«خيانة ».. تقانة المُنتج السينوغرافي – العراق

(لولا الخيانة التي تجذرت في النفوس ماوصل بنا الحال الى مانحن عليه الآن) , هكذا يُعلنها صراحة العرض المسرحي “خيانة” للفرقة الوطنية للتمثيل ببغداد والذي عُرضَ مساء يوم الخميس11/8/2016 والايام التي تلتهُ , وهوَ مُعد عن ستة نصوص شكسبيرية من قبل (صلاح منسي وجبار جودي) سينوغرافيا واخراج:جبار جودي , وحسناً فعل المُخرج” جودي” حينما اغترفَ من الخزين النصيّ الشكسبيري عبرَ علاماتهِ البارزة (عطيل/مكبث/يوليوس قيصر/الملك لير/ هملت/ريتشارد
الثالث).
وبدا ذلكَ واضحاً من المساحات الواسعة التي وجدَ فيها المؤدون أنفسهم وهُم يستنطقون شخصيات لطالما نظرنا إليها بوصفها من كلاسيكيات المسرح العالمي , لكن مع أداءات كُلاً من (سوسن شكري/خالد أحمد مصطفى /بشرى اسماعيل/أياد الطائي/مازن محمد مصطفى/ضياء الدين سامي/طه المشهداني/ والشابة شروق الحسن /والاداء الصوتي لحيدر منعثر) الذين جسدوا وعلى التوالي شخصيات (دزدمونة /الليدي مكبث/اوفيليا/عطيل/مكبث/يوليوس قيصر/الملك لير/ هملت/ريتشارد الثالث) , وجدنا أنفسنا قُبالة مؤدو تلك الشُخوص قد قاموا كما يُسميه(بروك) بـ” إشعال فتيل المتعة المسرحية “ فينا , وبالتالي فإن انضباطهم العالي وبالأخص المُمثلين(خالد أحمد مصطفى/بشرى اسماعيل/أياد الطائي/مازن محمد مصطفى/ضياء الدين سامي) في تسيير عمل منظومتهم الصوتية والجسدية بالتوافق مع تقنية التقطيع الصوري التي لجأ إليها المُخرج باستخدامه “الداتاشو” والمثابات الصورية “IMAGE” .وقد عرفَ المسرح عموماً استخدامات مُماثلة تُفضي الى أنسنة موجودات فضاء العرض ومنها الصورة واللوحة التي غالباً ما يتم عرضها ليُصار لاحقاً الى تفكيك عناصرها تحقيقاً لأنسنتها على خشبة
المسرح.
لكن في “خيانة” ثمة إعادة بناء عدة عناصر مستلة من مصادر عدة , ليتم إعادة لصقها في هيئة متواليات صورية ,أُريدًّ لها أن تكون مُعادلا موضوعيا للملفوظ الحواري بشاعريتهِ المعروفة حينما هيمنَ بشكل مؤثر على مُجمل أنساق العرض , وبالتالي تحققَ لـ”جودي” ما يلي :
1. تمظهر خطاب العرض المُتكئ على الملفوظ الشكسبيري في صورة كولاج مسرحي , بعد أن أسعفتهُ مرجعيتهِ الأساس بوصفهِ صانع سينوغرافيا يتصف بالمهارة .
2. التخلص من شَركَ النص الشكسبيري , عبرَ إسقاطهِ على الواقع العراقي المُعاش ,عبر فعلَ المُزاوجة بين عدة شخصيات مُستلة من هذا النص أو ذاك ,وهوَ ما يُحسب للمُخرج .
أزعم أن مثل هذه النوعية من العروض , دائماً ما يسبقها قطع أشواط طويلة ومُتقدمة من العمل الورشوي اليومي المُنضبط ,الذي يعتمد بشكل تام على وعي المُخرج, الذي يكون خالق تلك الورشة , فضلاً عن الذوات الذين يُشاركون في أشواطها , ولا نعني هنا فقط المُمثلين , لا بل جميع المُساهمين فيها بدءاً من مُعد النص ومراقبي العرض وصُناع الأزياء والاضاءة والموسيقى والمؤثرات الصورية والصوتية والصوتيات عموماً والمرئيات وتقنيات الخشبة والماكياج والكوافير والكهرباء
والديكور.
فالمُحدق في ثنايا عرض “خيانة” بجميع مفاصلهِ , يجد ان هذا بدا واضح الوجود والفعل والتحقق , لأنكَ إزاء مُنجز يعتمد في كُل مراحل إنتاجهِ وصولاً الى لحظة ختام العرض على تجميع عدة تقنيات والمزاوجة في ما بينها وصولاً الى تحقيق عرض مسرحي كامل لا يشبه الا نفسه , وهذا ما يُميز العروض المسرحية التي يصنعها مُخرجون هُم بالأساس سينوغرافيين، فتجد جميع مبثوثات العرض الفكرية منها والفنية تعتمد على جميع مُعطيات التشكيل أساساً لصناعة هذا العرض دون غيرهِ وهناك تمثلات عديدة في عروض قائمة طويلة من المُخرجين لعل َ أبرزهم (آبيا) و(مونجيك)..
وغيرهم . “خيانة” عرض نجحَ في استفزاز الذائقة الصدئة , فهوَ تلصيق لثيمات الخيانة المُتعددة , جسدتها شخوص شكبيرية خالدة عبرَ تمرحلات أدائية عالية ومُنضبطة لثُلة من مسرحيينا الأفذاذ , هوَ عرض أفلحَ صانعوهُ في اختياراتهم النصيةَ (ملصقات من نصوص شكسبير وشخوصهِ) وتشكيل فضاء العرض(سينوغرافيا باعثة على الدهشة) وأداء مُتقن (مؤدون تفوقوا على أنفسهم) وإيقاع منضبط (مُخرج عارف
بأدواتهِ).
فقد أجادَ المُخرج في الاستفادة القصوى من مرجعيتهِ الأولى بوصفهِ سينوغرافياً , وهنا نجد اسقاطات ذلكَ تتجلى في توظيف عدة تقنيات داخل جسد العرض , يقف في المُقدمة توظيفهِ لتقنية “القص واللصق” على صعيد المتن النصي عبرَ تمظهرات تهجين النص الشكسبيري الذي بدا مُهيمناً على مُجمل أنساق العرض . كما عمدَ “جودي” الى استثمار التقطيع الصوري بُغية تحفيز البُعد الدلالي لماهية الحضور الراسخ لشخوص (خيانة) ولتكوّنَ بذلكَ واحدةً من أهم مثابات المسرح العراقي بعد التغيير . أٌعلن انحيازي الكامل لهذهِ التجربة المسرحية , التي أدهشتنا جميع أنساق صنعتها الجيدة , “خيانة” لجبار جودي.. عرض مسرحي سيعلق بالذاكرة المسرحية طويلاً وهوَ واحد من أهم ما قدمهُ مسرحنا العراقي خلال العقد الأخير.

———————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – بشار عليوي – جريدة الصباح

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *