جماليات التشوه والتشظي في هدوء نسبي / اميرة الوكيل

المصدر / مسرحنا / نشر محمد سامي موقع الخشبة

بعض العروض المُمَيزة تُجبرنا أحيانا على الخروج عن نسق الخطاب النقدي المُعتاد والأكاديمي، بعض العروض تدفعنا عبر الأسئلة والتأمل نحو استقطاب لغة معرفية وآفاق دلالية مُغايرة عن السياق، ورغم أن هذا يبدو شديد الإرهاق، فإنه يكشف عن لذة الألم التي تحتاجها ذواتنا.
نبدو كأرواح تائهة، تفقد الاتصال بغرائزها، وتنحصر عقولنا في المُسلمات، وتحدث حالة من البُعد والنسيان عن طبيعتنا الوحشية، والانسياق في عوالم مُصطنعة ومزيفة لأرواحنا، هنا نحتاج إلى ممر نحو عوالمنا المنسية، كل الإشارات تخبرك عزيزي المُتفرج أنك سوف تحضر عرضا مسرحيا غير اعتيادي، وأنك سوف تظل مُحاطا بهالة من الغموض وسط تساؤلات متوجسة من الوافدين، تمنعك من التوقع أو التكهن، لا يخبرنا أحد بمكان العرض، فقط علينا الانتظار أمام إحدى سينمات عماد الدين، حتى يمر علينا من يرشدنا للمكان، ننتظر المجهول الذي أصبح الملاذ، تصطدم عيوننا مع المارة العابرين، فصرنا لاجئين ننتظر الإغاثة، ورغم الزحمة نتملق الوحدة، سوف نذهب للمجهول داخلنا، نعبر كهوفنا الذاتية، هل الآخر هو المجهول؟ هل نحن في انتظار الآخر/ الأمان في مبنى كان في الماضي كافيه وقاعة سينما تهجره الرُوح، في مبنى تسكنه البقايا؟!
فرصة أخيرة للنجاة
ذلك ما سوف نستشعره قبل حضورنا عرض «هدوء نسبي»، رغم الإيقاع الهادئ فإننا نلهث بداخلنا، المكان وسط صخب المدينة، ومع ذلك فالعرض معزول تماما عن الحياة المكتنزة، مكان بدائي مهجور، إلا أن المخرج يراوغ توقعاتنا ويضع اسما للعرض بالإنجليزية Metamorphosis (التحول/ المسخ)، هل هو يؤكد على هذا التحول البيولوجي والتطور الفيزيقي التي تقبل عليه البشرية؟ حتى إن دعاية العرض عبارة عن لحم فاسد مُعلب انتهت مدة صلاحيته، فهذه الحياة فاسدة وربما انتهت بالفعل.
أحد القائمين بالعرض يرتدي كمامة، يدعونا للدخول عبر باب يغلق بمجرد دخولنا كإشارة لبداية العرض، هل هو باب الاستغاثة؟ مكان مُظلم مزدحم، مناخ يؤهلنا لحالة الانقباض المطلوب، نستلم أدوات الإنقاذ، كشاف صغير، كمامات تحمينا من هذا العالم المتهالك، سور مستشفى. عزيزي المتفرج عليك اتباع بعض التعليمات في السير. أدوات تؤكد على أننا تائهين، نبحث عن الجذر/ الرحم داخلنا بِوصفه الأمان، وهي مرحلة أودت بنا إلى الإنسان البدائي/ الوحشي بداخلنا، للبحث في كهفنا المظلم المنسي، لنجمع عظامنا وجذورنا كما أشارت «كلاريسا بنكولا» باحثة الميثولوجيا لنُعيد تشكيل الأنا وغرائزها الحيوانية بداخلنا، وهو ما يدفعنا له العرض أن نتوقف عن الهرب من غرائز الأنا والعودة لها مرة أخرى.
بمجرد صعودنا الدور الأول لا يستقبلنا المخرج بطرقات المسرح الثلاث، وإنما نسمع صوت ساطور يُقطع لحما وعظاما حقيقية طازجة بقسوة، من قبل الابنة إحدى أفراد العائلة فليس هو بلحم (آندريه أنطوان) الشهير الذي وضعه على خشبة المسرح، ولا هو يُعبر عن قسوة وعنف (أنطونان آرتو)؛ بل يُمكن اعتبارها مُحاولة للكشف عن حالة الفوضوية بداخلنا، والعوالم الفاسدة والمشوهة، فنحن محاطون بهذا البؤس والعفن.
عبر سلم جانبي ينزل شخص وسط ضجيج من الخطوات التي تتعكز على كرسي، خطوات أرادها المخرج أن تقتحم بعنف كتل الجمهور الواقفة وتعمل على تشتتها، ثُم يرشدنا إلى فضاء العرض، ورغم أن الشخصيات تجلّت من كيان وذات المخرج كما خطط ورسم لها بعناية شديدة التميز؛ فإنها ذو لغة متفردة يُمكنها مُخاطبة اللاوعي بكل أشكاله وتنوعاته وأزمانه، نتتبع الشخصيات نزولا لقاعة تقف فيها الابنة وهي تفرم اللحم عبر آلة بدائية، آلية تُناسب ملامحها الباهتة، وقد أدت الدور ببراعة شديدة الإتقان (سارة خليل) عبر المعالم والسلوك المحايد والهدوء القاسي، الذي يحمل قسمات وآثار بشرية، وعبر فتحة مظلمة أعلى القاعة يسارا تخرج الأم زاحفة على الأرض، عبر خطوات عنكبوتية ووجه ممسوخ ذي شعر طويل، وهي تحمل تلفازا أحمر صغيرا قديما، يعرض إرسالا منقطعا ومشوشا، وقامت بالدور (نورهان صالح) عبر أداء جسدي مدهش ولافت يعبر عن هذا الغموض والعالم المقبض، كما أن دور الأم يذكرنا بـ(جايا Gaea) في الميثولوجيا (الأرض/ الأم) التي تبلورت عبر الفوضى لكي تحمي البيئة والطبيعة، لكن الأم هنا ما زالت تزحف بعجز وسط الهدم والفوضى، فالشخصيات في انتظار الموت الذي تأخر وأصبحوا موتى أحياء أصابهم التشوه.
الأب المسخ لا تتضح كينونته وسط تراكم من العفن والموت والدماء، يكشف عن ثبات الزمن الذي لا يمر ولا يتجدد، لون أحادي بلا ملامح، يرتدي قناعا لوجه خنزير (الرجل الخنزير Hommecocohon)، هنا لا يسعنا سوى الاندهاش من دقة القناع ومدى اتساقه كأنه نبت له، ليكشف عن جهد ودقة شديدة الإتقان وإبداع متفرد للمكياج الذي صنعته (دينا سالم) لشخصيات العرض. الأب/ المسخ أنفاسه غليظة تخرج بصعوبة لتُناسب طبيعته الحيوانية، فالقناع لا يظهر سوى الفم، كدلالة على الشهوة والرغبة التي تبقت له، ولقد أبدع وأتقن بقوة أداء الشخصية (أحمد الشرقاوي) وتفاصيلها، عبر تجسيده لسيطرة الغرائز الحيوانية، واهتمامه بالضروريات الحياتية الشهوانية، التي تكشف عن ملامح القبح والتشوه، فالجسد الإنساني يبدو كآلة، وهذا ما جعل بعض النظم الاجتماعية تجد مردها في الغرائز والعادات الاجتماعية الأولية.
لقد خرج المسرح الحديث من المسارح التقليدية للشوارع والمقاهي والخرائب، وأصبح من الممكن جعل المكان الخالي مسرحا،، فلقد أشار «بيتر بروك» إلى إمكانية أخذ أي فضاء فارغ وتسميته منصة عارية، رجل ما يعبر هذا الفضاء لفارغ، وآخر يراقبه، هذا ما يخلق الفعل المسرحي، فلقد اختار المخرج المكان بعناية شديدة وجهد مبذول ليكون مخصصا لهذا الغرض، ليس ثمة ديكور مبني، فقط أكوام متناثرة من القمامة والحطام، كإشارة لبقايا حياة بشرية سابقة، كأن الشخصيات، رغم أنه مكان مهجور، تعيش من فترة طويلة، المكان ليس ذا نمط تقليدي وإنما متاهة لها أكثر من مخرج بسلالم صاعدة وهابطة، مكان لا يعرف الحضارة، أو ما بعد الحضارة، كما أنه مهدد طوال الوقت بالانهيار بين الحين والآخر، عبر تساقط الأتربة والطوب كإشارة للرحيل المُفاجئ، دون تحية للجمهور، المخرج لا ينشغل بنهاية أو تحية، فالوضع متكرر ولم ينته بعد، وإلغاء التحية كتأكيد على خطورة الوضع.
واقع على وشك الانفجار
الفتاة الممسوخة/ الأم تقتل الأب بعد معاشرته اعتمادا على منطق الحياة البرية الموحش، الذي تقتل الأنثى فيه الذكر بعد المعاشرة، كأن الحياة مهددة بالانقراض وعدم البقاء، في الجانب الآخر يُعبر عن الشهوة والعنف، فالابنة بعدما تكتشف موت المسخ/ الأب، تقوم بتعليقه من قدميه بجانب الذبيحة المعلقة، فهو صار نافقا مثل أي لحم يصلح للأكل. الوضع غير صالح للحياة البشرية، فهو ينم عن التشوه والتآكل الذي صار معتادا، فالابنة تحيك بالإبرة جرحا بذراعها بكل هدوء، ينبهنا المخرج كل حين، انتبه أيها المُتفرج إنك في عالم شديد القبح والتشوه! هذه الحالة تولد لأول وهلة صدمة في نفس المُشاهد، فينتج عن ذلك بعض الألم، الإيحاء بالرعب يجعلنا ننكمش في ذواتنا، أن مفهوم القبح يفصح عن الاستنساخ المشوه، أن الحضارة على وشك الانتهاء والذوبان، وهذا ما تبقى من التاريخ البشري، أطلال وبقايا إنسانية محطمة.
العرض يُحطم الاتجاهات السائدة المستقرة في الوعي، لكي يُحدث توترات وفوضى تُحطم أي سياق أو نسق، فالعرض لا يتكئ على الدقة والتناسق في الصورة المسرحية، بل ويسعى إلى تفتيت العقدة الأرسطية أو اتساق عناصرها، منذ البداية دلالات العرض تخبرك، عزيزي المُتفرج، أنك لن تحصل على سرد درامي متسق، ليس هناك بناء درامي محكم، لقد ذابت الملامح الأرسطية وعناصرها المترابطة أمام التشوه والقبح، كما أنها ليست بالبصمات العبثية البيكتية، فالعرض ليس فقط ينساق في إطار التيه الزمني، وإنما هو زمن مشتت وواقع صادم للذوات المنسية داخلنا، هنا لا مجال للخوف والشفقة الأرسطية؛ بل تأمل للوجود المراوغ والغرائز المنسية بذواتنا.
العرض يحمل مساحات ذات أبعاد متعددة Multi – dimensional تتلون وتتغير، تبعا للتحولات المعرفية والفنية، التي ينسجها التكوين البصري، بِوصفه كولاجا حيا من الفضاء المتهالك، الذي يسعى لإيقاظ الحواس عبر روائح التراب، العرق، الحر، روائح اللحوم تُطهى أمامنا، وألوان الملابس الرمادية الباهتة كاستعداد للموت، التي تتضافر مع الدماء وقطع اللحم المتناثرة على جسد الممثلين وعلى الأرض، بجانب اللون الأخضر المنطفئ الذي يُشير إلى أن الواقع صار عفنا وفاسدًا لا يصلح للحياة البشرية. أصوات وحركات وموسيقى تتملص داخلنا بنعومة مخيفة، وتذكرنا بثقل الزمن الراكد، زمن اضطراري وضبابي، تلك الصورة تكتمل عبر إضاءة الشموع المُتناثرة فحسب، فالمخرج لا يلجأ إلى الإضاءة الكهربائية، ليُناسب الحضارة التي تتهاوى، فطبيعتنا كالفراشة تتجه نحو الأضواء، لكن المُخرج يدفعنا نحو الظلام، هذا الجزء البعيد المنسي؛ لكي نلتحم به.
عزيزي المتفرج، نحن الآن في زمان اختفت فيه التكنولوجيا، أو ما بعد الآلية والثورة التكنولوجية، ترهص بتاريخ جديد للجنس البشري، تطور يضع العالم في حالة من الامتداد اللانهائي والتشظي؛ بل يمكننا أن نعتبرها حالة من التضخم التي تشبه الانفجار، هذا يعني غياب واضمحلال الإنسان كوسيط معرفي حي وفعال، ويظهر مكانه صور من المسوخ والتشوهات البشرية، الأم تتجول بتلفاز كوسيط اتصالي ليس به إرسال، وفي ظل المدنية ننفصل عن العالم الخارجي ولا نعرف كيف أصبح؟! وهذا ما يُشير إلى تشظي الوعي، هل سيكون للتاريخ البشري فرصة للنجاة؟! فنحن أصبحنا كمجتمعات بدائية وشبه منعزلة عن الآخر الذي لم يبتعد.
فلقد أعطتنا التكنولوجيا الشبكة المعلوماتية العنكبوتية واقعا لا يعرف الحدود الفاصلة بين الحقيقي والخيال، الذي يتجسد في حركات الأم العنكبوتية المسيطرة، وهو ما يخلق عالما افتراضيا بديلا للواقع، شيئا فشيئا تغيب الصورة البشرية الأصلية؛ ومن ثم تتعرض الصور الأصلية للتشوش والفوضى، وحالة من التضخم والفجوة، ويكون البديل واقعا مزيفا مشوها، ويتفتت الواقع التاريخي ويصبح مؤهلا للذوبان، فالأب المسخ يحذرنا عندما يثور لدى سماعه هاتفا محمولا يرن، وضعه المخرج وسط الجمهور، فيقتحم الجالسين بقسوة بحثا عن الهاتف لكي يحطمه، وعلى الأرض نجد عدة هواتف محمولة مُحطمة وكأن الأمر تكرر كثيرا، الهواتف التي تُعتبر الآن وسيطا بين الإنسان والعالم، ليُمهد عن حالة من التجذر بسبب قطع الإرسال، فهو أداة التواصل العصري والوسيط المعرفي الجديد بالعالم الخارجي، رغم ما يُحدثه من حالة التجذر والانفصال.
كانت أرواحنا بحاجة إلى تجربة تُثير حالة من الإدهاش غير المتوقعة، تنقذها من حالة الذبول وتحدث لها إنعاشا أخيرا، وتمنع عقولنا من أي توقعات مسبقة، وهو ما أدهشنا به المؤلف ومصمم السينوغرافيا والشخصيات ومخرج العرض (عمر المعتز بالله) بتناغم مدهش، مغامرة شديدة الجرأة والقوة والثراء، إذ يُمكن وصف العرض رغم حالة التشوه والموت والانقباض بأنه طازج وليس ذا مشاهد صماء.. هل يُمكن اعتبار أننا أمام تجربة مسرحية وبصمة فنية لن ينساها المتفرج أبدا؟ هل يُمكننا اعتبارها بداية لمسارات مسرحية جديدة، تطرق آفاقا مغايرة عن كل الأنماط المسرحية المعتادة؟! فمن يُشاهد العرض يمكنه أن يتلمس ويخمن كواليسه التي تنم عن جهد كبير متقن، وتجربة شديدة الإبداع والتفرد، تجربة دفعتنا إلى رحلة استكشافية لذواتنا المنسية.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *