“حوارات في المسرح العربي” للمخرج المغربي عبد الجبار خمران السؤال والجواب فنّ يفتح الباب للنقاش والتأويل واقتراح الأفكار

ليس كتاب”حوارات في المسرح العربي” للممثل والمخرج والإعلامي عبد الجبار خمران، الصادر عن “دار فوانيس”، مجرد اسئلة وأجوبة بالمعنى الصحافي التقليدي، بقدر ما هو حوارات تتبع تطور بعض المفاهيم والمسارات المسرحية والدراسات النقدية والتجارب الريادية لثلة من رجال الخشبة على اختلاف مساحات اشتغالهم في مجالات المسرح المتعددة.

يقبض المؤلف في هذه الحوارات المتباعدة في ازمنتها والمتقاربة في محاورها تقريبا، على لحظات تجلٍّ فكرية لمجموعة من المبدعين والنقاد المختصين في المسرح، لا لغرض التوثيق فقط، وإنما لتسليط الضوء أيضا على المسرح كتجربة جمعية تشترك في انتاجها عناصر عدة، وكفنّ درامي، وكتطبيقات نقدية، وكمختبر فكري متحرر، راصدا في اسئلته المثقفة والعميقة العديد من المشكلات والتحديات والحساسيات المسرحية والنقدية، التي تقدم لنا في كليتها العالم السحري للمسرح، وكيفية تشكيله بالكلمات والأشكال والصور، معتمدا اسلوب أسئلة تستنطق الآراء والتحليلات الفكرية، التي اصبحت في هذا الكتاب عبارة عن منجز ابداعي مكتمل تقريبا، يمكن الذهاب به نحو الطلبة والدارسين المختصين ونحو القراء، كمحصلة نهائية، ودعوتهم بشكل ضمني للتفكير، ولإثارتهم وإغرائهم والتجوال معهم في اروقة المسرح، والدخول معهم في علاقة، الهدف منها انتشالهم من سلبية سكونهم المفترض.
السؤال والجواب في هذا المنجز، بمثابة فن، واختزال لنظرة الفنان والناقد إلى العالم، التي من خلالها يمكن إمرار الرسائل، وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي تكاد ان تكون شائعة، وفي الوقت نفسه، فتح مجال للنقاش والتأويل والقراءة. السؤال والجواب، يعنيان بإعطاء معنى للأفكار، فهما يستجوبان انسانيتنا والقضايا الجيوسياسية، ويسائلان العلاقة ما بين الواقع والخيال، ولا سيما ان الخيال بموجب بيتر بروك، هو عضلة لابد من تدريبها والسهر على تكوينها، وخصوصاً عندما تصبح ابداعا وقدرة جريئة للذهاب نحو الاخر الذي لا نعرفه بالضرورة.
عباس ابرهيم، محطة الكتاب الأولى، حافلة بالذكريات والحوادث والعناوين والتاريخ والشخصيات. فهو رجل مسرح من الجيل الوسط في المسرح المغربي، اشتغل مع الرعيل الأول والجديد معا، وجعل من المسرح مسألة ورؤية شخصية منذ احترافه للمسرح وتأسيسه مع عدو امبارك وعبد اللطيف الدشراوي فرقة “القناع الصغير” في سبعينات القرن الفائت. وليس مصادفة ان يلتقي به خمران، في “مقهى سارة برنار” قرب “مسرح المدينة” بباريس، ويجري معه الحوار عن بداية تعلقه بالمسرح، ودخوله المعترك الفني في المعهد الوطني للموسيقى والرقص وفن المسرح بالرباط، عندما كان في السابعة عشرة، حيث تتلمذ على ايدي اساتذة مهمين امثال محمد سعيد عفيفي، الذي فتح عينه على أهمية التعبير الجسدي في التمثيل، والأستاذ الفنان فريد بن مبارك، الذي يعتبر أول من اهتم بفن الإيماء بالمغرب، وهذا راجع لدراسته في مدرسة جاك لوكوك، ولولاهما كان ليستمر بممارسة المسرح. فمعه تعلم الفنان عباس ابرهيم تقنيات المسرح ومعنى التضحية وارتباط هذا الأخير بهموم الناس.
يشرع عبد الجبار خمران نافذته على قامة مسرحية نقدية كبيرة رافقت تمفصلات المسرح المغربي والعربي وحفرت في اكثر التجارب المسرحية العالمية سواء في الماضي والحاضر، من خلال كتبه العديدة وبحوثه المتواصلة وترجماته وتدريسه لأجيال المسرح المغربي المعاصر، إلى درجة ان تلامذته الذين باتوا اليوم اساتذة وكتابا ومخرجين وممثلين وسينوغرافين كبارا، ينادونه “با حسن”، وليس دكتور حسن المنيعي، وهذا اعتراف ضمني بأبوته الروحية والمعرفية عليهم.
وقد كرس له عبد الجبار خمران مكانة لا تليق إلا بأمثاله من الاساتذة الكبار، الذين يعتبرون ثروة وطنية وعربية وعالمية، حيث تجول معه في اروقة النقد المسرحي ووظيفته الفنية في الانتاج المسرحي، من المنظور الصحافي والاكاديمي، وفي اهمية المقامة ومساهمتها في ظهور الرواية، وتأثيرها في المسرح العربي، وتحدث معه عن تقسيمات المسرح المغربي قبل الاستقلال وما بعده وفي الوقت الحاضر، وعن الفرق بين مسرح الهواة والمحترفين، وعن مكانة المسرح الجامعي وأهميته، وعن كتبه العديدة وفي مختلف المجالات بما فيها الفن التشكيلي، وعن التحولات الجادة التي حققها المسرح المغربي في السنوات الأخيرة، والحراك الذي احدثه المعهد العالي للفن المسرحي في المغرب، منتهيا معه في الحديث عن الجمهور، الذي هو ملك الحفل وسيده الأوحد. ولقد جاءت اجوبة ابي حسن المنيعي مكثفة ومليئة بالأفكار والدروس العلمية العارفة بهموم المسرح نظريا وتطبيقيا، وهذا ليس بمستغرب او مفاجئ من قامة انسانية ومعرفية وموسوعية، مثل الاستاذ والمفكر حسن المنيعي.
المحطة الثالثة يكرسها عبد الجبار خمران، لتجربة المعلم المسرحي فاضل الجاف الذي لا يمكن الحديث عن مايرهولد في الوطن العربي من دون الرجوع اليه والى ورشاته العديدة. ثم ينتقل بنا، الى الدراماتورج عصام اليوسفي والحديث معه عن فترة ادارته معهد الفنون المسرحية في المغرب ومنهجيته وتطلعاته المستقبلية وأهميته في اثراء المساحة المغربية بممثلين ومخرجين وأساتذة تنشيط ثقافي.
ثم يذهب “كتاب حوارات” الى مجال الثقافة الرقمية واهميتها كوسيلة عالمية ووسائطية للتواصل الثقافي والإنساني،من خلال محاورته مؤسس اول موقع الكتروني تقريبا، “المسرح دوت كوم”، الناقد والاستاذ المسرحي المصري السيد سباعي. لكي يعود بنا الى قامة نقدية كبيرة أخرى، بمحاورته رئيس المركز الدولي لفنون الفرجة، الدكتور الباحث خالد امين، الذي يعتبر ان النظرة الى اعمال الجيل الجديد من المسرحين المغاربة والعرب تصعب مقاربتها من منظور نقدي تقليدي، لانفلاتها عن التسنين المسرحي الخطي، وإرباكها لمفهوم التمثيل المسرحي، باعتمادها كتابة شذرية وانساق دلالية ووسائط مختلفة. وهذا ما يؤكده قول عبد الجبار خمران في قراءته لأحد كتب الباحث “المسرح ودراسات الفرجة”، الذي يؤسس فيه لمنعطف نقدي غير تقليدي يتجاوز حدود التفسير والتحليل ليفتح الخطابات المسرحية النقدية على مفاهيم متجددة وعلى افاق للاشتباك المتفاعل مع تجارب فرجوية (…) تؤسس لمسرح ما بعد الدراما بعيدا عن المركزية الاوروبية او أي تنميط للثقافات المسرحية غير الغربية، ترتكن الى جوهر الثقافة المتمثل في التجدد المستمر لبيئة اختلاف.
بعد ذلك يلقي خمران الضوء على تجربة حازم كمال الدين، التي لا يمكن اختصارها هنا، لأن هذا الفنان قد لامس العديد من مجالات الاشتغال الثقافي. كتب القصيدة والقصة والرواية والمقالات والدراسات فضلا عن نصوصه المسرحية وأعماله المسرحية التطبيقية. ثم يعرج على تجربة المخرج المسرحي خالد طامير وازدواجية ثقافته المغربية والفرنسية التي تجعله يفيد من اشكال الفرجة الحديثة مع الحفاظ على موطئ قدم راسخ في الثقافة المغربية. ثم يصل بنا الكتاب الى تجربة المخرج المسرحي الاردني خالد الطريفي الذي تحدث في هذا الحوار عن المسرح بأدواته، موظفا الحوار والصمت والإشارة الركحية ليغوص في مقولات صيادي الاسماك الصغيرة.
المحطتان الاخيرتان للكتاب، يكرسهما لتجربة الفنان العراقي المقيم في الولايات المتحدة الاميركية، ميثم السعدي، صاحب مشروع ثنائية العرض المونودرامي، الذي اثار الكثير من اللغط والنقاشات التي لم تنته حتى هذه اللحظة، ولتجربة الدكتور رشيد امحجور كمخرج ومؤلف “النبش الأول في مسرح الدمى في المغرب”، و”المسرح في السجن”، بالاضافة الى مشاركاته في المؤلفات الجماعية للمركز الدولي لدراسة الفرجة في طنجة.
لا يمكن التوقف عند محطات هذا الكتاب الكثيرة، ربما لأن عبد الجبار خمران، قد فعل ذلك في تقديمه، وربما ايضا لأننا لا نريد ان نفضح اسرار القيمة الجمالية لنوعية اسلوب المحاورات وشعريتها، التي بدت لنا منذ الوهلة الأولى ذات طبيعة مختلفة عما هو تقليدي.
انه كتاب غاية في الأهمية، اولا، لأنه يجمع ما بين التوثيق الذي يثير الفضول والتساؤل، وثانيا، لأنه يغوص في الاعماق السحيقة لتجارب مجموعة من المبدعين غير العاديين. وثالثا، لأنه كتب بأسلوب مثقف وشيّق سلس، ما ان نبدأ بقراءته حتى ننسى أنفسنا، لثراء افكاره واختلاف محطاته، واهمية محاوريه.

 

محمد سيف
http://newspaper.annahar.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *