جمهور كرة القدم يشعل خشبة المسرح / عمار المأمون

المصدر / العرب / نشر محمد سامي موقع الخشبة

ما الذي يجعل جمهور العمل الفني مختلفاً عن ذاك الذي يكرس حياته للرياضة، ثم الأهم، هل يحق لجمهور المسرح أن يشتم الممثلين والمخرج في حال لم يعجبهم العرض الذي يشاهدونه، أم أن ذلك حصري لجمهور كرة القدم

عرفت محافظة “طريق كالية” في أقصى الشمال الفرنسي بأنها أحد أبرز القوى الشيوعيّة في فرنسا، كما عاد اسمها للظهور في الأخبار الفرنسية كون مرشحة حزب اليمين الفرنسي مارين لوبين نالت نسبة 52 بالمئة من أصوات الناخبين هناك أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كما عُرف سكان المنطقة حسب الرأي العام الفرنسي أنهم شعبويون ومتعصبون وخصوصاً فيما يتعلق بعشقهم لنادي كرة القدم التابع للمحافظة “أر سي لينز” أو فريق “الدم والذهب”، إذ أثار مشجعو الفريق الكثير من الجدل السياسي والإعلامي بسبب الإهانات المتبادلة بينهم وبين مشجعي الفرق الأخرى أثناء المباريات الرسميّة وخصوصاً خصمهم الدائم فريق مدينة ليل الفرنسيّة.

ما الذي يجعل جمهور العمل الفني مختلفاً عن ذاك الذي يكرس حياته للرياضة، ثم الأهم، هل يحق لجمهور المسرح أن يشتم الممثلين والمخرج في حال لم يعجبهم العرض الذي يشاهدونه، أم أن ذلك حصري لجمهور كرة القدم

ما الفرق بين جمهور كرة القدم وبين جمهور المسرح؟ يشكل هذا السؤال محور العرض المسرحي “مدرّج-Stadium”، الذي كتبه الفرنسي محمد الخطيب وأخرجه كل من الخطيب وفريدريك هوكية في باريس على خشبة مسرح الكولين ضمن مهرجان الخريف للمسرح في باريس.

إذ يتبنى الخطيب في العرض صيغة المسرح الوثائقي إذ قام بالتعاون مع 53 مشجعاً لفريق “أر سي لينز” بخلق علاقة مواجهة بين مشجعي فريق كالية ذوي السمعة السيئة مع جمهور باريس المسرحي، مستعيداً الحساسيات السياسية والإهانات المتبادلة بين الجمهورين والتي تعود لعام 2007، لنرى أنفسنا أمام عرض يسعى لتفكيك الصورة النمطية المرتبطة بالمشجعين المتعصبين لفريقهم، واكتشاف حياواتهم الشخصيّة المرتبطة بشدّة بنادي كرة القدم في محاولة لفهم الدلالات السياسية لسلوكياتهم وأصل التوصيفات الشعبوية التي تلاحقهم.

الجمهور على الخشبة

يسعى الخطيب في العرض إلى تفكيك بنية الجمهور الرياضي، فمن نراهم عادة ضمن كتلة واحدة متجانسة تتحرك وتغنّي ضمن إيقاع واحد أصبحوا على الخشبة أفراداً متمايزين، لكلّ منهم تجربته الخاصة مع الفريق سواء كان عاملاً بسيطاً أو قسيساً أو حتى عمدة، إذ يستضيف الخطيب أسرة بأكملها على الخشبة ليحدثنا أفرادها كيف انتقل حب الفريق بينهم من جيل إلى جيل، وكيف أن بعضهم أعاد ترتيب حياته وفق جدول مباريات الفريق، ما خلق علاقات جديدة بين سكان المنطقة أساسها الشغف بالكرة ومدرجات الملعب حيث يصبح الجميع متساوين.

 

عمل مسرحي مبتكر يطرح أسئلة جريئة تتعلق بفكرة الجمهور

يحضر على الخشبة أيضاً حكم المباراة جان كلود أودول الذي أهانه وشتمه المشجعون عام 1998 في إحدى المباريات، والمصادفة أن نادي “أر سي لينز” حاز في نفس ذاك العام على لقب بطولة فرنسا، لكن بالنسبة إلى الحكم الذي أهين من قبل الآلاف من المشجعين وفي العام 1998 هو ذاته نفس العام الذي توفيت فيه والدته، إذ يحدثنا أودول عن جلسات العلاج التي خضع لها إثر الإذلال العلني الذي تعرض له ، ثم يروي لنا الكابوس الكافكاوي الذي كان يراوده لسنوات، لنشاهد في ذات الوقت بانتو مايم يؤدي لنا هذا الكابوس أمام ذات الجمهور الذي تسبب بأذيته، وكأننا أمام تطهير أو علاج بالدراما، فنحن أمام أفراد لا يؤدون أيّ دور بل يتحاورون ويحدثون الجمهور عن مشكلاتهم وتجاربهم الخاصة في سبيل نوع من الخلاص وتصحيح لسوء فهم سابق.

مسرحية من شوطين

يمهّد عنوان العرض للتقنية التي يستخدمها الخطيب في عمله الإخراجيّ، فهو يفكك بنية مباراة كرة القدم ويعيد تشكيلها مسرحياً، جاعلاً مدرجات الملعب حيث الجمهور في بقعة الضوء، ومحافظاً على المفاصل التي تشكل بنية مباراة كرة القدم، كنشيد الافتتاح ثم تحية الجمهور، كما أن العرض يقسم إلى شوطين واستراحة بينهما والتي يمكن للجمهور عبرها النزول إلى الخشبة وشراء المشروبات والطعام كما في مدرجات ملعب كرة القدم.

يحضر في العرض أيضاً وكجزء من “المباراة” المشجعات بثيابهن البراقة وحيوانات الحظّ بأزيائها وسذاجتها، وذلك في محاولة من الخطيب لكسر الصورة النمطيّة التي نمتلكها عنهم، فالمشجعات يتحدثن عن معاناتهن وكيف أن البعض منهن يراهنّ كسطحيات لا همّ لهن سوى الاهتمام بمظهرهنّ وبمستحضرات التجميل، كما تخلع حيوانات الحظ أزياءها لنرى أفراداً، لا مجرد كائنات ترقص وتقفز وتقع لتُضحِك الجمهور، فكل منهم يتحدث عن معاناته في العمل وهو يرتدي زياً يكاد يخنقه، وتعرضه للسخرية في حياته الشخصية، إذ يتعامل معهم من حولهم بوصفهم مهرجين ذوي عمل لا يحمل أيّ قيمة.

يتحول العرض في النهاية إلى صيغة احتفاليّة مشابهة لتلك التي نراها في نهاية مباريات كرة القدم لنسمع الموسيقى والتشجيع والرقصات التشجيعية التي يشارك فيها المؤدون وجمهور العرض على حد سواء، إلا أن الأمر لا يخرج عن السيطرة أبداً وخصوصاً أن الخطيب حاضر على الخشبة بوصفه الحكم وضابط إيقاع العرض وتوزيع الأدوار ضمن أفراد لم يخضعوا لأيّ تدريب، هم فقط مشجعون تدريباتهم تقتصر على ضبط حركاتهم الراقصة وإيقاع أغنياتهم وشتائمهم، فهم حسب ما يسمون أنفسهم “أفضل جمهور في فرنسا”.

نرى نهاية العرض ما يشبه اعتذاراً ثم دعوة للحوار بين الجمهوريْن سواء على صعيد كرة القدم والتاريخ المتوتر بين جمهور باريس ومشجعي “أر سي لينز”، أو على صعيد المسرح كمكان للفرجة ويتمثل ذلك بتساؤلات يطرحها أحد المشجعين عن الاختلافات بين جمهور المسرح وجمهور مباراة كرة القدم، فأيهما أحق بالانتقاد وأكثر حرية من الآخر وما الذي يجعل جمهور العمل الفني مختلفاً عن ذاك الذي يكرس حياته للرياضة، ثم الأهم، هل يحق لجمهور المسرح أن يشتم الممثلين والمخرج في حال لم يعجبهم العرض الذي يشاهدونه، أم أن ذلك حصري لجمهور كرة القدم.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *