ساعة المبكى.. فكرة الإرهاب مسرحياً – العراق

تبقى المسرحيات العالمية الجادة ، محفزة لاجيال جديدة من المخرجين ، لما تمتلكه من بنية درامية رصينة تؤهلها لخلق تحفيزات تشكيلية في العرض المسرحي ، تترابط فيها الافعال والاحداث ، والشخصيات بنسق عضوي متماسك ، قائم على مرتكز فكري ، ولغوي موضوع من زاوية مبهرة .وقع الاختيارعلى نص مسرحية ( هيروسترات )، وهي من تأليف  غيرغوري غورن  ، سبق لهذا النص ان قدّم في مسرحنا العربي ، ومن بين هذه العروض ، الفرقة التونسية ، ومن اخراح المنصف السويسي ، المخرج العربي المرموق ، وكذلك على صعيد مسرحنا العراقي ، قدمها المخرج فاضل خليل مع نخبة من مسرحيينا ، أبرزهم الفنان سامي عبد الحميد .

مهران عبد الجبار ، المخرج الشاب ، حفزته على تقديم هذه المسرحية ، رغبة والده الفنان (عبد الجبار كاظم)  في اخراجها لولا أن المنية عاجلته ، فخسرنا بذلك تجربة ، كان ينبغي لها ان تأخذ مكانها المناسب في تاريخ مسرحنا المعاصر ،حاول مهران ان يجتهد ، ويقارب هذا النص من نافذة تأويلية طموحة ، بالتعاون مع ممثلين يمتلكون مراسا ، وخبرة فنية ، من شأنها ان تضفي جدّية على هذه التجربة الأولى للمخرج ، ضمن المسرح الاحترافي .

وهي بحاجة الى تسليط الضوء النقدي عليها لتأخذ حيزها المناسب في مسرح الشباب .

المسرحية في الأصل ، تعالج قضية صياد يدعى ( هيروسترات ) وهو من عامة الناس ، يقدم على اقتراف جناية حرق المعبد ، ليكتب مذكراته في السجن ، ويكشف عن الاسرار التي دفعته الى ذلك ، ولأن الاميرة ( كلمتينا ) زوجة الامير صاحب النفوذ ، يدفعها غرورها لأن تقنع هذا القابع في السجن ، بأنه فعل ذلك بسبب اشتعال حبّه لها ، وخيبته من صدودها عنه ، وبعد اخذ ورد ، يتبادلان الحب في السجن ،حينها يرفض القاضي هذا الحب الآثم ، ويصدر حكماً باعدامه لانه حرق المعبد المقدس ، وبعد الحاح من قبل الناس الثائرين ، المشجعين لهذا السجين ، تصبح قضية رأي عام ، بعد ان قرأوا مذكراته التي دوّنها في السجن .

هذا الخط الدرامي لحبكة النص ، بقي في النص المعد كما هو ، سوى تبديل ” أقنعة ” الشخوص وتحويلها الى بيئة يهودية ، تخصّ حريق ( المبكى ) يقترفها ” يهودي ” من أصول عربية ،، كما تعلن هذا الخبر المذيعة من تلفزيون رسمي ( قدمته المذيعة جيهان الطائي ) مما يثير لغطاً في الشارع المحتقن الذي يبحث عن حلول لمشكلاته المعقدة سياسياً ، واجتماعياً ، وثقافياً ، ودينياً . 

أراد المخرج من خلال هذا ” التأويل ” التأكيد على ضرورة انفتاح المتعصبين المحتلين ، على الشعوب المقهورة ، ومحاولة احترام أديانها ومعتقداتها ، بعيداً عن التكفير ، والقتل .

في العرض المسرحي ، هيروسترات نتيجة حنقه ، وتمرّده ، يقوم بفعل تدميري لآثار يهودية ، ومسيحية ، واسلامية ، لنراه مستلقياً على اريكة داخل سجنه ، بملابس المجرمين الحمراء ، وحين يحاوره السجّان ، والحاخام ، وحتى الرئيس ، ووزير العدل ، فانه يصّر على صواب فعلته ، بانه قام بما يسمّى بالارهاب ، من أجل احقاق سلام دائم للناس ” أجمعين ” !

بالطبع ، هذه الشخصية حين تعلن عن هذه الأفكار تثير لدى المتلقي الكثير من ردود الافعال المناقضة لأفكاره الهدامية هذه ، لأن السلام لا يمكن ان يتحقق بالارهاب ، والتدمير والاحراق ، لعب دور هيروسترات الممثل  طه المشهداني  ، المتمكن من دوره صوتاً ، وحركة جسدية ، وكذلك أوضاع مسرحية ، متناغمة مع الممثلة الموهوبة ( ميلاد سرّي ) وايضاً ، ما لعبه الممثلون الآخرون من أداور ساندة للفعل الرئيسي: حيدر كناني ، علي كاظم ، حميد عباس ، احسان هادي. 

نرى في الصورة المسرحية تضافر جهود الاضاءة (ناظم حسن ، والداتاشو(حيدر فوزي ) وماكير (ستار) ، ومما أضفى بعداً بصرياً حركياً ، كاسراً للسكونية ، الحركات ( الكوريوغرافي :الحركات التعبيرية للمجموعة : عامر ، صبري ، سجاد ، أكرم، قاسم) وكذلك مونتاج ( محمد ) ومسكر!!!!! عبير. 

ولكن يبقى ( حوار الأديان ) غير قادر على صد التطرف الديني ، واراقة الدماء . حين تستثمر السلطة العدوانية ، تدمير الآخر ، بذرائع مموهة ، وغير واقعية .أراد المخرج ، تعميق نزعة المتاجرة عند هذه الشريحة اليهودية ، فيظهر الحاخام ، والتاجر الذي ينشر المذكرات من أجل الربح ، ولا شيء غير الربح حتى يصل الأمر لمن يتصدر كرسي الرئاسة ، الكل يدورون في حلقة من اليأس ، حين تتسرّب النسخة المخطوطة من الكتاب الخاص بمذكرات(هيروسترات) الذي يعلن فيها ، انه قد حرّر نفسه من قيود الكهانة ، حين يهدّء من روع المرابي ، الذي سلّفه نقوداً ، ويوعده بالربح الوفير فيما ينتظره بعد نشر المذكرات.

ويصرح – كذلك – بأنه لا يخاف عقوبة الاعدام، لكن القاضي يتشبث بحكمه ، بتدخّل(  الأميرة ) ، يوافق القاضي على تأجيل قضية الحكم بعد سماعها كلمة (غزل) من  هيروسترات  ! فيصبح ( جميلاً ) الآن ، بعد ان وصفته في السابق بأنه ” دودة” .تميز العرض ، بجماليته الهادئة ، والمحسوبة ، ويبقى المشروع المسرحي صعباً عندما يقدم عليه شاب مثل ” مهران عبد الجبار ” ، وتبقى التحديات ( الفكرية ) و ( الابداعية ) قائمة ، لا يمكن تذليل معتركها الصعب ، الاّ بقوة المراس ، والصبر ، والاصرار على تقديم الأجدر ، والعناية الكبيرة الحاذقة  بكلّ التفضيلات الاخراجية وان تعددّت مآتيها ، وطرائفها ، وتحدياتها .

———————————————————————

المصدر :مجلة الفنون المسرحية – د.عقيل مهدي –  المدى

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *