جسد الممثل .. حتمية ضرورية في التعبير الفني/تأليف د. مدحت الكاشف أيمن رفعت

 

 

المصدر / وكالة الصحافة العربية / محمد سامي موقع الخشبة

الكاشف يؤكد في كتابه ‘اللغة الجسدية للممثل’ أن العرض المسرحي لا يكتسب صفته إلا بوجود المتفرج الذي يشكل أحد العناصر الثلاثة الأساسية للمسرح.

مؤلف هذا الكتاب هو د. مدحت الكاشف، تخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية، تخصص في التمثيل والإخراج عام 1987، ونال درجة الماجستير في فنون المسرح، عن أطروحته “دلالات اللغة الجسدية للممثل” وعلاقتها بعناصر العرض المسرحي، وكان موضوع رسالته للدكتوراة بعنوان “انعكاسات مسرح برتولدبريشت على مسرح أيوجينيوباربا” دراسة تحليلية في المفهوم الاجتماعي وتقنيات العرض المسرحي، وشغل العديد من الوظائف في المجال الفني.

وفي كتابه “اللغة الجسدية للممثل” الصادر عن أكاديمية الفنون بالقاهرة، يحرص مدحت الكاشف على تقديم الرسوم التفصيلية لجميع التدريبات اللازمة لتهيئة جسد الممثل للقيام بمهمة التعبير والدلالات من خلال التصنيفات المسرحية الحديثة للغة الجسدية، والتي لكل منها أسلوبها الخاص في تناول جسد الممثل ولغته التعبيرية الدالة، مرورًا باللغة الجسدية في المسرح الراقص وفن التمثيل الصامت، حتى علاقة الجسد للممثل بكل ما هو مرئي في الفضاء المسرحي، وبالصوت الإنساني، حيث يركز الكتاب على البعد الجسدي للممثل باعتباره مسئولًا أوليًّا في التعبير عن المعاني والدلالات سواء في العرض المسرحي أو في السينما والتليفزيون، وإلى جانب العناصر الأخرى المرتبطة بالممثل من حركة وإيماءة وإشارة وماكياچ وملابس؛ حيث يرى أن جسد الممثل في المسرح يتميز بقدرته على تقديم كل معقد من المعاني والرموز، باعتباره الرمز المادي الرئيس، حيث يقدم دلالاته من خلال مظهره الخارجي، وأفعاله، وسلوكياته على خشبة المسرح، فضلًا عن أنه ينم عن الهوية الجنسية العرقية أيضًا، كما أن بمقدرته التعبير عن المكان والزمان، والأهم من ذلك فهو يتفاعل مع لغات خشبة المسرح الأخرى من “سينوجرافيا” وصوتيات إلى المتلقي، وهذا ما يؤكده “ميشيل فوكوه” بقوله: “إن الجسد هو السطح الذي تنقش عليه الأحداث نفسها والذي تقتفي آثاره اللغة، وتقوضه الأفكار”، يضاف إلى هذا المفهوم أن ذلك الجسد – في الحياة والمسرح – يتم التعامل معه باعتباره متحركًا، وأن هذه الحركة تتدفق باستمرار لبث الدلالات من خلال أفعال وسلوكيات وتصرفات الإنسان الممثل على خشبة المسرح.

• غريزة تمثيلية

شغل جسد الممثل – خلال التاريخ المسرحي الطويل – مكانة ما في العرض المسرحي، تأرجحت هذه المكانة بين البزوغ والأفول، ثم البزوغ ثانية كحتمية ضرورية في تعبير الممثل، ويضرب مثلًا على ذلك، يذكر مدحت الكاشف مؤلف الكتاب، الجسد في مسرح الشرق الأقصى قائلًا: نشأت الظاهرة المسرحية في الشرق الأوسط من خلال الطقوس والرقصات الدينية المبكرة، وكذلك من القراءات التمثيلية التي استمدت من القصائد الملحمية القديمة أهمها: “الرمايانا”، و”الماهابهاراتا”، إلا أنه لم تكن مهمة المؤدي أو الممثل أو الراقص بأن يحاكي فعلًا ما، أو عاطفة لشخصية معينة، ولكن انحصرت مهمته في محاكاة الطبيعة الأولى بشكل أكثر جاذبية، مما هي في الواقع، فنجد في الهند أن الروح الجوهرية لدى الممثل الهندي القديم هي الأهم، حيث هي التي تكمن وراء الأحداث، والعواطف المختلفة، ولذا فقد اعتمدوا لإيصال ذلك على المتلقي عن طريق تلك التعبيرات الإيقاعية التي تحمل عددًا من الحالات المزاجية المعنية، والتي تصل إلى ثماني حالات أساسية هي: الشهوانية، الهزلية، المثيرة للشفقة، المهتاجة، البطولية، المرغبة، النغيضة، المدهشة.

أما الممثل الصيني فقد نظر إلى التمثيل على اعتباره نوعًا من التحول في السلوك اليومي المعتاد للإنسان، الذي هو على المسرح في حالة من العرض، وعلى ذلك فالصينيون قد قاموا بتجميد التمثيل في تقاليد جسدية رمزية مشفرة، وتم إعدادها مسبقًا من أجل إعطاء دلالات معينة. * جسد الممثل

يذكر المؤلف أن أساليب التعامل بجسد الممثل في المسرح الحديث والمعاصر، قد اختلفت عن بدايات المسرح، حيث ركزت على الجوانب النفسية للممثل ومن ثم إبرازها عن طريق الجسد أي “من الداخل إلى الخارج، بينما ركزت الأخرى على الجوانب الفيزيقية التي تهتم بتنمية قدرات الممثل الجسدية للتعبير عما بداخله من الخارج إلى الداخل، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا التقسيم لا يعد من قبيل وضع حدود فاصلة بين اتجاهين متناقضين إذ أن هناك تداخلًا بينهما، وهذا التصنيف جاء لضرورة هذه الدراسة ليكون بمثابة ضوابط يسير على أساسها في تحليله.

فترى الاتجاه الذي اعتمد على التقنية الداخلية وهو الاتجاه الذي رأى أن التعبير الجسدي للممثل يتبع إعمال الذهن، ويأتي تجسيدًا للعواطف والانتقالات المحفزة له على الإتيان بالفعل، الذي يبدو للمتلقي حاملًا دلالاتها، وقد كان “قسطنطين ستانسلافسكي” أحد أهم هذه التجارب عندما رأى أن المسرح – وبالتالي الممثل – ينبغي أن يكون محاكيًا للواقع، بعد إعادة صياغته وتهذيبه وسعيه لتحقيق ذلك عبر مجموعة من التقنيات، التي ضمنها نظامه المعروف بـ “الواقعية النفسية”، أما الاتجاه الذي اعتمد على التقنية الخارجية وهو الاتجاه، الذي اهتم بتنمية قدرات الممثل الجسدية والاعتماد على الجسد في التعبير عن الانفعالات الداخلية ومن رواد هذا الاتجاه “مييرهولد”، الذي ابتدع أسلوبًا أدائيًّا تمثيليًّا يدعو من خلاله إلى مسرح تقديمي وليس تشخيصيًّا مثل المسرح الواقعي، الذي يتنافى مع توجهاته الجديدة في فن المسرح، ومن ثم إن قدرة الممثل التعبيرية تكمن في توظيفه للطبيعة التشكيلية في جسده مؤمنًا بقدرة هذا الجسد الإنساني على التعبير عن أدق المشاعر والأحاسيس الإنسانية وأيضًا عن العلاقات بين البشر بعضهم وبعض.

• اتجاهات تقنية

في هذا السياق يعتمد الكاتب، على الأدوات الداخلية للجسد كأساس، ويعرض اتجاهات “ييجي جروتونسكي” الذي سعى إلى إعادة النظر في فن الممثل محاولًا اكتشاف عناصر جديدة لهذا الفن، وهي تعتمد على تقنية نفسية جسدية، فالممثل في نظرة “إنسان يعمل بجسده ويفعل ذلك أمام الجمهور” ويطلب من الممثل ألا يتعامل مع جسده، كما يتعامل به من خلال الحياة اليومية، وأن يجعل منه أداة مرنة، بحيث يمكنه أن يعبر من خلاله عن رد فعل روحي معين، ويظهره للمتلقي. وعن أساليب تدريب الممثل وتهيئة جسده لإنتاج الدلالة عند “جروتوفسكي”، يقول المؤلف: إن التدريب في معمل “جروتوفسكي” ليبدأ بتمارين الإحماء لمدة تزيد على أربع ساعات قبل البروفات، وتتضمن التدريبات التمرين على الأكروبات، والتشكيلات الحركية، والتمثيل الصامت إلى جانب تدريبات الصوت، وتتم هذه وفق نظام صارم ومحكم يوميًّا، حتى يصل الممثلون فيه إلى التحكم التام في لياقة أجسامهم، وبعد ذلك يتم البدء في تمارين البواعث، “اليوجا” ليس بمفهومها الشرقي ولكنها اليوجا الميكانيكية – كما يطلق عليها “جووتوفسكي” – أما العنصر الأهم في هذه التدريبات هو تداعي الأفكار، والمعاني التي تظهر مستقلة عن الحركة أثناء التمرين، ولذا فإن هذا النوع من التدريبات يكمن في محاولة اكتشاف ما يمكن أن يحدث أثناء الفعل الذي يقوم به الممثل في حالة التداعي التي تسفر عن هذه المجموعة من الأفعال الصغيرة.

وينتقل المؤلف إلى الأدوات الخارجية للجسد الذي يعتمد عليها الممثل، فيشير إلى “إيوجنيوباربا” كنموذج، قائلًا: سعى “إيوجينوباربا” إلى تطوير أسلوب أداء تمثيلي يعتمد على عنصر التجسيد، وليس على مجرد التفسير الصادق للشخصية الدرامية، وذلك من خلال بحثه في طبيعة العلاقة بين الممثل والمتلقي وبين الفضاء المسرحي، ومن خلال تفسيراته، التي تتجاوز اللغة – بمفهومها العام – أو بما يسمى ما وراء اللغة، متخذًا أسلوب مونتاج الموقف الدرامي – المرتجل – الذي يؤديه الممثل بصرف النظر عن العلاقات السببية بين المشاهد وبعضها.

وانطلاقًا من هذا كان تأسيس “باربا” لما عرف باسم الأنثروبولوجيا المسرحية، والتي ترى أن تحليل اللغة الجسدية للممثل في المسرح وفق المفهوم الاجتماعي يحصرها في دائرة كونها مجرد انعكاس لظروف اجتماعية مرتبطة بلحظة تاريخية معينة، ولذا قامت هذه الأنثروبولوجيا المسرحية محاولة الربط بين المنظور النفسي الداخلي، وبين المنظور الاجتماعي – الخارجي – للغة الجسد.

ويطرح “باربا” العلاقة بين الثقافة الاجتماعية وبين السلوك النفسي للممثل في الثقافات المختلفة، مقسمًا الأفعال الجسدية إلى ثلاثة هي: أولًا: الفعل الجسدي المعتاد وهو الذي يهتم باتصال الدلالات للآخرين، من خلال الأعراف الاجتماعية المتعارف عليها داخل الثقافة الواحدة، وهو ما يفعله الإنسان في حياته اليومية، وثانيًا: الفعل الجسدي الذي يتمتع بمهارات عالية، مثل الحركات الجسدية، التي يقوم بها مهرجو السيرك، ولاعبو الأكروبات، تلك الحركات التي تسعى إلى تحويل الجسد من أجل إثارة الدهشة والإعجاب في الآخرين، وأخيرًا الفعل الجسدي الخارج عن المعتاد أو ما فوق المعتاد، وهو الفعل الذي يضع الجسد في شكل مقصود، وفي مستوى معين من للتحديد والتنظيم، ويكسب الإنسان الممثل مزيدًا من المعلومات بغية توليد مجموعة من الدلالات المقصودة، والمحددة للمتلقي بعيدًا عن الإطار الثقافي، والدلالات الخاصة به “في المستوى ما قبل التعبيري”.

فيما يرى “باربا” الأمر الذي يمكن أن تتميز معه حياة الممثل حتى قبل اعتزامه في البدر لتوليد الدلالات عبر لغته الجسدية موظفًا طاقته، وحضوره، ويعود ليؤكد على مسألة القصيدة من خلال الحركة غير المعتادة متسائلًا: كيف يمكن أن يتواجد مستوى من فن الممثل يكون فيه حيًا، حاضرًا بدون أن يقصد بعرض شيء أو يعني شيئًا؟ ليجد إجابة في بحثه ومحاولاته لاكتشاف مكمن الطاقة والحضور عند الإنسان، والممثل في الممثل ما قبل التعبير، ويطلق على هذا الحضور مصطلح “الجسد الحي” ويرتكز تحليله لمفهوم هذا الجسد الحي في التفريق بين السلوك المعتاد، والسلوك الذي يتجاوز ما هو معتاد.

• لغة الجسد والمتلقي

يجيب مؤلف الكتاب د. مدحت الكاشف على تساؤله، هل يمكن للغة الجسدية بدلالتها اللا نهائية أن تعطي معنى دون تعليق لها؟ إن العرض المسرحي لا يكتسب صفته إلا بوجود المتفرج الذي يشكل أحد العناصر الثلاثة الأساسية للمسرح وهو: المكان، والممثل، والمتفرج، وبدون أحدهم لا يكتسب ما يقدمه المسرح صفة العرض المسرحي، وإذا نظرنا إلى الماضي السحيق في تاريخ المسرح في أشكاله الدرامية الأولى نراه قد قام معتمدًا على مشاركة الجمهور، بل إن مؤلفي المسرح الإغريقي القدامى كانوا على وعي تام بالدور المحوري، الذي يلعبه المتفرج لاسيما في إنتاج دلالات العرض المسرحي.
ويؤكد الكاتب أن كافة عناصر العرض المسرحي على رأسها الممثل بجسده الحي تجد قيمتها التواصلية مع المتلقي، حيث تكون للغة الممثل الجسدية في فضاء المسرح، دلالاتها الواضحة التي يستوعبها الملتقي بمعزل حتى عن موضوع العرض المسرحي، ولذا فقد حاولت كل تجارب المسرح المعاصرة جاهدة أن تقيم نوعًا من التواصل الفعال بين المتلقي وخشبة المسرح – كل بطريقتها – ويمكن القول أيضًا بأنهم توصلوا إلى نتائج ما من الناحية الفنية، حيث وصل بالبعض منها إلى إشراك هذا المتلقي كطرف أساسي في العرض، وبالبعض الآخر طالبه باتخاذ فعل باعتباره ممثلًا للمجتمع الخارجي، وتحولت عند بعضهم الثالث إلى نوع من العلاقة الأكثر شمولًا بين المسرح والمجتمع ودور كل منهما في التأثير على الآخر، حتى أصبحت لغة جسد الممثل الدالة في علاقتها مع عناصر العرض المسرحي الأخرى من خلال تجارب هؤلاء المعاصرين بمثابة، “قاعدة لتفاعل لا مادي القوي تتحرك في الزمان والمكان، جاذبة للمتفرج نحو توتره المتغير ونحو التفاعل الذي تدعوه العرض المسرحي”.

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *