(عين) رسالة غنام غنام بمناسبة اختياره شخصية مهرجان فيلادلفيا للمسرح الجامعي العربي – الاردن

رسالتي
بمناسبة اختياري شخصية مهرجان فيلادلفيا للمسرح الجامعي العربي . الدورة 12 عام 2016.
غنام غنام

توطئة :
لأنها مناسبة ذاتُ معنى خاص بالنسبة لي، فقد تلقيت تكريماتٍ عديدةً في حياتي المسرحية، و إن كنت أعتبر أن احتفاء الجمهور بأعمالي هو أرفع التكريمات، إلا أن تكريمي اليوم باعتباري شخصية المهرجان، و احترامي و تقديري لمن فكر و رشحني و قرر هذا الاختيار، في رحاب مؤسسة عريقة مثلِ جامعتكم، و بوجود أشخاص بمقامكم، و في مهرجان كنت ممن آمن بأهميته و وقف معه و قدم فيه و فاز ، إضافة إلى وقوفي أمام هذا الأفق الممتد قوسُه من النبتات اليانعة التي تنمو في حديقة المسرح العربي.. في ظلال سنديانات العمل الجامعي التي تأخذ على عاتقها رعاية هذه النبتات حتى يشتدَ عودُها يدفعني إلى خطاب استله من محطات هامة في تجربتي.
1
لا تمت قبل أن تكون نداً.. لا تمت.
قالها غسان كنفاني في قصته “الأخضر و الأحمر” – “الموت للند”، قالها و هو يتمثل حالة البطل التراجيدي الذي يقف في وجه الأقدار و الآلهة صانعةِ الموت، قالها متحدياً قابلاً مصيره الذي كان انفجاراً في سيارته ببيروت عام 1972 حيث أستحال إلى فتات من شدة الانفجار، فهل كانت لحظة الانفجار الرهيب نهايتَه؟ هل تمكنت آلة الاحتلال التي احتفلت باغتياله يومها من حسم الصراع معه لصالحها؟ الإجابة جد بسيطة، إن ما يزيد على أربعين طبعة من مؤلفاته و نتاجه الفكري و الإبداعي تضع الصراع في ديمومة؛ إن تحول صورتِه إلى أيقونة تعزز ديمومة البطل التراجيدي في المواجهة، إن انتشار اسم غسان في مواليد جاؤوا إلى الدنيا و ما زالوا يجيئون تعلن انتصاره، إن تجربتين لي في تجسيد “عائد إلى حيفا” و رد فعل المشاهدين عليها في لبنان و الأردن و فلسطين و الإمارات و الجزائر تعلن انتصاره الحتمي، كان البطل التراجيدي يقاتل أقداراً مرسومة في الغيب تحركها قوى غيرُ منظورة، ليتحول إلى الندية، ليتشظى و يتجلى إلى آلافٍ من الأنداد؛ لذا لا تمت قبل أن تكون نداً…كان هذا من الدروس الأولى التي جعلت المسرح بالنسبة لي نضالاً.. فالمسرح بحد ذاته حالة تراجيدية، و المسرحي فيه بطل تراجيدي بامتياز، فإن صار أقل من ذلك يتحول إلى لاعب يتفاعل مع بطل في لعبة كتلك الألعاب الإلكترونية (وهم يقارع وهماً)، أما في المسرح فإنه اختيار لا يحتمل سؤال هاملت حين قال “أكون أو لا أكون”…المسرح إن صرتَه يحتمل هذه فقط “أكون… تلك هي المسألة”.

2
في راسي موّال بدي أغنيه.
هذه الجملة كانت إجابتي عندما كان يسألني الأهل و الرفاق و الأصدقاء “شو موديك ع المسرح؟!”.
لم أخترع البارود و لا العجلة، لم أكتشف أميركا، لكنني قلت كلمتي، قلت “لا” في زمن كانت الكلمة فيه لا تحتمل إلا الخضوع و الطاعة، قلت جملتي واضحة بينة و شفيفة و عفيفة و ذكية مثل مواويل شعبي و أناقته و حيائه:
على دلعونا يومن ما مرت، مرواد الكحل في العين جرت، خبطت ع الأرض يا الأرض اخضرت، مطرح ما تخطي ينبت حنونا.
قلت موالي و أسست مع جبريل الشيخ و نصري خالد “فرقة موّال المسرحية”، قدمنا من تأليفي و إخراج جبريل و ألحان نصري “اللهم اجعله خير” التي شارك في تمثيلها و صار عضوا فيها كل من صلاح الحوراني، موسى عزت ، حنان عساف، و المرحوم محمود مساعد و غنت فيها امل السيد، و صمم الإضاءة أحمد فاشة، و البوستر لزهير أبو شايب، و كانت حدثاً عام 1986، و لكن الأحكام العرفية فتكت بالفرقة و العمل الثاني الذي عملتُ سبعة أشهر على إعداده و تجهيزه قبل يوم من افتتاحه و كان (مريم ما تبقى لكم) عن رواية غسان كنفاني و قصيدة آنست ناراً للشاعر الأردني “سهيل السيد أحمد”، و كان من ممثليها نادرة عمران، و منصور الزهراني و صلاح الحوراني و موسى عزت، و آخرون .. لم يكن ذلك ليسكت موّالي، ففي عام 1990 أسست “مختبر موّال المسرحي” برفقة ناصر عمر و عبد الحليم أبو حلتم و سماح قسوس، فيما التحق بهذه الفرقة محمد غباشي و علي عليان و منيرة زريقي و محمد الضمور و رانيا فهد و سامي عبد الحليم، و فراس الريموني و عبد الكريم الجراح و نصر الزعبي، و فراس المصري.
في راسي موّال بدي أغنيه، أسست الفرق و حركت الزوايا الساكنة و أخرجت من الظل “أبو أمينة و حسن و أبو زكر و أبو زكية” و عمرت بهم عروض الحلقة و التمرد على المعمار المسرحي، و دونت اسماءهم كمعلمين فرجويين في التشخيص و اللعب المسرحي و قدمت بهم أعمالي ” عنتر زمانه و النمر، الزير سالم، كأنك يا بوزيد، عبد الله البري.
و تابعت الرحلة بتأسيس فرقة المسرح الحر، بمعية جمع من الزملاء، حسين ابو حمد، نبيل نجم ،بكر قباني، علي عليان، أسماء مصطفى، ماهر خماش، سامي عبد الحليم ، عبد الكامل خلايلة ، فراس المصري و آخرين لهم كل الاحترام، منهم من رحل ومنهم من استقال – كما استقلتُ منها عام 2007ـ و تابعت تقديم أعمالي الفرجوية فكان “معروف الإسكافي، آخر منامات الوهراني، وغزالة المزيون” هذه الأعمال الفرجوية و سابقاتها ألفتها و أخرجتها جميعاً عدا الزير سالم التي أخرجها محمد الضمور،لقد سجلت بأبي أمينة و حسن و أبي زكر و أبي زكية ” الفرجة المسرحية” و أصدرت بيانين مسرحيين “بيان مسرح لكل الناس: و “بيان الفرجة”، و ها أنا سأبدأ بهم بعد أيام “مختبر مسرح الجلسة” في الشارقة، و ها أنا بعد ثلاث و ثلاثين عاماً وما يزيد على ثلاثين نصاً و مسرحية، ها أنا قد بلغت الثانية و الستين من العمر، نعم، ما زال “في راسي موّال بدي أغنيه”.

3
هو نَفَسُ الحياةِ فتنفسوه
لا تخونوه، فهو لا يرتضي العلاقة الكاذبة، و لا تقسموه فهو غير قابل للقسمة، لا تضربوه بغيره فالنتيجة مربكة، و لا تطرحوه من أي قيمة لأن النتيجة سالبة، لا تتركوه وحيداً فهو يأنس بكم و يؤنسكم، لا تسدلوا ستارته حتى لا تسود الظلمة و يتسلل الظلاميون ليلعبوا أدواراً ضد الروح، لا تطفئوا أنواره حنى لا يفقد الكون بصيرته، لا يمنعنّكم ريح عن رفع رايته، هو الفقير الغني، و هو البسيط المركب، هو الماجن العفيف، القاسي اللطيف، الشرس المسالم، الغامض حد الوضوح، الخيالي حد الحقيقة، هو الذي يشهد المعارك التي تدور رحاها في رحابه بلا دماء تسيل، هو الذي تموت الشخصيات في حكاياته و تعيش في وجدان المشاهدين فلا تموت، هو الذي يبقى بعد أن يغادر الجمهور قاعته، هو مجموع أرواح فلا تتركوه، هو لا يحب المناصب و المراتب إلا في تواضعها، و لا يأمن جانب الجهات الرسمية إلا حين تعرف هويتَها، و لا ينصاع للرؤى الحزبية، و يرفض التبعية الطائفية، هو الأسمى كما لو كان أول الخلق، و هو الأنقى كما لو كان آخر أنفاس الكون حين يعلن النفير القيامة، هو السؤال الذي لا ينتهي، المسرح هو نفس الحياة فتنفسوه.

4
الأب و الإبن
أنا غنام، بن صابر و خديجة، لم يسجل في تاريخنا العائلي مسرحي قبلي، رغم أني أرى أن أبي كان يمكن أن يكون فناناً لولا الانتداب البريطاني و عصابات الهغانا و الاحتلال الصهيوني و هجرتين قسريتين، إنه صابر معلمي الأول في التذوق الفني و شغف الموسيقى و الغناء الرفيع و و العطر و الورد و اللون، أنا ابن الهجرة و النزوح و الطرقات البعيدة عن البلاد، ابن الفقر الذي لم يحل بيني و بين أربعة افلام سينما كل أسبوع في أريحا كانت تستهلك كل مصروفي المدرسي و قروشاَ كان يقتطعها أبي من حقه في شيء يخصه.
قيض لي حظي و أبوة صابر أن أرى و أنا في العاشرة مؤسس المسرح الأردني الحديث هاني صنوبر عام 1965، حيث كنت في العاشرة و هو يخرج رائعته “تل العرايس” من تأليف عبد الرحيم عمر و ألحان جميل العاص ، غناء و بطولة طروب و اسماعيل خضر و نبيل مشيني و قمر الصفدي و عروة زريقات و عمر قفاف، أوركسترا كاملة و حية يقودها المايسترو المصري عطية شرارة، و عشرات المشاركين في ذاك الأوبريت الذي قدم في ساحة نجمة قصر هشام بن عبد الملك، و ما زالت أغاني ذلك الأوبريت تعيش بيننا (جدلي يا أم الجدايل) (يا طير يا للي بالسما) و غيرُها.. كنت في العاشرة ليعشش هاني و الحلمُ صنوان في رأسي، و يذهب بي قدري بعد عشرين عاماً لأكون ممثلاً بإمرة صنوبر في رائعته التي قدمها عام 1984 (تغريبة ظريف الطول ) من تأليف جبريل الشيخ و ألحان و غناء فرقة الرايات، لفرقة جدايل التي لم تقدم سوى ذلك العمل و كان قد أسسها مع جبريل الشيخ و محمد الجالوس و مجد القصص، حينها تحول صنوبر من حلم إلى معلم.
أنا ابن صابر غنام و هاني صنوبر، أنا بن كلِ من علمني حرفاً في المسرح مباشرة أو بشكل غير مباشر، أنحني اليوم لمعلميّ جميعاً، و لا زلت أتعلم و سأبقى حتى تنقضي رحلتي في الحياة، أحمل الوفاء لفضلهم، و أفخر بأن آلاف الشباب في الوطن العربي ينادونني بـ (يابا) و يذكرونني في أعمالهم و نتاجهم.
فكونوا أوفياء لمعليمكم، اختلفوا معهم و لا تختلفوا عليهم، تمردوا و لا تتنمردوا عليهم، استأنفوا على مشاريعهم، و اخفضوا لهم جناح الاحترام و الفضل، كي يكون هناك من يحترمكم و يقدر تجربتكم في المستقبل.
قال جبران “الحياة لا تقيم في منازل الأمس” و أقول صحيح أن الحياة لا تقيم في منازل الأمس، لكن الحياة الجديدة تولد و تترعرع في منازل الأمس، فيا أيها المعلمون، كونوا منازل آمنة لهم، جددوا منازلكم كي لا تصبح طاردة للحياة الجديدة؛ أما أنتم يا غدنا و مستقبلنا، كونوا رسل إبداع جديد و احترام وبناة كي تكونوا آباء صالحين.

5
صلاتي
و أخيراً اسمحوا لي أن أتلوا صلاتي التي لا افتأ أتلوها كل يوم:
شكراً لك سيدي، منبع عذاباتي المقدسات، و سر بهجاتي النبيلات ، ألمي لأنك جعلتني شفيفاً، و أملي لأنك جعلتني شغوفاً، و قسوتي لأنني أخاف عليك، و شجاعتي لأنني أخاف منك، و اقترابي من البعيد و ابتعادي عن القريب حين صرت بوصلتي، إيماني و ضلالتي، غيي و رشدي، قيدي و حريتي و قدري الذي جاء بي و ذهبت به، صليبي و حبيبي، شكراً لك أيها السيد النبيل.. أيها المسرح.

غنام غنام
الشارقة
2 أبريل 2016

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *