جماليات الصورة الرقمية في العرض المسرحي د . محمد كاظم هاشم الشمري/

في العرض المسرحي

د . محمد كاظم هاشم الشمري

mkhalshemary@yahoo.com

جامعة بابل / كلية الفنون الجميلة

مــع تطور العلم ودخولنا العصر الرقمي تطورت جميع مرافق الحياة بما فيها الفنون التي كان لها النصيب الأوفر في الإبداع والجمال فدخولنا العصر الرقمي الذي احدث العديد من التغيرات خصوصاً في الجانب العلمي , فاستخدامنا للتقنيات الرقمية في الفنون الجميلة لاسيما المسرحية منها تعتبر انطلاقة جديدة أسست لمسرح معاصر , فالعصر الذي نحيا فيه حوّل كل شيء إلى رقمي حيث دخلت التقنيات الرقمية ليست في إضاءة الخشبة فحسب بل في تشكيل العرض المسرحي برمته , فبفضل التطور التكنولوجي للعلوم والتقنيات دخل العالم مرحلة نوعية جديدة تمكن فيها من فهم أعمق للكون والمادة والحياة كما تمكن من فهم أعمق للطبيعة والمجتمع , ولعل العالم الآن لم يستوعب بعد كل أبعاد الثورات العلمية التقنية وكل أبعادها المحتملة ودلالاتها, لقد ضاعف العلم من قدرات الإنسان وحقق للمجتمع الإنساني مكاسب كبيرة , فمن خلال العلم والتقنية توحد العالم واقتربت المسافات , وتيسرت أشكال التواصل والاتصال بين الناس , كما ازداد بفضله الإنتاج , وتحققت وفرة الغذاء الذي حقق بدوره تحسن نمط العيش , لقد ارتبط تقدم التقنية بتقدم الفكر , ويعتبر العصر الرقمي عصر التكنولوجيا المتطور عصر التغيير لما يحمله من تغيير في أساليب الرؤية والتعبير , فالتقنيات الرقمية ومن خلال ماتفرضه من هيمنة على المجتمع عبر المشهد التواصلي تم صناعتها ومعالجاتها عبر أنظمة وبرمجيات الكمبيوتر وشبكات الانترنت , والتي يتم إدراكها عبر شاشات العرض الضوئية , فالمنظور الجمالي لهذا العصر الذي نعيشه يعد انعكاساً للتقنيات والإمكانات التي وفرها هذا العصر للحضارة الإنسانية , فالتجربة الجمالية سوف تغدو تعبيراً عن كل ما يدرك بصرياً عبر التقنيات الرقمية , فان هيمنة الفنون الرقمية لاسيما المسرحية منها ” أفضى إلى حصول تحول عميق في مفهوم المحاكاة , إذ لم يعد هذا المفهوم يعني تقليد أفعال البشر مثلما قال أرسطو , ولايعني محاكاة الواقع , بل أصبحت المحاكاة تعني تقليد الحياة للصور الفنية وإيديولوجياتها المبدعة عبر أنظمة المحاكاة الرقمية , وبتعبير آخر إن المحاكاة في العصر الرقمي تعني تقليد الواقع أو الحياة للفن , وليس العكس مثلما كان سائداً في العصور السابقة حين كان الفن محاكاة للواقع ” () لقد ساعدت التقنيات الرقمية المخرج المسرحي على تحقيق بنائية العرض ورؤاه الميتافيزيقية من خلال دورها في إعادة الفرضية المسرحية ودلالاتها في السعي لخلق علاقة بين الممثل وعناصر العرض المسرحي السمعية والبصرية لتكّون منظومة جمالية تعكس الحقيقة بالخيال , ولتصبح بمثابة المكون الدلالي والتعبيري التي يتجلى العرض المسرحي بانعكاساتها الجمالية , وتعتبر هذه التقنيات احد أهم الجسور بين العلم والفن , ولاشك في إن المسرح تأثر بالتطور التقني كأي فن من الفنون الجميلة , فالمسرح ومنذ نشأته هو فن بصري يسعى لإنتاج صورة جمالية مثيرة للمتلقي , لاسيما العرض المسرحي ذو التقنيات الرقمية الذي يتطلب من المخرج رؤية علمية وفنية أكثر دقة , فالتعامل وأحكام السيطرة مطلوب من خلال الدمج بين التقنية الرقمية وباقي الوسائل والوسائط المتعددة , أو بين التقنية نفسها وحركة أجساد الممثلين , لذلك غيرت التقنيات الرقمية شكل العرض المسرحي وفضاءه من خلال تجانسها مع باقي عناصر العرض المسرحي لإثارة اهتمام المتلقي وتحقيق المتعة الجمالية والإبداعية . فالمخرج المسرحي يسعى لأنْ يكون العرض المسرحي ذا قيمة تعبيرية وفنية يتجلى فيها الجمال الفني والإبداعي من خلال استخدام التقنيات الرقمية والتي يعتبرها ذات دقة علمية عالية .

الصورة الرقمية :

تلعب الصورة دوراً اساسياً في العملية الإبداعية البصرية , إذ تعتبر تداخل الصورة الرقمية في تشكيل العرض المسرحي من المفردات الأساسية التي يلجأ إليها المخرج المسرحي لتشكيل الصورة المسرحية على خشبة المسرح , فقد استطاع المخرج بهذه الميزة البصرية أن يخلق غرضاً جديداً يضاف إلى المؤثرات البصرية الذي يسعى بها إلى عامل الإبهار والدهشة والتأثير في وجدان المتلقي , لذلك سعى بعض المخرجين إلى ترجمة هذا التوجه في تجاربهم الإخراجية ، من خلال عملية دمج فن العرض الحي مع تكنولوجيا الواقع الافتراضي المبتكرة رقمياً، والمتمثلة في الصورة المنشأة بالكومبيوتر, التي تم إعدادها باستخدام البرمجيات المتخصصة في إنتاج بيئات الواقع الافتراضي والتي يمكن التحرك داخلها بصرياً ، فهذه البرامج يمكن من خلالها إعداد مجسمات توظف مع ما يقتضيه المشهد المسرحي خلال العرض .() ستقوم الصورة عبر الشاشات بدور عالي أكثر فاعلية من دورها التقليدي , وستصبح أكثر ضرورة وستعود إلى الحضور في معرض مستمر وشامل حاملةً إشارات ورؤى وخصائص متميزة ومتعددة لم تعد محصورة في غرفة مغلقة , لقد أصبحنا على أعتاب عالم جديد للصورة يتخلى عن جميع المقومات التي اعتمدتها منذ العصور الحجرية حتى عهد الحداثة , لكي يعتمد على علبة صغيرة , أو صندوق محمول بين ايدينا (كمبيوتر) يتحدى خيالنا وذكائنا , لقد أصبح هذا الجهاز الصغير الكمبيوتر أكثر قدرة على دمج الصوت بالصورة , وأكثر قدرة على إعادة الصورة الى ماهيتها  من حيث هي لغة مجردة ترفض ان تكون حكايةً , أو خطاباً , أو فلسفةً , وترفض ان تكون صورةً ناسخةً صماء بكماء مكبلة بقيود الشكل الذي سيطر على إدراكنا , فالصورة تعبر عن أشياء وأشياء مهما كانت خلفيتها فكرية او فلسفية , ولكن الصورة اذ تعبر عن معان , فان تجلي هذه المعاني يمكن ان يتم عن طريق الصوت ,() او الحركة أو التشكيل تتآلف مع عناصر العرض المسرحي , التي تضم تقنيات رقمية اعتمدت وبشكل أساسي في وجودها على هذه التقنيات من خلال رؤية المخرج وتنفيذ المصمم وإمكانياتهم , فالإبداع في تصميم الصورة والأشكال الرقمية ليس فقط هو الاستخدام الأمثل للتطور التكنولوجي الذي يتم التعامل من خلاله وفق قواعد ثابتة , بل هو ايضاً الاستخدام الخلاق والواعي من قبل المخرج والمصمم لتلك التقنيات التي يتيحها الوسيط لتوفر له العناصر الضرورية لتجسيد فكرته وتأكيد المعنى الدرامي الذي يمثل الغاية الفنية للتأثير على المتلقي , ومن هذا المنطلق أتاح استخدام برامج المعالجة الفنية للصورة الفوتوغرافية العديد من المزايا أبرزها إمكانية التحكم في درجة وضوح الصورة ودقتها وكثافتها البصرية ودرجة التباين فيها، وإمكانية حذف الخطوط والتفاصيل الزائدة في الصور، والقيام بعمل الرتوش الاليكترونية لها، وإمكانية إضافة التأثيرات إلي الصور، وإظهارها في شكلها النهائي على الشاشة , وإمكانية التحكم في مساحات وأحجام وأشكال الصور (مربعة ، مستطيلة ، بيضاوية) وإمكانية قلب الصور وتغيير اتجاه الحركة فيها، والتحكم في زوايا الإضاءة في أجزاء منها , وإمكانية إنتاج الظلال , وإمكانية حذف أجزاء من الصورة وإضافة أجزاء خارجية إليها ، مع إمكانية دمجها وتركيبها مع صور أخرى ، وكذلك إبراز أجزاء منها وإضعاف أخرى ، وغيرها من العمليات التي يطلق عليها تدوير الصورة ، وإمكانية دمج الصورة في النص المكتوب ، وكذلك المزج بينها وبين الرسوم بدلاً من عمليات القص واللصق التي كانت تستخدم سابقًا .() ومن هذا المنطلق فان فن المعالجات الرقمية للصورة أو الفيديو الرقميين بشكل خاص يتطلب قدراً كبيراً من الدقة للجمع بين طرفي المعادلة ( الوسيط المسرحي , والوسيط التقني الرقمي ) كون أنَ الممارسة الفعلية تعتبر ايضاً من الوسائل الهامة والفاعلة للوصول إلى تحقيق الهدف , فان طبيعة كل منهما قد فرضت اسلوباً معيناً في التعامل مع المتلقي .  فالعرض المسرحي ذو التقنيات الرقمية يركز على الجانب البصري من خلال عرض الصور والأشكال الهندسية المختلفة خاصةً وان توظيف التقنيات الرقمية وتجلي جمالياتها يعتمد على الجاني البصري , بالإضافة إلى الجانب السمعي , فالتخاطب المسرحي في عرض التقنيات الرقمية يتم عبر جماليات الصورة الرقمية مع تآلفها واشتراكها بباقي عناصر العرض المسرحي , لتشكل صورة العرض التي تتمظهر في حقل الفضاء البصري , ويمكننا القول بأن الصورة تراهن على تقديم المعنى كما تفضي على المتلقي نوعاً من الانتباه واليقظة كما تراهن أيضا على إيصال المتعة الذهنية والمتعة البصرية سواء من خلال الصور التشكيلية أو الشعرية أو غيرها كما تهدف إلى تمرير الخطاب اللغوي والخطاب البصري كما وتراهن ايضاً على أهمية القراءة الصورية . فتبرز قدرة الصورة على انتزاع التأثير نابعة من انفكاكها عن كل ما هو خارجها وإعادتها لتجديد اللحظة الزمنية وترسيخها في التأريخ كما أن مواضع الخطاب الجسدي والعقلي والوجداني للصورة تتعرض لما يشبه القطيعة مع ما تختزنه تلك المواضع حيث تتعرض لتأثير الصور بفعل ضغط اللحظة التصويرية “() فالصورة الرقمية ماهي الاّ وسيلة تعبيرية يفترضها المخرج المسرحي ضمن رؤيته الإخراجية تخاطب الذائقة الجمالية والفكرية من خلال الإحساس والتفكير الذي يؤدي إلى التفاعل مع المتلقي .

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *