جنون الحب: مسرحية ‘الطيكوك’ مونودراما مغربية ومناخ هاملتي/فيصل عبدالحسن

يعتبر الكاتب والمخرج المسرحي عبد الحق الزروالي من رواد مسرح المونودراما في المغرب فهو أثرى التجربة المغربية الحديثة في بالعديد من النصوص والأعمال، ومن أحدثها ما قدمه بنفسه مؤخراٍ على خشبة مسرح محمد الخامس في الرباط تحت عنوان “الطيكوك” وهو عمل مونودرامي من ممثل واحد سبق تقديمه على العديد من مسارح المغرب، ألفه وأخرجه ومثله عبدالحق الزروالي بنفسه. والعرض امتد لساعة وربع الساعة وتميز النص بمزج الكاتب بين الدراما والكوميديا، وقد تأثر كاتبها ومخرجها بمسرح وليم شكسبير القائم في جانب مهم منه على مشاهد البوح الذاتي، وخصوصاً في مسرحيته الشهيرة هاملت.

المنظر المحزن للمقبرة سيبقى طويلاً في ذاكرة المشاهد، ووسط وحشتها يقف مسعود حفار القبور، وهو يخاطب الأموات، ويتأسى على فقدان الناس للأَمان، وما لحق بعض الشعوب العربية من أذى الإرهابيين.

تتداخل شخصيتان في العرض المسرحي الفردي، الذي قدمه الفنان المغربي عبد الحق الزروالي على مسرح محمد الخامس بمدينة الرباط مؤخراً، وأنجز السينوغرافيا عزيز الحاك. وحقق العرض حضوراً لافتاً. فالثيمة التي عمل عليها المؤلف والمخرج والممثل عبد الحق الزروالي ثيمة متفردة لم يسبقه إليها غيره.

مسرحية “الطيكوك” قدمت بممثل واحد، وهي من نوع (المونودراما ــ Mono Drame) ولفظة Mono هي مفردة يونانية قديمة تعني واحد وDrame تعني الحركة والفعل.

ويوجد في تراث المسرح المغربي مسرحيات فردية كثيرة قدمها، فنانون معروفون، مثل “الحرباء” لحوري الحسين، و”شريشماتوري” لنبيل لحلو، و”الزيارة” لعبدالكريم السداتي، وقدم غيرهم من ممثلي الفكاهة المعاصرين عروضاً قصيرة، يمكن وصفها بأنَّها مسرحيات مونودراما مثل حسن البوشاني، محمد الجم، سعيد الناصري، عبدالفتاح جوادي، رشيد غافيق، وغيرهم.

المقبرة هي مأوى الأموات لكنها تصير مأوى لحفار القبور في حياته، فهو أينما ينظر يرى الجماجم، وشواهد القبور، وبقايا الهياكل العظمية التي جرفها السيل

الطيكوش

يعتبر الكاتب والمخرج عبدالحق الزروالي رائداً من رواد “المونودراما” في المغرب. وقد اختار هذا اللون من العمل المسرحي في سبعينات القرن العشرين، وبدأ بـ”ماجدولين” وتبعها بـ”الوجه والمرآة” وتوالت أعماله المسرحية الفردية حتى بلغت 32 عملاً مسرحياً خلال أربعة عقود من عمله بالمسرح.

والزروالي صاحب أكبر عدد من العروض المونودرامية في المغرب، وقد اتصف عمله الأخير بالجدة والابتكار في طرح مشاكل الإنسان العربي.

وتسمية المسرحية أتت من مفردة أمازيغية هي “الطيكوش” وعادة ما ينعت الأمازيغيون من يصيبه هوى الحب المجنون، بأنَّه أصيب بـ”الطيكوش”. والبعض عدَّ التسمية آتية مما يطلقه الفلاحون على مرض جنون البقر. والمعنى الأقرب لمضمون المسرحية يشير إلى “جنون الحب” أكثر ما يدل على جنون البقر، فمسعود حفار القبور أُصيب بهذا المرض لفقدانه زوجته “دحدوحة” فسكن قرب قبرها بانتظار الموت.

“دحدوحة ماتت، وهي لا تزال شابة، وذوت كوردة جوري بين أصابع الحياة” كما وصفها حفار القبور، وهو يرثيها عند قبرها، الذي حفره لها، وأسبغ عليه من حنوّ عشقه، ليجعله قبراً مريحاً لروحها كسرير عرسها.

السينوغرافيا

يقول حفار القبور في حوار طويل “أيكون خطئي أني جئت في زمن الفتنة أو ربما جيء بي أو ما شاء القدر أن أجيء في هذا الزمن العاصف بالإرهاب والكوارث”. ويتعالى صوت أم كلثوم وهي تغني رباعيات الخيام، وبما في الأبيات الشعرية وصوت سيدة الطرب من شجن، فيتحول الحوار إلى حفلة حزن. وكل واحد من الحضور، تساءل عن صدق وحميمية السؤال، لماذا جئنا إلى هذا العالم في هذا الزمن وليس في غيره؟

المقبرة هي مأوى الأموات لكنها تصير مأوى لحفار القبور في حياته، فهو أينما ينظر يرى الجماجم، وشواهد القبور، وبقايا الهياكل العظمية التي جرفها السيل.

وساهمت السينوغرافيا في إغناء المشهد: شموع وإناء من الفخار للماء، وفأس للحفر، وشواهد قبور مكتملة، وأخرى لا تزال غير مثبتة لقبور معدة لأموات جدد. وأكثر ما في السينوغرافيا من مؤثرات ما ارتداه حفار القبور من ملابس، وقلائد تنتهي بجمجمة وقفازات، وكلها ترمز للموت، وإخفاء أثر الموتى. حفار القبور يردد حواراته بالعربية الفصحى، لكنه بين الحين والآخر يتحدث باللهجة الدارجة.

فهو يتحدث بالفصحى حين ينتقل من شخصية حفار القبور إلى شخصية الممثل، فيحكي عن شكسبير، وهاملت، وجثة أوفيليا. ويقول عنها “إنّها زهرة عذارى الميتات في مسرح شكسبير” وعندما يتناول جثمانها، الذي تحول إلى هيكل عظمي يخاطبها، بلهجة الفاقد المثكول. ويسأل الله تعالى للعذارى الميتات الرحمة والمغفرة، فتسيطر على الجمهور في قاعة العرض لحظات حزن وذهول، للمشاعر الصادقة، التي نقلها الزروالي لمشاهديه، وكأن ما يحدث أمامهم ليس بعيداً عن كل شخص حضر العرض، وتعرض إلى تجربة مماثلة.

صوت الفنان عبدالحق الزروالياستأثرعلى الكثير من الحاضرين لوضوح نبراته، وأثرت فيهم جهشاته الباكية على ما أصاب بلداننا العربية من موت ودمار بسبب الإرهابيين

جنون الحب

التطهير الدرامي لحزن الحاضرين ومتاعبهم في حياتهم اليومية، من مساوئ العرض المسرحي الذي حذر منه الكاتب والمخرج الألماني برتولد بريخت. لكنها في “الطيكوك” عملية تطهير كاملة خلال ساعة وربع مدة العرض. ولم تتوقف حوارات حفار القبور في التطهير العاطفي للجمهورعند أوفيليا شكسبير بل شملت معاناة مفكرين وفلاسفة عرب كابن حزم وابن خلدون والتوحيدي وابن رشد الذين عانوا من التطرف الديني والإرهاب الفكري، وعانى غيرهم من الناس العاديين في عصرنا الحالي من الإرهاب. وخاطب مشاهديه “لا إله إلا الله، الله الرحمن الرحيم، الموت آت، مهما تعددت الأسباب، يا من أنتم فوق التراب أو تحته.. اسمعوا كلامي وتبصروا في دنياكم قبل آخرتكم”.

واستأثر صوت الفنان عبدالحق الزروالي على الكثير من الحاضرين لوضوح نبراته، وأثرت فيهم جهشاته الباكية على ما أصاب بلداننا العربية من موت ودمار بسبب الإرهابيين.

وقال في نهاية العرض بلهجة الواثق مما يقول مسترجعاً شخصية حفارالقبور “أنا سيد المقبرة، أنا من رتّب القبور حسب الحروف الأبجدية. عندي الفلاسفة والشعراء، والسماسرة، والطيبون، والجميلات والقبيحات وأهل البطون”. ولا تغيب عن حفار القبور قصيدة بدر شاكر السياب “حفار القبور” فيذكرها. فتتناغم أبيات القصيدة مع ثيمة العمل، ويردد حفار قبور السياب “ضوء الأصيل كالحلم الكئيب على القبور/واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموع/في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع” ويسترسل قائلاً “ يا رب ما دام الفناء/هو غاية الأحياء فأمر يهلكوا هذا المساء/ سأموت من ظمأ وجوع“.

مسرحية “الطيكوك” تناولت مزايا جنون الحب ومساوئه، ورثت حياة الناس في حياتهم وبعد موتهم، ولم تعدم المواقف الكوميدية التي أضحكت الجمهور وجعلتهم يصفقون فرحاً. ورسمت أفقاً رحباً لهم بكلمات الأمل بغد جديد يكون الناس فيه قد عرفوا أن العنف والظلم ضد مسيرة الحياة، وأن الفرح والحب والسلام غايات حقيقية للعيش في دنيانا، حتى تتحول الدمعة إلى ضحكة وتكشيرة الحزن إلى فرحة دائمة.

المصدر/ العرب

محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *