سعدي يونس يقدم كلكامش في المقهى الثقافي

 

 

تتعمق جذور المقهى الثقافي العراقي في لندن، يوماً بعد يوم في الوسط الثقافي العراقي والعربي في العاصمة البريطانية، واصبحت نشاطاته تشد إليها جمهرة من المتابعين والحريصين على حضور فعالياته المختلفة،  فتزدحم الصالة بالحضور، ويلفت انتباه الحريصين على متابعة الثقافة الجادة ذات المحتوى الإنساني الرفيع والتوجه الديمقراطي لمفهوم المعرفة والثقافة  والفنون.

كانت امسية المقهى الأخيرة يوم الجمعة المصادف 29 \ 9 \ 2017، قد تمحورت حول ملحمة كلكامش، التي تعتبر من أقدم النصوص التي عالجت مشكلة الخلود والموت، الذي كُتِبَ على الإنسان من قبل الآلهة.

كان النص الذي أُسْتُخْدِمَ في العرض والذي قُدِمَ الى جمهور المقهى، يغطي كامل الملحمة تقريباً وقد حاول الفنان والمخرج والممثل د. سعدي يونس أن يؤكد من خلال تصدّيه لهذه الملحمة الخالدة الاعتماد على إمكاناته في  مسرح الممثل الواحد، والذي سبق وأن قدم من خلاله العديد من الأعمال المعروفة والتي حازت على اعجاب جمهور بغداد والمحافظات التي زارها وعرض فيها أعماله تلك. كما أن الفنان سعدي يونس يرى من خلال نشاطه الدائب ضرورة الوصول الى الناس، أي أن يذهب المسرح إليهم بدلاً من مجيء الناس الى المسرح، وقد خاض خلال نشاطه الذي يمتد عقوداً من السنين تجارب تعتبر تتويجاً وتعميقاً للمحاولات الأولى التي قام بها زملاؤه من طلبة وخريجي معهد الفنون الجميلة ببغداد منذ ستينيات القرن الماضي.

لقد أثار الفنان سعدي جمهور المقهى بتحولات شخصيات الملحمة وتنوع طرق الإداء وقدم مشاهد راقية تبعث على الدهشة والمهارة التي يتمتع بها. حيث ينقلب كلكامش الى أنكيدو بلمح البصر وبقناع جديد ثم نراه بعد ذلك في دور عشتار ومنها ينقلب الى خمبابا وحش الغابة ومنه الى أوتونابشتم وبعده الى صاحبة الحانة. التي نصحته بأن يتمتع بحياته ويرضى بما رسمت له الآلهة من مصير. 

فالمرونة التي مارس فيها الفنان سعدي تحولاته جعلت النظارة منشدين إليه ومتابعين للأحداث بشوق ولهفة وانتظار، مع أن الجميع أو اكثر الحضور يعرف فحوى هذه الملحمة عن ظهر قلب تقريباً .

وهنا لابد من الحديث عن مسرح الممثل الواحد(One Man Show) واهميته في ظروف العوز والحاجة وقلة الإمكانيات، وخاصة في بلدان الإغتراب، حيث يمكن تقديم اهم الأعمال من خلال تقمص الشخصيات من قبل ممثل واحد، وطبعاً هذا يعتمد على قدرة هذا الممثل او ذاك.  ان مسرح الممثل الواحد يلبي مطالب المسرح الجوال ومسرح الشارع وهو إمتداد للشعراء الجوالين والحكواتية والمسرح الشعبي، لكنه يمتاز أيضاً برصانة التنفيذ وعمق الموضوع وحرفية الفنان المطلوبة هنا، كي يجذب الجمهور غير المتعود على حضور المسارح بشكل دوري ولا يمكن إعتباره من رواد صالات المسرح المعروفة. وبالتالي لايمكن التعويل على إستعداده على الصبر والوقوف فترة طويلة وربما تحت حرارة الشمس وتغير الطقس، إن لم يكن الممثل يملك قوة الجذب والمهارة الفنية لتجميع هذا الحشد من البشر مختلفي المشارب والإتجاهات في مساحة صغيرة لمشاهدة عمله الفني الحي والذي يطرحه بدون بهرجة او تقنيات المسرح التقليدي.

كان الفنان سعدي يونس بحري، قد عرف منذ  سبعينات القرن الماضي كممثل سينمائي ومسرحي وقام في أدوار البطولة في العديد من الأفلام ، مثل  فيلم ( قطار الساعة سبعة )وفيلم(انا العراق) وفيلم (الظامئون) والمسرحيات العديدة ، وكذلك ككاتب وشاعر له العديد من الأعمال الأدبية المعروفة لمتابعيه. وقد عرض اعماله في مختلف المحافظات العراقية من الموصل الى البصرة، وزار السجون وقدم عروضه الفنية امام السجناء الذين حُكِموا بالإعدام أوالمؤبد وحصل على تهانيهم وتمنياتهم وتقديرهم، لما يقوم به من جهود  في نشر الوعي المسرحي، أين ما وجد له فرصة،  ولكنه كبقية المبدعين ، لم يستطع أن يتأقلم مع جو الرعب والإمتهان الذي تعرض له العديد من فناني ومبدعي عراقنا خلال فترة الحكم الدكتاتوري السابق، فآثر الخروج والنجاة بجلده من المضايقات والحصار الذي وجد نفسه فيه ،  فأستقر في فرنسا، يمارس عمله الذي نذر نفسه له. ولايزال هذا المبدع يواصل التدريب والعمل والتجوال في المدن الفرنسية مقدماً ما لديه من افكار وصور وعروض للجمهور الفرنسي وباللغتين الفرنسية والإنكليزية وله  اعمال سينمائية عديدة منها : 

الطويلة – بستاني الأحلام 63 د. / ترانيم من بلا الأرز 75 دقيقة

القصيرة – حرية – صوّر في تونس / صديقة / حضارة لا تموت …. 

من كتبه باللغتين العربية والفرنسية 

ملحمة كلكامش – بابل حبي الأزلي – ملحمة العبيد و كلكامش / دار نشر الهارماتان – باريس .

طفل الجزيرة المتوحشة – حكاية/ حديقة معلقة بغيمة حب- شعر / والكتابان مع قرص صوتي / دارنشر البجعة- باريس .

ملحمة كلكامش – باللغة الإنكليزية  صدرت عن “سوان وورد” في باريس

ملحمة كلكامش – باللغة العربية عن الهيئة العربية   للمسرح في الشارقة .

  عمل في  فرنسا مع مخــرجين مثل آريان منوشكين وريمون رولو وحـيـــث اتبع دروس السينما للمخرج جان روش. 

و قد قدم العديد من المسرحيات و الحكايات كيوميات مجنون لغوغول و ملحمة جلجامش و ألف ليلة و ليلة و حكايات من جزر أوقيانيا و بنادق الأم كارار لبريشت … كما شارك سعدي في العديد من المهرجانات كأفينيون و بياترا نيامتز و بابل و قرطاج … و شارك في نشاطات شعرية كالشعر له وجه  في  مدينة كراس الفرنسية و في ربيع الشعر الفرنسي في مدينة بورج و منتدى شعراء المهجر في باريس.

 وهو يحمل منجزا أكاديميا ثريا فقد حصل على  ليسانس في الحقوق من بغداد ودكتوراه في الأدب المسرحي الفرنسي من باريس.

بعد العرض ، وقف الجمهور محيياً فنانه ومصفقاً له مدة من الزمن والذي بادله الفنان سعدي بتحية الجمهور وفي إلقاء قصيدة عن المطر القادم والخير المأمول الذي ينتظره العراقيون .

بعدها جاء دور مقدم الأمسية الفنان علي رفيق، الذي  ابتدأ الحوار مع سعدي يونس بحري عن تجربة مسرح الشارع التي قدمها سعدي للمسرح العراقي بعد عودته من باريس أوائل السبعينيات من القرن الماضي، والتي جاءت بعد ارهاصات تجديدية في المسرح العراقي منذ بداية الستينيات التي ساهم فيها الفنان علي رفيق نفسه مع مجموعة من الطلبة وقتها، كان من بينهم الراحل عوني كرومي. حيث تحدث عن أهمية التجربة، اذ انها كانت تسعى لأن يرحل المسرح الى حيث الجمهور.. وبدأ الفنان سعدي حديثه  بأنه فكر وقتذاك أن ينتقل بعمله المسرحي في احياء بغداد الفقيرة وكذلك العديد  من المدن التي كان لا يلعب فيها المسرح دوره الخطير فـ “المسرح هو مدرسة الشعب الحقيقية ” . فكانت البداية – يقول الفنان سعدي:  مقهى في شارع السعدون قدمت فيه مسرحية “الاستعراض الكبير” وهو عمل مثله طلبة الأكاديمية، ثم تم تقديم نفس العرض في حصن الأخيضر –الموقع التاريخي الشهير وقدمنا – والحديث لا يزال للفنان سعدي وتجربته في تقديم هذه المحاولات الأولى- عروضاً في الأحياء الشعبية وكان تفاعل الناس مع تلك العروض ايجابياً، وبذلك كسرنا فكرة أن يكون المسرح حكراً على جمهور من المثقفين أو النخبة.. وواصلنا العروض في ساحة التحرير تحت نصب الحرية وكانت ابرز تلك المسرحيات “الدربونة” التي كانت تناقش مسألة كمب ديفيد والاعتراف بالعدو الصهيوني” وأضاف د.سعدي: “إنها كانت تجربة رائدة أثمرت عن حب الجمهور للمسرح وتفاعله مع تلك العروض. وحتى اني قدمت مسرحية “صوت مصر” في داخل سجن ابوغريب. وعملت جولات لعرض مسرحية “يوميات مجنون” لغوغول في الموصل وفي ساحة أم البروم في البصرة وفي الأردن وأمكنة كثيرة أخرى وكانت من أوائل مسرحيات الممثل الواحد (مونودراما) في الوطن العربي”.

ثم جاء دور جمهور المقهى، الذي تناوب على طرح الأسئلة والمداخلات والتي أثنت على العرض والممثل والمادة المكثفة للملحمة والتي إستغرقت بحدود التسعين دقيقة في حين أمتدت الأمسية لأكثر من ساعتين .

——————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – عن المدى 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *