حاتم عودة و علاقته بـفلانة / ظفار احمد المفرجي

مسرحية فلانة من تأليف  : هوشنك الوزيري

اخراج : حاتم عودة

وتمثيل : بشرى اسماعيل  – الاء نجم – باسل شبيب  – عمر ضياء الدين – نريمان القيسي – الأضاءة علي السوداني – الديكور محمد النقاش .

 وعرضت على مسرح منتدى المسرح في بغداد يوم السبت المصادف 5 / 5 / 2018

كما عرضت في اربيل ضمن مهرجان اربيل الدولي للمسرح 2018  ، و فازت فيها الممثلة الاء نجم بجائزة افضل ممثلة رئيسية

و عرضت في 3 / 2 / 2019 على خشبة مسرح المركز الثقافي في المنامة عاصمة البحرين ضمن مهرجان اوال المسرحي الدولي في البحرين

 

يدل العنوان على معنى يتسع ليشير الى اي امرأة ، اي ان المرأة هي فلانة و كل امرأة هي فلانة و بهذا ، اي ان فلانة =  نموذج للنساء و هي وجه ايضا تتشاركه جميع النساء ،  و هو  بوابة عبور متداولة بين المعنى المحلي فلانة و المفهوم المتعالي الذي يختبيء خلفه داخل العرض ، و من الواضح ان تواصلا سبق العرض بين المؤلف ( هوشنك الوزيري ) ([1]) و المخرج  ( حاتم عودة ) ([2]) لأن النص يسرد قصصا تقدم للتلقي بطريقة المزج ما بين السرد و التداعي سيرة شخصية واحدة مع من حولها و تتخذ قصة الشخصية صفة النموذج الذي يمثل فئة من المجتمع  و قد اتفق النص على الية الكتابة التعبيرية ([3])لأنها تتناول شخصية محورية واحدة .

الأحداث تجري في النص في الحاضر بعد حدوث الكارثة و الأنكسار بسببها ، و تدل الحوارات على اللاجدوى و اليأس  لأن احلى ما في العمر فترة الشباب قد مضت وولت و ليس الأنسان الماثل امامنا  الأن سوى انسان محطم مدمر بفعل كل تلك الأحداث التي مرت عليه .  ولان الفكرة هنا اهم من الحدث فاننا نجد ان الزمن مفتوح على بعضه في تداخل مقصود .. فالحوار يمكن ان يأتي من الماضي الى الحاضر و من الماضي الى الماضي و من الحاضر الى حاضر اخر ، و من الحاضر ليعود الى الماضي  .. اي لا فعل متسلسل يكتسب اهميته من المنطق .. و نص العرض  يتحدث

 

((( حول عائلة عراقية مكونة من اب وام وست بنات , يتمنى الاب ان يكون له ولد ذكر يحمل اسمه من بعده .. يحمل زوجته الذنب ويعتبرها هي السبب في عدم حصول ذلك ويحاول النيل منها ومن بناته الست حتى انه يطلق اسم فلانة عليهن جميعا وكانهن نسخة واحد .. في الجانب الاخر من الحكاية نجد خيبة اخرى .. ففلانة ( نموذج للفلانات جميعا ) متزوجة  من رجل منذ ان كان عمرها 15 سنة وعاشت معه 20 سنة لم يكن فيها رجلا معها او زوجا لها ولامرة واحدة طيلة هذه الفترة فهو عاجز تماما عن ان يقوم بواجباته الزوجية كرجل .. بينما تكتشف فيما بعد بانه يلتقي بنساء اخريات .. تشم روائحهن على ثيابه كل يوم حينما ياتي متاخرا في الليل .. مع استغراب فلانة عما كان يفعله معهن وهو العاجز كليا .. الا ان الرجل في الحقيقة يفشل مع عشيقته مثلما يفشل مع زوجته فلانة .. فينهي حياته بقطع عضوه ثم الانتحار بعد ذلك . )))

و يقدم النص صور محدودة تؤدي دور النماذج و الأدلة على رتابة الحياة و سخفها و برود المشاعر و الروابط التي تربط الأنسان بالأخر لأنها قائمة على عادات و تقاليد بالية حول منع البنت من ممارسات يومية عادية مثل الصوت المرتفع ، كما يرينا الدوران الساذج الذي لا معنى له لا جدوى العيش في منزل حاضره لا جدوى منه ، و الوجود فيه لا معنى له ، و يؤدي الى العدم ، و المستقبل فيه لن يأتي ابدا وفق الشكل المراد له  ،  و هكذا نرى ان ما بني على اساس عشوائي مستعجل لن يكون سوى عشوائي .

ان العجز الجنسي رمز و حقيقة ، و هنا  ولي الدار العاجز عن صنع ازدهارها و توليدها في صوره المختلفة فالأول الأب يولد البنات و الثاني لا ولد له و هما معا وجهان لعملة واحدة من ولي الأمر المتخلف الذي يتسلط على سكان المنزل المغلوبين على امرهم  . اي ان النص استغل الخلل الجسدي في تعيم النقص على ولي الأمر و بالتالي الأشارة الى خلل في قيادة البيت و خلل في ولي النعمة الذي يحول حياة رعاياه الى جحيم بسبب نقص فيه .

و قد انتبهت الى وجود تشابه في بناء نصي عرض عرضي حاتم عودة الأخيرين ( فيلم اسود و ابيض ) و ( فلانة ) و لا يؤكد هذا التشابه الا على ان النصوص كتبت للتجربة المسرحية مباشرة بعد اتفاق بهذا الشأن بين المخرج  و مؤلف اخر في التجربتين و هذا  يجعله مؤلفا لم يذكر اسمه في فلانة ، و الكتابة في الحالة الثانية كتبت بطريقة التصميم المسبق  ، لأن المخرج اوجد الأسلوب في التجربة الأولى و بناه ،  و هكذا اعتقد ان النص في الحالتين كتب  نص عرض ، اي كتب مرتين من المؤلف و المخرج  و هو امر سمح للمخرج ( حاتم عودة )  من مراجعة تصوراته و رؤاه مرات متعددة قبل العرض

السينوغرافيا

التكوين و اشغال المكان

شمل التكثيف المكان ، و وصل اختزال المعنى حد التجريد و استخدام الخطوط كحدود الفواصل الستائر لذات الغرض كما  ( استخدام ستارة فاصلة بين عالمي الملقين ( الممثلين )  و المتلقين و تحديد مساحة التلقي لأن معمار منتدى المسرح الأصلي لا يحتوي على ستائر)  ، و هذه الخطوط و الفواصل تستخدم لتحديد و تقطيع البيئة حسب المعنى و خصوصية الشخصيات ، و بالتالي هي ليست بيئتهم الأصلية بل ما يشير اليها ، و هو بهذا يذكرنا اننا في مسرح و غايته ليست الأيهام بل تقديم موضوع في قصة ، اي ان المكان هو بيئة محددة مكانية لتقديم متواليات زمنية هي دوائر صغيرة جدا من الأيهام الذي لا يكسر كما يفعل بريشت بل يعرض جانب منه و يتركه ليبدأ بالتالي ، و لهذا فهو يختار الحيز في المكان و يحدده ثم يعيد تأثيثه حسب الحاجة لا بسبب منطقية وجود الأثاث .

لذا قدم العرض شكلا من التكوينات بالمكان ، ملء المكان بالأغطية والأيهام بالجو البارد القارس = الملل و البرودة و الصمت و في بلد لا يعرف الشتاء و لا يمكن تفسير هذه الصورة الا لتدل على ان الحياة مملة باردة و تعاني من موت سريري ، رتيبة  ، كما استخدم تكرار تغيير خارطة الصلاة بأداة سجادة الصلاة و بكل الطرق ، حتى ان بنت من سكان البيت تصلي بثوب احمر قصير ، و اعتراف الأم بأنها ذهبت الى سحرة و مشعوذين يعني ان سكان البيت سلكوا كل الطرق المتخلفة و التي لا علاقة لها بالدين الصحيح و لم يسلكوا طريق العلم ( معالجة الرجل لدى طبيب او الصلاة على نحو صحيح ) و استخدم الضربات على الأيقاع ضربة ، ضربتين ، و عزف على الأيقاع تطبيل كل بأيقاعه ، ثم ينتخبون لحنا موحدا لا فائدة منه ، و لا يجلب لهم الفائدة و لا يحل مشاكلهم و تنتهي عملية العزف بقفلة فنية تقنية متفق عليها

 ان استخدام المايكرفونات يعادل وظيفتها رفع شدة الصوت لأسماع اكبر قدر من الناس اي ان المايك يمتلك وظيفة اعلانية

الأضاءة

استخدم العرضين الأضاءة موجهة من زوايا مكسورة غير طبيعية و غايتها الأظهار بطريقة مشوهة لأن زوايا اسقاط الضوء و تركيبه بخار الماء تعكس الضوء عادة فيظهر الشكل غريب  و تشكيلي نوعا ما ، ان استخدام مصادر قليلة للأضاءة و بزوايا منكسرة يؤدي الى تحصيل ضوء ابيض و ظلاله السوداء لتنتج لوحة تشكيلية

 و قد استخدم  الأضاءة السلويد ( مصدر الأضاءة من الخلف ) و الغاية هي عدم اظهار المعالم و تشويهها .. لا شيء واضح و اللاوضوح يؤدي الى المجهول و الغاية هي وضع الحدث في بيئة غرائبية ، ان انتاج مناطق ضوء و ظلال و ظلام تام يعني ان كل منها يختلف بدرجة الشدة عن الأخر ، و الظلام يعبر عن المجهول و هكذا تذهب الشخصيات الى المجهول و تأتي منه ، كما استخدم الأضاءة الليزرية التي تصنع خطوطا مركزة ( حزم ضوئية ) و هو ما يميزها عن الأضاءة العادية لتصنع مناطق تركيز تارة على كومة السجاد و الأثاث و تارة على مناطق التمثيل

الصوت و الموسيقى

تميز خط الصوت كثيرا في العرضين المشار اليهما لدرجة تلقيه منفصلا في العرض بأستخدام الأسلوب الأتي : –

  • اسلوب التكرار لتثبيت ايقاع مميز لكل عرض ، يعتمد على مؤثر او لازمة موسيقية قصيرة رئيسية بوصفها علامة لها وظيفة ايقاعية رئيسية و معنى مزدوج يتبع الهدف من استخدامها ، ان فعل التكرار يصنع منها معيارا ايقاعيا فـيلازم الممثل الحساس ايقاعه و كذا المتلقي فيحصل العرض على ايقاعه الثابت ، مثل  : –
  • صوت جهاز قراءة اداء القلب في غرفة الأنعاش و صوته الرتيب الذي يدل على ان الأنسان لا زال حيا و لكنه في وضع حرج
  • استخدام المايكرفونات في العرضين بوصفها اداة رئيسية في العرض ، و تحضر في التكوين مع اثاث المشهد ، ان استخدام المايكرفون تؤدي الى : –
  • الأختلاف ( لأن الصوت المسموع من السبيكر عبر المايكرفونات يأتي مختلف تماما ، معدني ان صح التعبير ) و هو مختلف عن الصوت المباشر الذي نسمعه
  • الأعلان لأن وظيفة المايكرفون الرئيسية هي اسماع اكبر قدر ممكن للحوار و تسجيله ( توثيقه ) لأهميته = الأعلان
  • تأثير الأيكو : ( الصدى ) ليدل على الفراغ و الوحدة لأن صوتك يعود اليك و لو كان هناك احد اخر لرد الحوار بالجدل و هذا رديف للخواء و الأرتباك و يحدث في المناطق الموحشة و الفارغة كما يصنع منطقة تردد غير مفهومة من الحوارات يعمق احساس عدم الفهم و القطيعة بين الشخصيات
  • استخدام مقطع موسيقي للكسر مثل
  • العزف على الأيقاعات في ( فلانة ) من قبل الممثلين ( العزف الحي ) و هو يعطي معنى الرقص وسط الدمار = الرقص مذبوحا من الألم و التطبيل ، كلهم يطبلون يتاجرون بأصواتهم العالية لكسب المواقف و هم لا ينفعون احد سوى مصالحهم

نص العرض

يبرز العرض حيرة الأنسان في هذا العالم و الأمه و صرخاته و هلوساته في بيئة مختزلة قصيرة الزمن و محدودة المكان فنراها عامرة بالتغييرات و هي صورة مثالية من صور المسرح التعبيري العراقي بأمتياز . يتضح الأختزال على مفاصل العرض فالمخرج في نصه تخلص من كل الزوائد تقريبا و الباقي هي متواليات مركبة من احداث النص دون مراعاة للتسلسل الزمني المنطقي و الأختزال كما نعلم هو ( مجمل عمليات الحذف و الأستغناء عن بعض العناصر الواقعة على مظهرية الشكل و تفرعاتها دون الأخلال بالمعاني و الدلالات التي ينقلها ذهنيا دون الوصول الى تجريد الشكل الى شكل اخر ” ([4]) ، و المقصود هنا ان النص تم اختزاله ، و لعل تسيد الصمت الموقف يعود لأسباب ان الشخصية وصلت الى نتيجة مفادها ان الكلام المفيد لم يعد له جدوى بسبب تكرار المحاولة منذ سنين دون جدوى ، ناهيك عن صدمة الموقف الذي لا يمكن التعبير عنه ببساطة لذا تجد ان الشخصيات المنهكة تستمر بالحياة بلا امل ، و بلا جدوى ، و لا انتماء بعد كل تلك السنين المطولة من العبث

انه  يشبه عالم الأشباح ، شخصيات وهمية وحقيقية جالت في الزمن و لا زالت تجول  ، اي اي هي بين الحلم و الواقع ، بقدر وجودها في الذاكرة ، لذا تجد الشخصية تتحدث مع ذكرياتها التي صارت تتدافع للمواجهة لحظة العرض دفعة واحدة

هذا الأسلوب يؤدي الى الأحساس بأن هناك نقلات تشبه المزج ( المكس ) و هناك مونتاج خفي تشعر به لكنك لن تنتبه له = الزمن يتداخل كأنك تجلس في عقل بشري يتذكر . شهود + فرقة جالغي بغدادي ، تماما كما يجلسون لكنهم يتحدثون و لا يغنون ، ان هناك رغبة دفينة للتمرد و الثورة على الواقع و انتقاده بطرق متنوعة ، لكن الشخصيات تميل للغموض بسبب عدم وضوح الرؤية في الحياة المعتادة . يؤدي ذلك الى ضياع الطريق و الخيارات بسبب الضباب و تجلد الأنفاس .

في العرض يمنح الممثل بعض الحرية في الحركة على ان يحافظ على مباديء اساسية ( البطء في الحركة + الوقوف على حافة زوايا بقع الضوء + حركات انية = العرض ) و بمعنى اخر مفردات متفق عليها + مساحة من الأرتجال في الحركة البينية  = عرض متنوع و حر

ان التعامل مع الأثاث الموجود في بيئة مكان محددة و بأسلوب الحركة البطيء الأختزالي مع ايقاع يتأسس على مؤثرات صوتية مدروسة كأطار ، يتضمن داخله متواليات مشهدية تتخذ من الأثاث كأداة للتحفيز او الصوت ، او حوار مؤثر و دال للشخصية ، او فعل تقني ملصق على العرض شرط الألتزام بالأيقاع ، كلها تطلق صورا محسوبة و مركزة تطلق مفهوما معقدا و قصة بسيطة . و دائما يضع  قطع من الاثاث تختزل المعنى لتتحول من وظيفتها الأصلية الى رمز عام يدل على معنى مشفر يساهم في توسعة مساحة التلقي

الشخصيات

تبدو الشخصيات هائمة ، مصدومة ، متألمة ، تشعر بالعدم بسبب نوعية الحياة التي مرت بها ، الزمن المتوالي من الأخطاء الشخصية و الضغوط المسلطة عليها من الخارج و الكبوات و الدمار النفسي الذي يرافقها و يؤدي كل هذا الى الشعور بالعدم ، كل هذا ناهيك عن الواقع المرير ، و تعاسته المستمرة ، اننا نرى الشخصيات تقف في المؤخرة على خط مستقيم واحد يوازي الجدار الرابع ، و هو اقصر طرق المواجهة و كأن الشخصيات تبحث بدورها عن اقصر طرق التواصل مع المتلقي بأن تواجهه ، تتجادل معه و لا تفعل ، تتحداه ربما ، و وقوف الشخصيات بهذه الطريقة الغير مبررة يعادل كسر الأيهام و التواصل خارج العرض .

و نرى في هذه المسرحية ( فلانة ) ان شخصيتا الأم و ابنتها تتشاركان الحوار للدلالة على تشاركهما المشكلة ايضا و نوعية الحياة و هن بهذا يتشابهن ، و الزوج الغائب الذي لم نره ، و الأب الحاضر يتشاركان الطباع الخشنة و النرجسية الذكورية و التخلف و التوتر في التفكير و عقد التربية و المجتمع البالية. و يؤدي دور الأب الممثل (  باسل الشبيب ) ([5]) الذي يعد من الممثلين المستقرين في الأداء ، لأنه يمتلك اداءا غير متذبذب منذ بداياته في التمثيل ، و هو ذات الأمر الذي يقدمه للمتلقي على المسرح ، الأحساس بالثبات ، بالأضافة الى احساسه العالي الذي لا يغالط المعنى ، و قد ادى دور الأب في فلانة بطريقة متميزة ، و امتلك تركيز المتلقي بسبب المساحة الضيقة في المنتدى و قدرة الثبات لديه .

و لا تمارس الأم في فلانة دورها المعهود المفروض ، النصح و التوجيه و تعليم بناتها اصول و اسباب الحياة بل هي تتصرف وفقا للضغوط المسلطة عليها بدورها فتراها منشغلة عن اولادها بأسترضاء الله لأنها تعتقد بعدم رضاه و هي فكرة قديمة منذ عهود طوطمية جاهلية ترتبط بأسترضاء الأله بأي طريقة فتراها توبخ ابنتها  بطريقة روتينية باردة ( عيب ) ومارس المخرج ( حاتم عودة ) نفس الأسلوب  في مسرحية (  فيلم ابيض و اسود ) اذ  نرى الأم مغلوبة على امرها و هي تواجه لوحدها قوة جبارة هي وحش السلطة التي اخذت منها حياتها و زوجها و ابنها و لا امل لها سوى الأنتظار ، انتظار الصدفة التي ستعيد لها حياتها و هو انتظار يائس  ،  كما تجري الأم في مسرحية ( فلانة ) خلف خزعبلات انها تنتظر شيئا لن يحدث ، و هو انتظار يائس ايضا . و تؤدي دور الأم في العرضين  الممثلة ( بشرى اسماعيل ) ([6]) هي التي تؤدي في التلفزيون ادوارا كوميدية قدمت احساس و شعور الأم في الوحدة و لوعتها على ابنها و الامها جراء البحث ما يؤكد قدراتها النوعية في الأداء في ( فيلم اسود و ابيض ) و هي  تميل الى الأسى و الحيرة و قلة الحيلة ، و في ( فلانة )  تعاني من الجهل و تميل الى التردد و الحيرة .

و من الملاحظ ان الأم = الحرث و النسل و الأرض هي شخصية مستلبة تماما و ضعيفة و تتلقى الصفعات و الضغوط هي التي تواجهها بصبر يائس اكبر من حدود قدراتها ، و هي في العرض الثاني تحرق روحها ( تنتحر ) بسبب الضغوط التي تتعرض لها في الماضي و الحاضر و المستقبل و هو اسوأ لأنها تكبر في العمر و تقل فرصها في النجاة هي التي خياراتها محدودة اصلا لحل مشاكلها بسبب من اختيارها حلول جاهزة ، ما ورائية غير مفهومة تزيد من حيرتها بسبب ايمانها بقوة المطلق الذي هو اخر الحلول فتقرر التخلص من الحياة التي تعذبها . فما الذي نفعله بالأم و الحرث و النسل . و هل نحن الملامون ؟ الا انني اعتقد ان الخلل في سماحنا لقوى التخلف من داخل المجتمع بفرض ضغوطا تدمره و في الحالتين ينهار الأنسان تحت الضغط .

و فلانة  و هي الممثلة ( الاء نجم )التي ادت دورا  لم يكن يحتوي على فعل حركي بل نسق من الحوار و تكوينات الوجه القائمة على تفسير الحوار الى مشاعر و احاسيس و ردود افعال و حركة موضعية على اساس توجيهات المخرج . الا ان الفهم العميق للشخصية ادى الى نجاحها في تجسيد الشخصية الرابط في المسرحية ، و نراها ترتدي بدلة سهرة سوداء تتشارك فيها الحزن على حالها و احتفالها كونها نجمة الليلة ( العرض ) بدلة سهرة بحجم حلم انوثتها لكنها سوداء حزينة و كأنها تصطدم بالواقع الذي يقدم لها الحزن الدائم و السواد يعادل الحزن في ملابس النساء في العراق .

و الشخصيات بجلوسها امام المايكات يتحولون الى شهود يتحدثون عن تلك الوقائع ، و قد استخدم هذه الفكرة مرتين في اعماله ، فهي شخصيات تلبس الخوذ و ترتدي ملابس البيت في ( فلم اسود و ابيض ) البيجاما و العباءة في الشارع  ، و بدلة سهرة في البيت في ( فلانة ) كما استفاد العرض من الحضور المميز للممثل ( عمر ضياء الدين ) ([7])  رغم انه لم ينطق بحرف و هو الذي ارتدى الزي الرجالي  الرسمي ووظف قدرته على العزف على الأيقاع في العرض ، ما جعله يسحب تركيز المتلقي اليه متى تحرك ، بالأضافة الى الممثلة ( نرمين القيسي ) ([8])و هي ممثلة شابة ، على الرغم من ان اسلوب الأداء في العرض لم يظهر امكانياتها بطريقة جيدة ، و لم يسجل خللا في اداءها لمقاطعها الحوارية ، و كان لظهورها القبول

المخرج

قام المخرج (  حاتم عودة )  بالتحول الى طريقته الجديدة قبل مسرحيته ( فيلم اسود و ابيض )  و قد تطورت طريقته في الأخراج من عرض تعبيري يقدم نموذج فردي حائر يسخر من القضايا العامة في رومولوس الى عرض تجريبي تعبيري ( صدى ) الى هذا النموذج من العروض ( فيلم اسود و ابيض ) و ( فلانة ) و الذي هو نموذج تعبيري اكثر رصانة يعتمد على( شخصية محورية في العرض ، و الشخصية يدمرها مفهوم ( فكرة ) لا قصة ، الحياة اليومية و الشخصيات مشوهة ، المناظر و التكوينات مشوهة و متضادة ، العرض لا يعتمد على الموضوعية ( السبب و النتيجة ) بل على ما يراه ، العاطفة ، العرض كابوسي حالم .. الخ ) و كلها مقومات اساسية في المسرحية التعبيرية كما وردت في الأصل التعبيري الألماني .

و المخرج ( حاتم عودة )  يؤسس كثير من تكويناته استنادا الى اضافة قطع اثاث او اكسسوارات يؤسس لها وجود منطقي في النص الذي يعمل عليه كثيرا قبل التوجه الى العمل ، مثل ( كومة الملابس العسكرية ، سجادات الصلاة ، الكراسي المتفرقة .. الخ ) ، كما يستخدم ادوات مصاحبة على نص العرض بوصفها ادوات ملصقة من خارج العرض مثل ( المايكرفونات ، الة الأيقاع الموسيقي ) لتحقيق غايات رئيسة في نصوص العروض المذكورة على وجه التحديد ليبرز تحولا اساسيا في وضع اساس ايقاعي يحدد حركة الممثل و ايقاع الصورة و الحركة في العرض برمته

من اهم مميزاته الأختزال و حذف الزوائد و تداخل الزمن ، و يتحرك الممثل لديه بأقل مجهود ، و اعتقد شخصيا ان عروضه تحتاج الى انفتاح في التكوين بسبب عثوره على حلول منطقية لوجود الأضافات ( الملصقات ) من خارج النص و التأسيس لها بوصفها اثاث من داخل النص و ان يتجرأ لأدخال اضافات اكثر انفتاحا في التكوين ( مثل السينما و الرقص و الأضافات التقنية ) لأنها في ظل طريقته المميزة للأضافة المنطقية سيحقق عرضا اكثر تميزا .

الأستنتاجات

هناك تشابه عموما في الأدوات و في اسلوب العرض في اخر عروض المخرج حاتم عودة ، و قد قدم طريقة حرة فيها الزمن متداخل ويتجه مع او عكس عقارب الساعة ،  و المكان يعاد تصميمه و تأثيثه مع المعمار و يمكن التحوير في هذه الطريقة ،  اي ان المكان هو بيئة محددة مكانية لتقديم متواليات زمنية هي دوائر صغيرة جدا من الأيهام الذي لا يكسر كما يفعل بريشت بل يعرض جانب منه و يتركه ليبدأ بالتالي . كما استخدم في العرضين الأضاءة موجهة من زوايا مكسورة غير طبيعية و غايتها الأظهار بطريقة مشوهة لأن زوايا اسقاط الضوء و تركيبه مع بخار الماء تعكس الضوء عادة فيظهر الشكل غريب  و تشكيلي نوعا ما ، ان عدم الوضوح هذا  يؤدي الى وضع الحدث في بيئة غرائبية ، ان انتاج مناطق ضوء و ظلال و ظلام تام يعني ان كل منها يختلف بدرجة الشدة عن الأخر ، و الظلام يعبر عن المجهول و هكذا تذهب الشخصيات الى المجهول و تأتي منه ، و ننتبه الى اسلوب التكرار في المؤثر الصوتي لتثبيت ايقاع مميز لكل عرض ، يعتمد على مؤثر او لازمة موسيقية قصيرة رئيسية بوصفها علامة  لها وظيفة ايقاعية رئيسية و معنى مزدوج يتبع الهدف من استخدامها ، ان فعل التكرار يصنع منها معيارا ايقاعيا فيلازم الممثل الحساس ايقاعه و كذا المتلقي فيحصل العرض على ايقاعه الثابت ، مثل صوت جهاز قراءة اداء القلب في مسرحية ( فلانة ) و  صوت الذباب في مسرحية ( فيلم اسود و ابيض ) كما استخدم المايكرفونات في العرضين بوصفها اداة رئيسية في العرض ، و من ضمن اثاث المشهد ، يؤدي الى  الأختلاف مع الصوت الطبيعي كما يؤدي وظيفة الأعلان لأن وظيفة المايكرفون الرئيسية هي اسماع اكبر قدر ممكن للحوار و تسجيله ( توثيقه ) لأهميته

المخرج ( حاتم عودة ) يقدم لنا عالم يشبه عالم الأشباح يبرز حيرة الأنسان في هذا العالم و الأمه و صرخاته و هلوساته في بيئة مختزلة قصيرة الزمن و محدودة المكان عامرة بالتغييرات و هي صورة مثالية من صور المسرح التعبيري العراقي بأمتيازكما نلاحظ قيامه بتجزءة الشخصيات و الأنفتاح في مساحة الحوار لتغطية حجم المفهوم عبر الشخصية مثل شخصيتا الأم و ابنتها في فلانة ( تتشاركان الحوار للدلالة على تشاركهما المشكلة ايضا ) ، و الزوج الغائب الذي لم نره ، و الأب الحاضر في فلانة ( يتشاركان الطباع الخشنة و النرجسية الذكورية و التخلف ) و  رزاق في مسرحية ( فيلم اسود و ابيض ) حيث  انقسمت الشخصية الى رزاق 1 و رزاق 2 و هي شخصية فصامية بسبب بقاءها في دوامة البراءة و الأتهام و التعذيب في السجن  ،  ان وجوه الشخصية المتعددة في النصين هي وسائل اقناع و اشارة الى فصام الأنسان تحت ضغط الظروف الغير منطقية .  و الشخصيات محدودة بسيطة مستسلمة مغلوبة على امرها مثل شخصية الأم في المسرحيتين مسرحية ( فلانة ) و رزاق و النائب ضابط في مسرحية ( فيلم اسود و ابيض ) و هي تواجه لوحدها قوة جبارة لا تقوى على مواجهتها فتنتهي الى الأستسلام و اليأس ، كما تقدم العروض تقدم شخصية محورية واحدة في كل عرض ، و الشخصية يدمرها مفهوم ( فكرة ) لا قصة ، الحياة اليومية و الشخصيات مشوهة ، المناظر و التكوينات مشوهة و متضادة ، العرض لا يعتمد على الموضوعية ( السبب و النتيجة ) بل على ما يراه ، العاطفة ، العرض كابوسي حالم .. الخ

[1]– هوشنك وزيري كاتب مسرحي  ، من مواليد مدينة أربيل في كردستان العراق. بكالوريوس مسرح من اكاديمية الفنون الجميلة – بغداد . فاز كتابه ( أمكنة اسماعيل ) بالمرتبة الأولى في جائزة الهيئة العربية للمسرح – نصوص الكبار 2015 .

[2]– حاتم عودة نخرج مسرحي عراقي  ، صاحب موقع الخشبة المسرحي المعروف ، بكالوريوس مسرح ، اخرج للمسرح مسرحية  وداعا كودو و  مسرحية رومولوس و مسرحية {صدى } ومسرحية  ” فيلم أبيض وأسود ” ، و مسرحية فلانة ،  شغل منصب مدير الفرقة  القومية للتمثيل التابعة لدائرة السينما والمسرح مدير مركز روابط للفنون الأدائية و  مجلة الخشبة وهي مجلة فصلية تعنى بالمسرح وتصدر في بغداد عن مركز روابط للثقافة والفنون

[3] – التعبيرية مذهب في  الفن يستهدف، في المقام الأول، التعبير عن المشاعر أو العواطف والحالات الذهنية التي تثيرها الأشياء أو الأحداث في نفس الفنان، ويرفض مبدأ المحاكاة الأرسطية، تحذف صور العالم الحقيقي بحيث تتلاءم مع هذه المشاعر والعواطف والحالات، وذلك من طريق تكثيف الألوان، وتشويه الأشكال، واصطناع الخطوط القوية والمغايرات المثيرة.أشار الناقد جيرالد ويلز بأن المذهب التعبيرى هو أكثر مذهب فنى متأثر بالذاتية المفرط وترتبط التعبيرية بالفن الألماني في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

[4]– وسام زغير شنيشل ، الأختزال الشكلي و الوظيفي في تصميم الأجهزة الكهربائية المنزلية الحديثة ، رسالة ماجستير ، كلية الفنون الجميلة ، بغداد ، 2006 ، ص 5

[5]– باسل الشبيب ممثل وكاتب تلفزيوني كتب  مسلسلات  “اعماق الازقة” و”باب الشيخ” الذي اكمل جزءه الثاني،  واسماه “أعماق الازقة.. المدينة”، مثل في العديد من المسرحيات منها ( سينما )  و ( فلانة ) .

[6]– بشرى اسماعيل من مواليد 1958 ممثلة عراقية  لها العديد من الأعمال المسرحية والتلفزيونيه مثل  برنامج كاريكاتير  الشهير على قناة الشرقية  ،   المطحنة  و   بيت وخمس بيبان و  اطراف المدينة و  نساء في الحرب و فيلم اسود و ابيض و فلانة  ، كما شاركت في المسلسلات الأتية مسلسل مناوي باشا جزئين و الحواسم و امطار النار و غيرها لها العديد من الجوائز العراقية و العربية

[7]– عمر ضياء الدين ممثل عراقي و مقدم برامج تلفزيونية منوعة حاصل على شهادة الماجستير في التمثيل المسرحي له العديد من الجوائز في التمثيل شارك في مسرحيات عدة منها السائب و اوبرا القروش الثلاثة و فلانة و اخرى كما قدم العديد من الأدوار في الدراما التلفزيونية

[8]– نريمان القيسي : ممثلة عراقية مسرحية شابة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *