الانكليزية، والألمانية وغيرها من اللغات الحية، إلا في السبعينات من القرن الماضي. وهذا التأخير الذي استمر لمدة 40 عاما، أدى إلى تزامن نشأتها مع نشأة سيميولوجيا المسرح بفرنسا. ولم تكن اشتغالات الفرنسيين على الآثار التي تركتها مدرسة براغ، بل كانت بمعزل عنها. وهذا مشابه لوضعية اشتغالات دو سوسير وبورس، وقد تكون أحد أهم العوائق التي حدت من انتشار طروحات مدرسة براغ وترجمة مؤلفات أعضائها، هي الحرب العالمية الثانية وتداعياتها.

———————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – الأمم

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *