حملت أبي على كتفي” فرنسا المسحوقة في عمل مسرحي / أبو بكر العيادي

 

مسرحية “حملت أبي على كتفي هي عبارة عن قصيد ملحمي يعطي الكلمة للمنسيين والمهزومين ويجسد بالتمثيل المسرحي بحثا فلسفيا وهوويا.

حملت أبي على كتفي” التي تعرض حاليا على خشبة مسرح “رون بوان” بالعاصمة الفرنسية باريس استوحاها فابريس ميلكيو من بعض أناشيد “إنياذة” فرجيليوس لصياغة ملحمة معاصرة، تدافع عمن سحقتهم الحياة، وربط الراهن بالأساطير الغربية المؤسسة، تولى إخراجها أرنو مونيي.

بعد أن غاص المخرج أرنو مونيي في عالم المال والسياسة الذي اتسم به مسرح الكاتب الإيطالي ستيفانو ماسّيني، واستكشف الوجه المظلم للسلطة في نصوص الأفروأميركية أليشيا هاريس، أقبل على مساءلة الوضع الاجتماعي في فرنسا من خلال نص لأحد كتاب المسرح البارزين هو فابريس ميلكيو، جمع فيه نخبة من الممثلين في مقدمتهم فيليب توريتون ورشيدة براكني.

وتصوّر مسرحية “حملت أبي على كتفي” التي تعرض حاليا على خشبة مسرح “رون بوان” الباريسي حياة مجموعة من الأصدقاء يعيشون في حي من المساكن الاجتماعية (تعرف هنا بمساكن ذات إيجار معتدل Habitation à Loyer Modéré)، حياة خصاصة وبطالة وضيق، ويحاولون رغم ذلك تجاوز ضيقهم بمساعدة بعضهم بعضا، ولو معنويا.

مسرح الأحداث مكعب من الخرسانة وضعه مهندس السينوغرافيا نيكولا ماري، يتألف من طابقين؛ علوي يسكنه روش (فيليب تورّيتون) وابنه إيني (موران أولّاس)، وأنيسة (رشيدة براكني) وسيليست (بينيديكت مبامبا)، وأرضي حيث مطعم “شيش كباب” يلتقي فيه الجميع؛ كغرينش، أقدم أصدقاء روش (فانسان غارَنجي)، وباكو (فريديريكو سيميدو) ومراد (رياض قحمي) صديقي إيني، ووسط تلك الشخصيات يحوم شبح ابنة غرينش (نتالي ماتر).

استلهم فابريس ميلكيو فكرة نصه من الأناشيد الأولى لإنياذة فرجيليوس، وجاء فيها أن الأمير الطروادي إينياس غادر طروادة بعد سقوطها حاملا على كتفيه والده الضرير المقعد أنخيزيس، ولو أن إيني بطل المسرحية لا علاقة له بالبطل الأسطوري إلّا من جهة حمله هو أيضا والده المريض في رحلة باتجاه الغرب.

ملحمة عصرية تعبر عن عبثية الراهن
ملحمة عصرية تعبر عن عبثية الراهن

وقد حاد ميلكيو عن الملحمة التراجيدية لينزل أحداث مسرحيته في فرنسا الراهنة، ويكتب كوميديا واقعية واجتماعية، واصفا بدقة نفسية الشخصيات، دون استدرار للشفقة، أو وقوع في الكاريكاتير، إذ عمل على تصوير العلاقات الإنسانية، بحلوها ومرها، حيث الحب والصداقة، وحيث الخيانة أيضا ونكث الوعود، ولكن الفضاء الاجتماعي يعرف دائما كيف يجمع بين المختلفين، ويعيد العلاقات إلى صفوها الأول..

“لا أخسر كثيرا، فالحياة لم تمنحني سوى القليل”، كلمات قالها روش في نوع من التسليم بالأمر الواقع، دون غضب أو أسى، وهو الذي أصيب بمرض عضال لا أمل في شفائه.

يعيش أيامه الباقية من عمره في حي بإحدى ضواحي مدينة سانت إتيان، دونما ضغينة، برغم حياة الضيق التي عاشها، وزادها المرض عسرا، وإلى جانبه ابنه إيني، الذي سوف ينظم له رحلة أخيرة، رحلة عجيبة إلى ما يجهل فيما مضى من حياته، وجيران من مختلف الأجيال يتقاسمون المصير الذي فرضته الحداثة، مصير الانسحاق والإهمال والنسيان.

لقد نجح ميلكيو في رسم تلك المشاعر والمواقف، ولكنه كان أقل إقناعا عند انتقاله لنقد الواقع السياسي والمجتمعي، إذ صار الخطاب أقرب إلى المباشرة، وأساء إلى نبرة النص الفنية، فالنص هو عبارة عن قصيد ملحمي يعطي الكلمة للمنسيين والمهزومين ويجسد بالتمثيل المسرحي بحثا فلسفيا وهوويا، من خلال حكاية مؤثرة عن برّ ولد بأبيه.

ولئن أبدع فيليب تورّيتون في أداء دور الأب المصاب بالسرطان، والمحمول على كتفي ابنه حتى آخر رمق من حياته في رحلة طويلة نحو البرتغال، فإن بقية الممثلين حملوا هم أيضا تلك الملحمة باقتدار طيلة نحو ثلاث ساعات، ولا سيما مشهد حفل الوداع على وقع أغنية الإنكليزي موراي هيد Say It Ain’t So Joe  في كوريغرافيا بديعة من نسج سيسيل لالوا.

رحلة عجيبة
رحلة عجيبة

في إخراج حرص على إيجاد توازن بين دقة الواقع وحساسية التخييل، نهض الممثلون الثمانية بأدوارهم كأحسن ما يكون، وجاءت الملحمة التي أدوها صورة صادقة عن فرنسا السفلى كما يقال، فرنسا القاع، تلك التي يسكنها مواطنون من درجة ثانية، تلك التي نراها الآن تتمرد على أوضاعها في سائر المدن الفرنسية في ما عرف بـ”السترات الصفراء”، رغم أن النص كتب عام 2015.

لقد استطاع أرنو مونيي تقديم ملحمة عصرية تعبر عن عبثية مرحلتنا، بمخاوفها المرعبة وأسئلتها الحارقة وانطوائها الرافض للآخر، وأنانية أهلها الباحثين عن الخلاص فرادى، كل يفكر في مصيره على حِدة، كل تلك الثيمات أثيرت هنا في شيء من المزح والسخرية والدعابة، الذي قد يبدو مناقضا لواقع الحال، ولكن تأثيره كان أقوى مما لو اعتمد الخطاب نبرة حزينة.

وقد تجلت قيمة نص فابريس ميلكيو في قدرته على جعل المتفرج ينتقل من الضحك إلى البكاء من خلال شخصيات ذات حس إنساني عميق، لا تقضي الوقت في التذمر من الصعوبات التي تلقاها في وجودها على الأرض، بل تحوّل مكابدة العيش تلك إلى مادة نقاش ذات أبعاد فلسفية، وإن بدأت بسيطة، ملتحمة بالواقع، فتنتقد الحياة التي تحياها في طرافة يضج لها المتفرج ضحكا، ولكنه ضحك كالبكاء، لأنه يعرف أنه يضحك من واقع بائس، قد يصيبه هو أيضا، إن لم يكن من علية المجتمع التي لا تدركها الزلازل والهزات.

_______________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *