ربيع مروة.. عبور عكسي إلى ميونخ 72

في 5 أيلول/سبتمبر 1972 نفّذت “منظمة أيلول الأسود” عملية ميونخ في ألمانيا. في 18 نوفمبر 2015، قام المخرج المسرحي اللبناني ربيع مروة مع شريكتيه في الأداء منال خضر ولينا مجدلاني، بتفجير سرير على خشبة مسرح “دوار الشمس” في بيروت.

حذّر منفّذو التفجير من قوة الضوء الذي سينجم، وطلبوا من الجمهور إغماض أعينهم لكي لا تعمى، وانتهى العرض فعلاً بتفجير سرير، في حين كان بدأ بقصة خرافية يرويها صوت مروّة عن قرية تسكن أسرّتها الأشباح.

هذه الحكاية الأمثولة التي تُروى في البداية ستغدو بلا معنى مع الوقت، ستتلاشى، هي ليست شيئاً سوى التفاتة للكيفية التي كانت تروى بها حكاية بلا صورة. ثم تُنسى الحكاية وتنتقل بنا المسرحية إلى ميونخ 72.

استخدم المخرج كل ما يمكن من أساليب السرد المسرحي وأدواته؛ الصورة والنص والفيديو والوثيقة وحتى قص الحكاية بشكله التقليدي، ليسأل: لماذا لا توجد رواية فلسطينية لما حدث في ميونخ؟

مع تقدّم المسرحية نلمس تحولاً في السؤال إلى: لماذا ليس ثمة حكاية عن التفجيرات أو عن الاختطاف من دون أن يكون رواتها منفذيها أو ضحاياها؟ ماذا لو روينا حكاية البحث عن حكاية الخطف؟ ماذا لو كان العرض برمّته عن العبور العكسي إلى ماضي الحكاية لإعادة إنتاجها من قبل أفراد ليس لهم علاقة مباشرة بها.

ثمة الواقعة، ميونخ 72، وثمة بحث مروّة عن الواقعة، سيروي كيف توصّل إلى نسخة العرض من رواية هذه الواقعة. كيف جُمعت الوثائق، ما وصل وما لم يصل منها، كيف فكر الفريق في المسرحية..إلخ. لكن حتى هذه الوثائق، على المتلقي أن يفكر دائماً فيها كوثيقة ما، تقول شيئاً ما، عن ماضٍ ما، ليس بالضرورة أن يكون أكيداً.

تظهر وثيقة بقائمة تضمّ أسماء الـ 236 فلسطينياً المطلوب تحريرهم مقابل الرهائن، حصل عليها المخرج من ملف التحقيقات الرسمية في ميونخ، معظمها أسماء غير مقروءة، المقروء منها يبدو غير حقيقي، هل كان ثمة قائمة فعلاً؟ ليس الجواب مهماً.

عملية ميونخ، كانت اللحم الذي كسا عظام العرض، ستقول خضر -الشريكة في كتابة النص- في مصارحة مسرحية حول ظروف كتابة العرض وحول كونها فلسطينية، إن العرض ليس عن ميونخ، “إنه عن فلسطين”، كم كانت هذه العبارة متوقعة وكم هي مألوفة.

يمكن لأي متفرج أن يجادل بأن هذا ليس صحيحاً، العرض ليس عن فلسطين، إنه عن لحظة مهمة، ميونخ كعملية حدث فيها الكثير من العنف، وكان للصورة علاقة مباشرة في ذلك، ما قد يربطها على نحو ما بالحاجة إلى الصورة، والحاجة إلى منبر، الأمر الذي يدير أحداث العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين.

“عصر الصورة” وعروض العنف، كما عشناه في الأربعة أعوام الأخيرة شريك أساسي يقف خلف عرض مروة هذا، حيث نجد الكثير عن آليات إنتاج العنف عبر الصورة، عن الشعور بأنك تحت التهديد (طيلة العرض ثمة وعد بتفجير سرير على الخشبة)، عن فخ الوقوف/ الوقوع أمام الكاميرا، عن علاقة أية سلطة بموقعها من الكاميرا، عن علاقة المقاومة بالكاميرا، عن علاقة الإرهاب بالكاميرا، عن العنف حين يصير عرضاً، عن الصورة، الصورة، الصورة.

“في أنشودة الفرح” ثمة ثلاثة أنماط من الصورة، هناك الصورة الوثائقية، والصورة الراهنة التي تحدث على المسرح، وهناك الصورة الغائبة والمقصود ألا يتم عرضها، حتى إن قوّتها تظهر في استبعادها.

الصور الوثائقية تخدم كأدوات لإعادة تمثيل مسرح العملية، يروي مروّة حصول فريق العمل على الصور والوثائق التي طلبها من السلطات الرسمية في ألمانيا. نرى كذلك صوراً لفدائيين في السبعينيات التقطت لهم في استوديو وهم يتقلدون الكلاشنكوف، متخذين “بوزات”/وضعيات مختلفة. مفهوم أن صور الاستديو هي الوحيدة البلاأيدولوجيا، صور طريفة لأشخاص بالشارلستون يحملون الكلاشنكوف كما لو كانوا يحملون غيتاراً.

الصورة الأخرى متحرّكة وتمثل مسرح العرض، وهي ليست جديدة على مروّة وعلى هذا النمط من المسرح المابعد درامي عموماً، وفيها ينقسم العرض إلى قسمين؛ الأول نراه على الخشبة لحظة يحدث أمامنا، والآخر هو الفيديو كصورة طبق الأصل عن العرض لكنه مسجل، الأمر الذي يضع المتفرّج في حيرة، هل هذه الصورة للمؤدّين انعكاس لهم أم أنها تسجيل لما حدث في زمان ومكان آخرين؟

الصورة الغائبة تنقلنا فجأة إلى تدمر، حيث الجريمة هي ما يحدث في الظلام وبلا صورة على الخشبة، بينما هي تحت أضواء الإنترنت في الواقع. هنا يظهر نص مكتوب يروي كيف أعدم “داعش” 25 سورياً على المدرج الروماني في تدمر، في عرض مسجل بثه التنظيم كما لو كان مسرحية مرعبة. الصورة غائبة لأنها راهنة، لأن عرضها لن يعني شيئاً سوى أن يأخذ المتلقي إلى مكان ليس هو موضع اهتمام العمل.

تمثل عملية ميونخ 72 مسرحاً عنيفاً التقى فيه الشرق بالغرب، الاحتلال بالمقاومة، الإمبريالية بالقضايا العادلة، المشاهدون بعرض واقعي ونادر. هي أيضاً لحظة تاريخية غير مطروقة مسرحياً، مرتبطة بفكرة العنف والعرض Spectacle، العملية نُفّذت في حدث عالمي أمام الشاشات بقصد أن يشاهدها الملايين ولفت انتباه العالم إلى قضية عادلة. بُعدها التاريخي يجعلها الحكاية الأمثل للحديث عن كيف نفهم العنف؟ كيف يوظفه الآخر؟ وما علاقة ذلك بالصورة؟

لكن التحوّل من ميونخ إلى داعش خيار مروّة الخطر، يمكن أن نقبله لو سلّمنا أنه حين يعلن أن الجريمة هي تلك التي تحدث في الظلام يضع فرقاً واضحاً أمام الآلة الإعلامية والسياسية العمياء أو المتعامية التي تسمّي المقاوم الفلسطيني إرهابياً وتطلق الوصف نفسه على الداعشي.

وإن كنا سنفتش عن أي موقف سياسي للعمل، فهو لا يخلو من دلالات تؤشر هنا وهناك، يمكن أن يحس المتلقي أن هناك ميلاً إلى السؤال: هل كانت ميونخ حماقة؟ خطأً؟ إرهاباً؟ أسئلة لا تقال بفجاجة، تثار فقط، تسمعها مثل همهمة، لن يسمح لك العمل بالتأكد مما يقول بل الشك فيه، تحس بها وتنزعج منها، لكنك تستمر في المشاهدة.

 

نوال العلي

http://www.alaraby.co.uk/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *