رائحة حرب لا تحتاج إلى أنف قراءة في عرض مسرحية رائحة حرب عن رواية (التبس الأمر على اللقلق) لكاتبها الفلسطيني أكرم مسلم- بقلم: د.عماد هادي الخفاجي

 

رائحة حرب لا تحتاج إلى أنف

قراءة في عرض مسرحية رائحة حرب عن رواية (التبس الأمر على اللقلق) لكاتبها الفلسطيني أكرم مسلم

تأليف: مثال غازي – يوسف البحري

دراماتورج: يوسف البحري

أخراج: عماد محمد

تمثيل: عزيز خيون

د.عواطف نعيم

يحيى إبراهيم

بقلم: د.عماد هادي الخفاجي

يقدم لنا عنوان النص المُعد عن رواية (التبس الأمر على اللقلق) شفرة دالة تحاول الإيحاء بفرضية قرائية من خلال ما ترسمه من إطار سايكلوجي لفضاء التخييل الدرامي. فان يكون العنوان (رائحة حرب) هو تحييد وإسقاط للحواس العقلية الأكثر ارتباطاً باليات التفكير البشري (السمع والبصر) بما يكرس الحاسة الحيوانية وهي حاسة الشم والذي يحيل ذلك التكريس أصل الغريزة الحيوانية بالقتل والافتراس. فتُسقط تلك المقدمة النصية طابع الإنسانية عن عُزلة تلك الجماعة التي تجاور المقبرة ولكأنه مشهد حياتها قد تحدد بناموس الافتراس والموت الذي تطويه دفائن المقبرة. ومن هذه المقدمة يمكن أن نؤسس فرضية قرائية في بناء متن حكائي افتراضي يحوي شخصيات هي أقرب إلى الأنماط الرمزية التي وظفتها الدرامات التعبيرية أكثر منها شخصيات بشرية درامية نامية وهذا ما يبرر بناء الحدث الدرامي من ذروات درامية متراصة دون النمو العضوي أو الترادف السببي أو الاختلاف الجمالي فتمثل شخصية الجد نسق الخطاب التراثي المهيمن بلا فكاك على تلك العزلة البائسة وهو خطاب التقديس للموت وتكريس سمة القتل والاعتداء والاستباحة والتضحية في مفاهيم أخلاقية من مثل البطولة والشجاعة والإقدام والتضحية والفداء من اجل الأمة  من اجل الوطن…

فيقدم لنا الجد ذاته بوصفه رجل حرب فتتماهى لديه سمة الرجولة بسمة القتل والعدوان والاستباحة والاعتداء وفق تلك التبريرات الأخلاقية كما أنه يحاول أن يدين استمرارية تلك العزلة واستمرارية ذلك الانقطاع عن الخارج ما وراء جدران تلك العزلة. والشخصية الثانية التي أتت تكريساً رمزيا لنمط هي شخصية الجدة/الأم المنجبة للرجال المقاتلين المحاربين والذين يكونون رجال حرب أو ضحايا حرب بالمستقبل وهي تستعرض أبناءها الضحايا فتسرد سِفر موتهم العبثي تحت شعارات الجد رجل الحرب مع كل ذِكرى نجد همهمة بدائية وحشية تصدر من الجِد وهو يقول الحمد لله ولكأن تلك الضحايا قُدمت قرابين على مذبح الله الذي أمره كما يعتقد..لتمثل تلك الحمد لله نوعا من التبرير الأخلاقي وتحويل مفهوم الوقائع وقباحة الموت ووحشية القتال وهمجيته وتحويلها إلى فعل عبادي مقدس دينياً واجتماعيا ما بين هذين النمطين الجد  رجل الحرب  والجدة أم المحاربين والضحايا  يدور الحفيد اليتيم في محاولة لأدراك المعنى من وراء كل ذلك ولِمَ تلك الضحايا؟ ولِمَ الآباء يُساقون إلى الموت؟ يَقتلون و يُقتلون تلك الأسئلة ما بين الكشف والإضمار والإيحاء والتصريح تكون هي موضع التقابل الحواري ما بين تلك الشخصيات الأنماط الثلاث وهم يخوضون في عزلة الموت والفناء تلك بجوار المقبرة وحتى محاولات كسر تلك العزلة ما كانت تنتهي إلا إلى حقيقة فناء آخر وموت آخر فعندما يفترض الحفيد إن كسر تلك العزلة هو فعله الحضوري وتغيير واقعه وإعادة تشكيل مشهدية عالمه المستقبلي كان أن خاض فنائه في بحر المهاجرين أو الهاربين اللاجئين والذي ابتلعه وقدمه ضحية من عزلة الموت والفناء تلك.

إن الإعداد الدرامي لتك الرواية كان أن سحب فضاء التخييل الروائي المتمايز جماليا وفنيا إلى فضاء المسرح وهو ما يُعد خرقاً فنياً يؤشر على من تصدى لمسؤولية الإعداد الدرامي للرواية وخصوصا إن هناك تمايزات جمالية واضحة وحدود قطعية بينة ما بين التخييل الدرامي والتخييل الروائي فجاء النص الدرامي المُعد متخماً بالثرثرة واللغة الساردة المتواصلة بما يشابه متناً سردي أو قطعة نثرية بطريقة الإلقاء المباشر دون الالتفات إلى الخصائص في البناء الدرامي وحتى تلك الخصائص في البناء الدرامي سواء الأرسطي أو الملحمي فعانى النص من هُجنة تجنيسية وتجميع جمالي ترك أثره المخل في النص المسرحي وكذلك العرض الذي عانى من ذلك الارتباط فالنص المعد لم يفلح سواء بتقديم جمالية الحداثة بالوحدة ومركزية الثيمة والشخصية ونظم العلاقات الدالة ولا حتى جماليات ما بعد الحداثة بالتشظي والتفكك والتعدد والنهايات السائبة الذي يعيد وصلها الوعي الجمالي وإرادة الذات القارئة كما إن الاعتماد على بعض الجمالية التعبيرية بتشويش المسلمات المنطقية من الزمان والمكان لم يفلح في تأكيد الذروات الانفعالية التي مثلها السرد المشهدي حيث إن هنالك نوع من القطع المتعسف ما بين تلك الذروات والوصل الكيفي ما بين تلك الذروات بشكل مرهق اعتمد على حضور الثرثرة الصوتية باعتبارها واسطة الربط التقني هذا دون خلق مساحات زمنية للصمت الذي يمثل الفضاء الذي يعاد اكتشاف أبعاد الموقف فيه لكأن العملية مارثون صوتي من اللغة تتراكم بشكل كمي في النص وتجسيده على خشبة المسرح . إن الاختلال الوظيفي بفضاء التخييل الروائي بميكانزيماته الذي لا يمكن لها أن تخلق حياة درامية أو أن تحل بديلا جمالياً عن فضاء التخييل الدرامي قد أوقع كل من مهمة الإخراج والوحدة الأدائية للممثل والوحدة السينوغرافية بخطأ واضح. أما على مستوى التجسيد المسرحي فقد عانت رؤية الإخراج من مصائب جمة في معالجاتها الفنية نتيجة ذلك الارتباك الذي أوجده فضاء التخييل الروائي على المسرح لقوة حضوره بديلا عن فضاء التخييل المسرحي فجاءت تجسيدات تلك الرؤية الإخراجية مربكة ومشوشة اعتمدت عناصر تقنية في تعدد مستويات المشهد وخلق الإيهام بمجازات ذهنية أراد المخرج من خلالها تفجير الطاقة الشعرية في تركيباته السينوغرافية إلا إن العجالة كما نعتقد أو قلة الموارد المادية الموظفة في تلك المعالجات التقنية قد حالت دون التسيد الكامل لرؤية الإخراج أو حالت دون إطلاق الطاقة الشعرية في الشكل المسرحي المقدم ولربما من المشاهدة الأولى يمكننا أن نجد محاولة العبور على مبادئ حرفية الإخراج المسرحي على مستوى الميزانسين وبؤرة التركيز وخلق التكوينات في الشكل المسرحي وكما وقد افتقد الشكل إلى خاصية الاستقرار وضبط التتابع في وحدة إيقاع المشهد فاتخذ طابع لونياً واحداً والتسرد المستمر والتواصل في الحركة والصوت ليكون المشهد ركضة مارثونية من الافتتاح إلى الختام كما إن جهد الإخراج لم يحاول أن يخلق فلسفة علاقات ما بين مكونات الشكل المسرحي بما يطلق الطاقة الشعرية في المشهد فجاءت تعدد المستويات في المشهد حضورا متعسفا ميكانيكيا مبلبلا حيث عانت تلك المستويات ما بين شاشة العرض(السكرين) والخشبة من القطيعة في الإحالة والدلالة ناهيك عن الإقحام الذي سبب الترهل في الشكل المسرحي وهو مُسبب آخر من مُسببات افتقار العرض إلى الشعرية في الشكل واعتماده على التركيب المتراكم المادي للمفردات واستخدام التقنيات البصرية الرقمية خارج توظيفاتها الجمالية بما جعلها عاملا مميتاً في المشهد بحيث أماتت الوحدة الأدائية مثلما أصابت وحدة الإنشاء السينوغرافي بالتراكم الكمي.

 

التمثيل:

وعلى مستوى الأداء نجد طابع التشخيص الكاريكاتيري والمُرحل من جماليات الأداء التعبيري بتخليص الشخصية من متعلقاتها الإنسانية والبشرية وإحالتها إلى نمط رمزي عام يحمل سمات وتوصيفات حالة بعينها سواء طبقة اجتماعية أو جماعة أو نسق ثقافي ليكون أنموذجا ما لتلك الصفات والتوصيفات أكثر منه شخصية بشرية نامية وهي محاولة اعتمد عليها الفنان (عزيز خيون) بشخصية الجد إلا انه بتقديمه نسق رجل الحرب مثلّ التراث المميت لأمة كُتبت عليها عزلة الموت والفناء بجوار المقبرة إلا إن تكرار ذلك النمط في اغلب اداءات العروض المسرحية العراقية وحتى عروض المسرحية  العربية جعل منها بنية مقرورة ومعادة أكثر منها مكتشفة بفعل خلاق وربما كان ذلك التكرار هو بسبب الظروف البيئية الجامعة للبلدان العربية وتقارب ومشابهة معاناتها ووقائعها اليومية حيث كان الأروع والأجدى أن يتم ابتكار الشخصية الكاريكاتيرية ابتكارا خلاقا دون الاستعانة بتجارب أدائية سابقة سواء من المسرح العراقي أو العربي وكذلك شخصية الجدة التي أدت دورها الدكتورة (عواطف نعيم) وهي الأم التي تقدم الضحايا والقرابين في واقع عزلة الموت والفناء فلم تعالج تلك الشخصية الكاريكاتيرية أدائياً مما هو مطلوب من ابتكار وخلاقية ولكن تم إعادة تدوير تجارب أدائية سابقة من المسرح العراقي أو العربي أيضا. فيما أتت شخصية الحفيد الذي يؤدي دوره الفنان (يحيى إبراهيم)  فارقا أدائيا بارزاً إذ قدم أنموذجا خلاقا لشخصية كاريكاتيرية مبتدعة ومنتجة بحرفية عالية ومكنة أدائية وصوتية مميزة جعلت له موضع تبأير في المشهد.

التقنية الرقمية

أما على مستوى التقنية الرقمية فقد عانى العرض والوحدة الأدائية من مخاطر التوظيف المميت لها فقد كانت المعاناة واضحة على مستوى الموضوع والكيفية وزاوية تنفيذ الإسقاط فلا يمكن بأي حال من الأحوال من التبرير الجمالي  في شطر المشهد إلى مستويات عِدة وخاصة بأنه لا يوجد رابط دلالي فيما بينها وهو ما خلقه توظيف التقنية الرقمية الخاطئ لعرض جهاز الداته شو على السكرين في محاولة لتركيب منظر أو بيئة في المشهد إلا انه شطر المشهد إلى مستويين أدائيين بلا رابط لكل مشهد ثيمته وبنيته الموضوعية والأخطر من ذلك إماتة وحدة الأداء للممثلين وتشويه الشكل الأدائي الذي يضطلعون به من خلال زاوية الإسقاط الخاطئة والتي ألغت الحضور المادي للممثلين بالإضافة إلى ما رسمته على حركتهم وأجسادهم من تشويه وصور منعكسة. فالانقطاع بالدلالة وبالعلاقات الجمالية ما بين مستويين أداء جهاز الداته شو وأداء الممثلين قد خلق فجوة أدائية على خشبة المسرح أضرت بالجهد الجمالي في التلقي والمتابعة حيث بُثت الفوضى في الشفرات القرائية للعرض وفُككت المحاور الدلالية التي تستند إليها الذات القارئة /المشاهدة. هذا من جانب ومن جانب آخر الكيفية في التوظيف للتقنية الرقمية من خلال جهاز الداته شو المستخدم للنظام الرقمي اللوني الضوئي(RGB) إذ إن محاولة اعتمادها كمكون منظري أدى إلى اختلال في نسب المنظور في الشكل المسرحي على خشبة المسرح مما اثر على الحضور الطبيعي للممثل واضر بالميزانسين للمشهد وخاصة في مشهد عرض الداته شو للخارطة والذي اخل بالعلاقات المساحية التي شكلت الميزانسين وتوزيع الكتل وثقل الموضع للممثل أو الشخصيات وبالتالي كان الاختلال في تركيب بؤرة التركيز للمشهد وعموم التكوين فيه وعلى مستوى جانب التنفيذ كان الخلل واضح في زاوية الإسقاط والذي أنتج مجمل الاختلالات في الشكل المسرحي وبالتالي تشويه المشهد حيث كان يفترض أن يكون الإسقاط بزاوية 45 درجة لموضع ارضي ومن خلف السكرين لتجنب التشويه الذي حصل أو استخدام شاشات البلازما على خشبة المسرح وهذا يحتاج إلى مورد مادي كما قلنا مسبقا..

عموما ومع كل تلك الملاحظات نجد من الضروري أن نوردها بطبيعتها الحرفية والأكاديمية للحفاظ على الجهد المسرحي المخلص في محاولات بناء تجربة جمالية فارقة لتصبح علامة مضيئة وايجابية خلاقة نحترمها ونتوقف عندها إجلالا وتقديرا.

 

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *