خطاب الأزمة.. قراءة في مسرحية “ابصم باسم الله” زهير الجبوري

تتواصل تجربة الفنان ثائر هادي جبارة المسرحية في موسم جديد له ومسرحية (ابصم باسم الله) التي قدمها في الأول من شهر محرم الحرام من هذه السنة (2016)، وهي من تأليف الفنان والمخرج (سعد هدابي) واخراج الفنان ذاته ، عرضت على قاعة النشاط المدرسي في بابل ، والعمل هذا اشتغل على طريقة (الموندراما)، مع مشاركة فرقة (مالتوس) الشبابية التي ساهمت في بعض المشاهد..

تبدو مسرحية (ابصم باسم الله) ذات بعد خطابي للوهلة الأولى من حيث بنائها الموضوعي ، بالاعتماد على فحوى النص الذي كتبه المؤلف لقراءة واقع الهجرة الكبيرة التي شهدها البلد في الآونة الأخيرة عبر البحر ، وهو موضوع معاصر وقابل للجدل ، غير أن الأخذ به داخل بنية العمل الفني يأخذ مجالات تلقى خاصة، مجالات تشترك فيها عوامل (النص) و(الأداء) و(الحيز) ، بالاضافة الى المؤثرات المكملة للعمل ، وهنا تصبح وسيلة التعبير (رمزية)، بلغة مجردة خاضعة لجماليات فنية صرفة ..
ثائر هادي جبارة في هذا العرض حافظ على نسقه في الأداء ، واعطى سمة الفنان الذي يمتلك اسلوبه الخاص ، رغم انه حاول ان يكسر نسق الشخصية ، بخاصة انه يبحث عن التجريب ومغايرة الثابت في العرض عامة او الشخصية خاصة ، فقد فعلها في اعماله السابقة ،وبرهن على القدرة التي يتمتع بها في تقديم ما هو جديد ومغاير ..
بدأ العرض في ظل وجود (سينوغرافيا) محيطة بالمسرح لـ(النجادات المعلقة على الجدران ) و(الاطارات البلاستيكية الملونة) و(الحقيبة) و(الشراع) المرسومة عليه صورة (ميركل) والخلفية السوداء لعمق المسرح ، فكان (الصوت) الذي قام بأدائه الفنان القدير(غالب العميدي) استهلالا لبداية المحنة للانسان الباحث عن (يوتوبيا) المدن الفاضلة وهو يردد (ممكن):( ليس في قاموسنا هناك كلمة ممكن .. من أنت ) تأتي الأجابة (أنا العبد الفقيرالهارب ) ، وهنا تأتي فكرة العمل وهي كاشفة عن قصدية مضمونية استرجع خلالها عذابات الانسان العراقي منذ عقود ، بعد تهديم البنى الاجتماعية والفكرية من خلال استذكار حالات استلت من واقعنا المأزوم للمعلم الذي يمتهن صباغة الأحذية بحثا عن لقمة عيش تسد رمقه ، والمدرسة التي تحولت الى مكان لوقوف السيارات ، وسالفة الحاج موحان ، وما الى ذلك ، بالاضافة الى سلوكيات القبح التي بانت على جوهر الانسان في تلك الحقبة ، لكن الحقيبة التي احتوت بداخلها الأوراق اختصرت في مضمونها ما احتوته من تاريخ مشحون بألم ..
ومع وضوح قصدية العمل في (ابصم باسم الله) ، الاّ ان المشاهد التي قدمها شباب فرقة مالتوس (حسين مالتوس .. جعفر العكيلي .. عبد الله غالب .. علي رهيج ) اعطت سمة اخرى للعرض من خلال الأداءات المتماهية مع وحدة الموضوع ، اداءات كسرت نسق الصعود التراتبي للفنان (ثائر) الذي اخذت حواريته تتمتع بشيء من الحدة (لفونيمات) صوته ، وهي بذلك سحبت المتلقي الى فعل الانتباهة إليه من دون النظر الى العلامات الأخرى المكونة للعمل ..
كما لفت انتباهي ان المؤثرات الموسيقية لم تكن كافية ، بخاصة اذا ما ادركنا ان مثل هذا العمل يحمل من الناحية المضمونية سمة المغامرة ، مع المحافظة على التحولات المتناظرة مع كل مقطع مشحون بقراءة جديدة ، ومع كل محطة يبصم بها ذلك الأنسان الباحث عن جنته الافتراضية ..
اما ثيمة الشراع الذي انتصب في منتصف المسرح ، فقد اسثمر استثمارا تجريدياً مختزناً للكثير من المعاني ، فلم يكن ذا بعد دلالي واحد كوظيفة سيميائية فحسب ، انما ازدحمت فيه الوظائف الفنية لكلا وجهيه ، بل يشعرنا الثنائي الفاعل والمحرك مع الممثل ، فالوجه الأول الذي بانت عليه صورة (ميركل) ـ الرئيسة الألمانية ـ الرمز المهاجر اليه ، اعطت شكلا معيناً لقراءة معينة ، والوجه الآخر ، تناسقت في علامات الألوان للعلم العراقي الذي ما ان اكتملت ألوانه على يد الفنان ، انتهى العرض ، وهاجر العراق ضائعاً في البحر .
في حين لعبت شخصية (ثائر هادي جبارة) بعيداً عن المؤثرات الأخرى دوراً مهارياً في سرعة التوصيل وطريقة ايصال المعنى على الرغم من قلة (الماكيير)، وحين تصبح فكرة العمل المسرحي واضحة وحاضرة في تفاصيل حياتنا ، يبقى على المتلقي المختص ان يبحث في فنية الأداء وطريقة بناء الشخصية والدور الذي لعبته ، وقد شدّ الفنان جميع الحضور وكانت هذه اهمية العرض بالنسبة اليه ..
ككل، المسرحية هذه بكل ما قدمته من تفاصيل فنية من تأليف واخراج واداء ، فانها تعد ملحمة الزمن الحاضر وخطاب الأزمة الحقيقية التي يعشها انساننا الآن في ظل ضياع الهوية الوطنية التي كان للسياسي العراقي الدور الكبير فيها ، ولعل الفنان ثائر هادي جبارة لاحق التحولات الجوهرية للأزمة العراقية لما بعد (2003) واشتغل عليها مسرحيا في اعمال سابقة (كما اشرنا اليه)..

المصدر/ المدى

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *