حادثة آرثر ميلر في لندن مسرحية كلاسيكية كأنها كتبت اليوم

كتب ميلر المسرحية خلال محاكمة النازي غيخمان

 

 

 

هالة صلاح الدين

‘حادثة في فيشي’ ليست مجرد مسرحية عن تضحية غريب من أجل غريب. تلك عدسة مكبرة على شر متضخم يُهلك بلا شفيع.

يعرض مسرح فينبورو اللندني مسرحية “حادثة في فيشي” (1964) للكاتب الأميركي آرثر ميلر أعظم كتاب المسرح في القرن العشرين. امتدت مسيرة ميلر قرابة سبعة عقود كتب فيها العشرات من المسرحيات، ومن أجودها “كل أبنائي” و”موت بائع متجول” و”البوتقة”. ومع صعود اليمين المتطرف على جانبي الأطلنطي، الرئيس الشعبوي ترامب من جانب والمعارضة القومية الأيديولوجية في أوروبا من جانب آخر، يستجيب مسرح الهامش البريطاني بعرض نص تأثر بالفاشية في الحرب العالمية الثانية واستلهمه ميلر من أحداث حقيقية بمدينة فيشي الفرنسية.

حين عُرضَت المسرحية للمرة الأولى وسمتها جريدة نيويورك تايمز “كواحدة من أهم المسرحيات في عصرنا”. والمسرحية المكوَّنة من فصل واحد لا تنبري للدفاع عن عرق معين وإنما عن إنسانية مشتركة حصرتها زنزانة التطرف والاضطهاد، إنسانية تغلبت على أبشع نوازعها من تطاحن وتَرَدٍّ.

والهاربون من التردي هم ثلاثة عشر ممثلا قادمون من مختلف مشارب الحياة، اكتظت بهم خشبة المسرح اكتظاظاً وأثقلوا ميزانية شركة الإنتاج.في حجرة الاعتقال بمركز الشرطة عام 1942، نتعرف على رجلين لا يمسكان عن السجال هما الممثل بريندان أورورك في دور كهربائي شيوعي معنيّ بالسياسية، والممثل جيثين أولدمان في دور طبيب نفسي. ومعهما ممثل وغجري ورجل أعمال وصبي يطغى عليه الرعب بلا مسوغ، ويهودي عجوز يتشبث بوسادة من الريش بساعدين كليلين، وأمير نمساوي خفيض النبرة يعشق الموسيقى ويحاول حماية فنانين يستهدفهم الرايخ، ورسَّام سرعان ما يكوِّن العداوات بهذره الهستيري عن مخاوف يعايشها الجميع، ولكن بصمت، مما يجعلنا نتذكر المواجهات في مسرح كافكا.

الجزء الأول من المسرحية قوي الحبكة، وفيه يرسم ميلر صورة مرعبة لعملية يؤدلج فيها المذعورون علامات التحذير لكارثة وشيكة. فترة من التقلقل الحقيقي، يصير الشخصي سياسياً بقوة الظرف، لا الإرادة
لم يكونوا جميعاً يهوداً، إذ لم يخترهم نظام الرايخ لدينهم فحسب وإنما لاختلافهم السياسي مع المحتل. وقد تخيل ميلر أعداء للسلطة بلا أسماء تميزهم. كلهم ينتظرون الفحص على يد ضباط يتظاهرون بتحقيق العدالة، فحص الأوراق وفحص القضبان! لا بد للألماني البيروقراطي من التثبت، فالتثبت في مكاتب الدول العتيقة مرادفٌ لليقين والواقع والحق. وهكذا ينزع عن اليهودي ملابسه حتى التجرد بحثاً عن إمارة الختان.
سخرة متعلمة

لا أحد يبلغ الرجال بسبب القبض عليهم أو بميعاد المغادرة. تمنّوا في البداية لو يقتصر الأمر على فحص أوراقهم الثبوتية ثم إطلاق سراحهم. تسري شائعات بمعسكرات عمل إلزامية في بولندا. ينبذ أسيران الفكرة، رافضين تصديق أن الشعب الألماني “المتعلم تعليماً عالياً” قد يدعم هذه السخرة.

قليلٌ منهم خرجوا إلى الشوارع ولا أحد يعلم مآل الباقين. حرص المخرج البريطاني فيل ويلموت على إقحام عدة خُطَب للمغالاة في مصيرهم وتحويله قسراً إلى مأساة يهودية كونية. وعلى عكس نية المخرج بالتأكيد، لاح النازيون كشخصيات كاريكاتورية مسلية، هم ضباط موهومون بالروتين الحكومي، رجال أبرد من الثلج، ولكنّهم غير مقْنِعين كخطر يتهدد العالم. وأكثر ما يضحكنا هو بيروقراطية الألمان وعشقهم للأرقام.

لا نقترح هنا أن يقص المخرج ويلزق نص ميلر الأصل، فالمساحة حرة للتطوير والتجديد، وهنا تكمن عظمة مسرح ميلر. ولكن يتجلى لنا أنه قصد حشر سلطة ما في حلوقنا، سلطة اللوم التي تُفتّت الذنب وتلصقه بالبشرية، ويتساوى في ذلك لوم المذنب ولوم البريء.
يمبوس أبيض

كان الديكور مثالياً لاستجواب لا يتوانى عن الفتك بمن لا تسعفه الحياة لأن يكون أغلبية.يزعجنا إحساس باليَمْبوس أو الأعراف بين جدران شديدة البياض صارخته، لا يزوّقها أيّ شيء عدا مقعد أبيض في الزنزانة الضيقة. نشعر برهاب الاحتجاز الخانق، فالمسرح يشْبه علبة مفتوحة من جانب واحد، من جانبنا، والمتفرج هو المتنفس الوحيد لهؤلاء الأشخاص. ها هي أصوات أبواب تنفتح وتنغلق بعصبية في خلفية المسرح، فترتجف أوصال المحتجزين ويتنامى إحساسنا بالقهر.

الجزء الأول من المسرحية قوي الحبكة، وفيه يرسم ميلر صورة مرعبة لعملية يؤدلج فيها المذعورون علامات التحذير لكارثة وشيكة. فترةٌ من التقلقل الحقيقي، يصير الشخصي سياسياً بقوة الظرف، لا الإرادة. وفي النهاية يتصالح المحجوزون مع مصيبة حاقت بهم، ومثلهم مثل الأميركيين، يسارعون بلوم أنفسهم بدلاً من لوم النظام على ما ألمّ بهم من بلوى. أجاد الممثلون لعب أدوارهم، وحتى الصامتون منهم أضافوا إلى العرض مسحة من الغموض. ونجح المخرج في القبض على شعور بالهوية في خضم تاريخ يبث دماء من الجهل والتضليل
إن هذه التحفة المسرحية ليست طّرفة تاريخية خرجتْ من رحم التجربة اليهودية للكاتب ذاته لتنقلب كنزاً مدفوناً لا يتذكره المسرحيون. والدليل أن المسارح اللندنية لم تنتجها منذ خمسين عاماً. ومؤخراً فقط واتت المخرج الشجاعة فقرر استخراجها من تحت التراب. ولعل عيبها الأساسي هو أن المخرج حوَّرها وحاد بها عن مسارها ليبالغ في دور الضحية في التاريخ اليهودي.

ولكن فيما عدا خُطَب رديئة ألقاها النازيون حيناً بعد حين بدا الحوار جذاباً ضاجاً بالحيوية وحرص ألا يضيع وقت المتفرج في الحواشي والاستطراد. لا تنقص المسرحية واقعة مفتعلة أو “نهاية مسرحية” طالما انتقدها العارفون بالمسرح. نكاد لا نصدق الإيماءة النبيلة التي يبْديها غريبٌ مسيحي أنقذ حياة رجل يهودي. فقد منح الغريب الأرستقراطي أحد الرجال اليهود أوراقه الخاصة ليتمكن اليهودي من الإفلات بحياته.
شر تافه

كان ميلر قد كتب المسرحية أثناء محاكمة الضابط النازي أدولف أيخمان بتهمة قتل اليهود. ومع أنه لا يستشهد صراحةً بمقالة المنظرة السياسية حنا آرندت “تفاهة الشر”، تؤكد المسرحية على فكرة أن الشر طاقة تافهة. لا ينتقد ميلر فرداً بذاته بل منهجاً فكرياً لا يلعب بورقة معاداة السامية. لا يقْدم الضباط على أيّ شيء بمبادرة شخصية منهم، لا نية لديهم لفعل الشر أو الخير. صاحب الأمر والنهي هو القائد الأعلى وما هم إلا مطيعون للأوامر.

لذا قد يرتكب الشر نكرات بلا غايات شيطانية كما تقول حنا آرندت. ويوافقها ميلر في تصويره لشخصيات نازية تتسم بالتفاهة والسطحية، وتستجيب بشكل آلي إلى قياداتها العليا. الفارق هو أم ميلر يضع هذا التناقض الأخلاقي في إطار فلسفي، مشدداً من جديد على أن الشر قد يبدر ممن ليس لديه دافع أو مصلحة أو قناعة. الشر على يد مَن بمقدوره فعل الخير. فرد عادي تماماً، مثلنا جميعاً، يقترف جريمة كبرى.

إن محاولة الفهم لا تعني المغفرة كما يعتقد ميلر. الكاتب اليهودي الكبير ليس كارهاً لذاته أو مدافعاً عن النازية. لا يحتقر أهله ولا يريد في الوقت ذاته تطهيراً سهلاً كما في حالة ويلي لومان بطل مسرحية “موت بائع متجول”. ليس العرق هو ما يؤرق ميلر، بل التطهير المجتمعي للمنبوذين من أيّ عرق.

ويبدو لنا أن المخرج اقتطع من سياق المسرحية الأصلية عدة مشاهد تؤيد هذه الفكرة واستبدلها بمشاهد تستعدي الأعراق الأخرى وتثير الحفيظة بين أهلها. تتطاير من رائحة النص الأصلي الواقعية في التناول، شر لا يوصف تم توصيفه، أمَّا هنا في هذه المسرحية يتحدث ممثل أو اثنان بلا رابط أو كابح عن مظلومية متخيلة على نحو مستفز.
لوم الغريب

مع أن الممثلين ارتدوا ملابس تعود إلى الحرب العالمية الثانية، خلت المسرحية من أيّ دلائل تاريخية عن الفترة ذاتها. يقال إن ميلر تعمّد هذا ليضفي عليها أبدية لا تستكين إلى التأويل الوقتي. كما أن غياب هذه العلامات أسهم في التشديد على أوجه التشابه بين الأنظمة الاستبدادية من دول شرق أوروبا في الحرب الباردة وصولاً إلى دكتاتوريات العهد الحالي. يقول أحد الأبطال “تعرف؟ اليهود ليسوا عرقاً. فبوسعهم أن يشبهوا أيّ أحد.”

إن “حادثة في فيشي” ليست مجرد مسرحية عن تضحية غريب من أجل غريب. تلك عدسة مكبرة على شر متضخم يُهلك بلا شفيع. يقع في قلوبنا إحساس حزين بأن التاريخ قد يعيد نفسه بشتى الطرق، ومع مختلف الأعراق والقوميات. وهذه الرؤية للتطهير العرقي تلازمها حالة من الكساد الأخلاقي تجعله من السهل تجاهلها أو الالتفات حولها.

ولا شك أن هذه القصة التحذيرية لا تزال تنبض بالحياة في العصر الحالي. هنا تعطيلٌ لحيوات المختلف منا، وهناك لومٌ للغريب على ما تهشم من مجتمعاتنا، أفكار لا صلاحية لها، فاعلة ومتجددة بيننا بتفاصيل مزعزِعة وآسرة تستقر في ضمير اليوم.

———————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *