جدليَّة الخضوع والسيطرة – د. خزعل الماجدي

 

 

الجدلية الكبرى في حضور الجسد على المسرح، بقطبيه المركزي أو المحيطي، يمكنها أن تتجسد في مجموعةٍ من التجليات تتحرك في إطار موضوع الخضوع والسيطرة، هذا البحث يلقي الضوء على صمتها وصيرورتها وفاعليتها في تخصيب وتحفيز الدراما المسرحية ككل. ونسعى هنا إلى استنطاق جدلية المركز والمحيط في المعالجات المسرحية الحديثة من خلال المنهج التفكيكي الذي يحاول استنطاق المضمر المضاد في كلٍّ من مفردات (المركز) و(المحيط)، وكشف آليات التضاد والجدل وتلازمها.

يعتمد المنهج التفكيكي العام، الذي وضعه جاك دريدا، على تقويض الحقيقة الثابتة المقدسة والواقع الوضعي الذي نتج عنها عبر الزمن. ويتم هذا من خلال القراءة والتأويل. فهو يعمل على تفكيك الخطاب المهيمن الذي يخص المدلول الذي تم الاعتراف به باعتباره مطلقاً وثابتاً ومركزياً وسائداً.
ويعتمد المنهج على آليات الهدم والبناء، ولعل الأهم فيه، والذي يخص موضوع بحثنا، هو كسر نقاء الثنائيات واعتبار أن كل طرف فيها يحمل في داخله شيئاً من الطرف الآخر، وهو ما يجعلنا ننفذ من هذا (الشيء الصغير) لتنشيط الحالة بأكملها.
في محاولتنا لتطبيق هذا المنهج على الثنائيات التي تخص الجسد وحضوره في المسرح قمنا برصد خمس ثنائيات تهتم بجسد الممثل المسرحي أثناء العرض، حيث نجد أن طرفها المركزي السائد نتيجة التقاليد المسرحية المتراكمة هو الذي يحتكر الجسد، ولذلك بحثنا في منطقته المضمرة عنه بمضاده الهامشي، ووجدنا أن تحفيز هذا المضاد فيه سيعمل على تنشيطه ككل ويزيده غنى، وينفي وجود مركزية خالصة له بل يصبح الأمر كما لو أنه تركيب نشط من المركز والمحيط، وكانت آلية عملنا تكمن في كشف المعاني العميقة للطرف المهمل والثانوي والمحيطي. ويعمل هذا على تنشيط الفعل المسرحي من ناحية وإشعار المتلقي بعدم وجود طرفٍ نقيّ أو متجانس تماماً بشكل مطلق. فالصحيح يحمل في داخله خطأً ما، والخطأ يحمل في داخله صحيحاً ما، ولا وجود لأفضليات مطلقة وعلينا تحفيز الصحيح بالخطأ والعكس يجوز.
هذا المنهج التفكيكي سيكون أساس كشفنا للثنائية الكبرى (المركز والمحيط) فيما يخص الجسد ولكشف تناظراتها الأخرى، عبر خمس ثنائيات اخترناها نموذجاً.

السيطرة والخضوع
هذه الثنائية المحيّرة والملتبسة ترى بأن الجسد، بحضوره الطاغي المستبد، يسيطر على المتلقي وعلى المشهد ويأسرهما. لكن هذا الأمر غير صحيح، لأن هذه الهيمنة تحمل عوامل تفكيكها إذا حركناها. تحمل ثنائية الخضوع والسيطرة فصلاً وهمياً بين دونية الخضوع واستعلاء السيطرة، فالخضوع لا يعني الضعف، والسيطرة لا تعني القوة. والجسد الخاضع يحمل فيه عناصر قوته التي تتجسد في الإغواء والاستدراج والاحتواء وبهذه العوامل يمكنه أن يقدم نمطاً باطنياً من القوة الداخلية العميقة. وينطبق مثل هذا على الجسد المسيطر، بذاته، الذي يحمل في داخله ضعفه الذي يتجسد في الطيش والحماقة.
العرض المسرحي الحقيقي هو الذي يحفّز القوة الباطنية للجسد الخاضع، ويستثمر الضعف الباطني للجسد المسيطر، ويتمكن من كشف أعماقهما.
قد يحيلنا تفكيك سلطة السيطرة إلى العمل داخل الجذور الميتافيزيقية للسيطرة أو معالجتها من الداخل بتطبيق قوة تحليلية، وهنا لابد من التموضع داخل ظاهرة السيطرة وكشف قوانينها ومرتكزاتها المقدسة وشبه المقدسة، فالجسد المسيطر القوي هو جسد بطوليّ أو جسد مقدّس يستمد قوته مما هو أسطوري أو ملحمي، وهو نوع من الميتافيزيقيا الآفلة التي تعتمد على مركزية الصوت واللوغوس كما يرى دريدا ذلك.

الحلال والحرام
تطرح ثنائية (الحلال والحرام) عبر قيمٍ وتشكلات جسدية تُعنى بالحجب والتعري، وبالغلق والانفتاح، والتكتم والإباحة في حضور الجسد وفاعليته، والتي ينشأ عنها توتر دراميّ يصب في مجرى دراما العمل المسرحي كلّه.
إذا كانت الحياة العربية تمنع، بشكل عام، فتح الملفات الحرام (التابو) فيها ممثلة بثالوث التابو الاجتماعي والرسمي (الدين، السياسة، الجنس) فإن من واجبات المسرح الأساسية فتح مثل هذه الملفات وجعلها قابلة للنقاش. المسرح يعلّم الناس تحدي التابو ولا يركن للجانب (الحلال)، ولذلك فهو يخترق العادات والتقاليد الراكدة، ويخلق مستوى جديداً من التوتر والخطاب الجديدين.
يرى فرويد أن مصدر التابو هو: قوة سحرية غريبة تلازم الأشخاص والأرواح، ومنهم يمكن انتقالها عن طريق الأشياء الجامدة. فالأشخاص والأشياء، الذين هم تابو، يمكن تشبيههم بأشياء مشحونة كهربائياً. هم موضع قوةٍ رهيبة تنتقل باللمس وتتمخض عن ويلات، إذا كانت العضوية التي استدعت تفجر هذه القوة أضعف من أن تقف أمامها، فعاقبة انتهاك تابو لا تتعلق إذن بشدة القوة السحرية التي يمتلكها الموضوع التابوي فحسب، بل أيضاً بقوة المانا التي توجه هذه القوة التابوية.
الطاقة المحتشدة في التابو (الحرام) طاقة أقرب ما تكون من المقدسة، فهي غير متاحة بسهولة لدى الممثل العادي الذي تدرب على الحالات الحلال، أما الممثل الممسوس بها فيمكنه أن يقدم شحنة جديدة يعمق بها المشاهد العادية لجسد الممثل وجسد العرض كلّه.
يمكن إرجاع ثنائية (الحلال والتابو) الدينية الطابع إلى ثنائية (الخطأ والصواب) الدنيوية الطابع، والتي تلعب دوراً أكبر في خلخلة البنى الراكدة اجتماعياً ونفسياً. لكن من مهام العرض التصدي لتبعات الأزمات الاجتماعية دينياً ودنيوياً بوجوه الخطأ والصواب والتابو والحلال.

الصراحة والقناع
تلعب جدلية (الصراحة والقناع) دورها الكبير في تركيب مسار الخضوع والسيطرة الجسدية في العمل المسرحيّ، فهي بتداخلها وجدليتها وتركيبها تعمل على شحذ وتنوع الأفق الثقافي للجسد والوجه.
الصراحة هي المتن العام في العرض، صراحة الوجه والجسد بكل أحوالهما تبعث على تدرجات مختلفة من المشاعر عند المتلقي، فهو بقدر ما يحب صراحة الجسد والوجه لكنه يزداد فضولاً لمعرفة ما تحت القناع مهما كان صغيراً أو بسيطاً، ولذلك لا بد، لمزيد من التشويق الدرامي، عدم التضحية بالستار القناعي وكشفه مباشرة.
كان القناع يمثل أحد أهم أسس الطقوس الشعائرية للشعوب البدائية وكان يجسد المقدّس في أحيان كثيرة، ومعروف أن هناك مسرح الـ(نو) الياباني الذي هو مسرح القناع الذي تحولت وظيفة القناع فيه من دينية إلى جمالية.
في العصر الحديث أخذ القناع بعداً فلسفياً عند برانديللو، وأصبح تأثيره إشارياً، حيث تحول القناع من كتلةٍ صلدة إلى إشارة على الوجه أو الجسد يتم تنفيذها عبر لونٍ أو قماشةٍ أو حركة.
يمكن للقناع أن يلعب دوراً محفزاً في تنويع تعبيرات الوجه العادي ويمكنه أن يلعب الدور نفسه مع الجسد. والقناع يحمل في تكوينه السحر والأسطورة، السحر من حيث هو وسيلة للتماثل مع الشيء الذي يرمز له، والأسطورة من حيث كونه يرفع الوجه أو يخفضه باتجاه غرائبي.
مثل ذلك قناع الجسد الذي يلعب الدور الأكبر في إشاعة السحري والأسطوري في شخصية الممثل. وهناك من يرى أن الجسد كقناع يبدو مثل سترة المساجين، حيث يتحول الجسد إلى قيدٍ ويتم التستر على هفواته وفشله مثل المكياج أو عمليات التجميل التي تخفي علامات تقدم السن مثلاً.

المتن والهامش
تمنح جدلية (المتن والهامش) حركة وتنوعاً وثراءً للجسد وحركته ودراميته، فهناك الحضورات التقليدية للجسد في المتن بكل ما نعرفه من حركة وفاعلية متداولة، وهناك الغنى الهائل في الهامش والمهمل من حركة وثقافة الجسد الجوّانية يخدمان صيرورة المتن وينشطان تنوعه.
سلّط ميشيل فوكو الضوء على حالات الهامش في الحضارة الغربية مثل المجنون والطفل والمرأة والمريض واعتبرها جزءاً طبيعياً من مكوّنات هذه الحضارة وليست هوامش أو نفايات تابعة لها بحيث أنها تقدم العذر لاضطهادها وتهميشها، وكان مثل هذا الإجراء بمثابة دمجٍ لهذه الحالات (الهامشية) مع المتون والمراكز الرسمية.
الجسد الهامشي ينطوي على جماليات هائلة تفوق كثيراً جماليات الجسد المتن، فهي بتنوعها وضعفها تجسد هشاشة الكائن البشري وتكسبه تنوعاً طبيعياً منسجماً مع الحياة.
الجسد المركزي يحمل بؤرة الضعف في مثاليته المفتعلة وغير المقنعة وهي بؤرة ارتباكه وضعفه، ولذلك يمكن للصفات المضادة له والموجودة في الهامش النفاذ له وتفكيكه.
وعلى هذا الأساس يتنشط العمل المسرحي حين يربك رصانة المتن والمركز وتزداد حركة نشاطه وتشظياته التي تعمل عوامل الهامش على تغذيتها.

الميلودرامية والعفوية
لا يوجد عرض مسرحي يخلو من درجة ما من سلّم الميلودرامية، ولكن الميلودراما، مهما كانت درجتها، تكون قابلةً للاختراق والتفكيك عن طريق إحلال العفوية فيها وخفض التوتر العاطفي والانفعالي.
على المستوى التفكيكي هناك بؤرة عفوية في الجسد الميلودرامي المشحون عاطفياً يمكن استثمارها في تركيب المشهد الدرامي المقنع وهذا ما يقلب الأمر ويجعله متوازناً.
كذلك لا يمكن للعمل المسرحي أن يكون عفوياً بالكامل، بل يمكنه أن يتفكك لصالح إعادة تركيبه وجعله متوازناً درامياً.
القراءة التفكيكية تحاول أن تخلخل أنظمة الخطاب المسرحي وخاصة الخطاب المركزي الذي يهيمن على العمل، ولذلك يبدو الإجراء التفكيكي حلاً لإلغاء الهيمنة سواء كانت عفوية أم ميلودرامية.
تنظم الدراما الجسدية المتوازنة جدلَ (الميلودرامية والعفوية)، وتنقلها من أفقها المغلق الساكن الثابت إلى أفقها المفتوح المتعدد المتحرك، والتي يمكن التحكم بها من خلال حركة الخضوع والسيطرة الجسدية.
إن عفوية الأداء تناظر عفوية السلوك في الحياة وهو ما يجعل المسرح الوجه الآخر للحياة مع الأخذ بنظر الاعتبار تركيز المسرح على الإطار الذي يضعه لحياةٍ ما وهي تتدفق درامياً وتغتني وتكتنز بالمعاني والأشكال.
وسواء كانت الميلودرامية أم الهستيرية نهجاً، فإنها، بلا شك، تحمل عامل تفككها واضطرابها في العفوية الماثلة تماماً في طبيعة الجسد العادية والتي يمكن أن تعيد التوازن للعرض مع تحفيزات ماثلة هنا وهناك من انفعالات الجسد التي يمكن أن تؤدي إلى مغزى ثقافيٍّ عميق.

خلاصات أخيرة
الحركة الجدلية للجسد في المسرح تكتنز وفق إلغاء أو تخفيف الحاجز الذي يفصل عنصري الثنائيات، التي ذكرناها، وهو ما يتيح للجسد فرصة انتقاله من ثقل فيزيقي أنطولوجي طبائعي إلى خفّة ثقافية إشارية موحية تعيد النظر بكونه تكويناً مادياً مصطفاً مع الديكور والعناصر المادية الأخرى في المسرح.
ويعطينا هذا التصور أن الجسد لايمكن أن يكون مكبلاً بثقله الفيزيائي أبداً بل هو نتاج خطابات وأنظمة معرفية يفرضها مجتمع معين في عصر معين، وهو خزّانٌ لإنتاج الخطابات والأنظمة الثقافية والمعرفية، وهذا هو حاله في العرض المسرحي، لأنه سيتعرض إلى عملية إخراج تحويلية تعمل على تكوينه كآلة ثقافية منتجة.
يشكل إدراك الجسد عند، آرثر فرانك، ظاهرة مادية تتكون نتيجة مجموعة من أساليب جسدية/ اجتماعية مثل حزمةٍ من الخطابات والمؤسسات، بالإضافة إلى فاعليته البيولوجية كجسد، لكن المجتمع هو الذي يلعب الدور الأكبر في تشكيله أولاً، ويرى أن هناك أربعة أنواع جسدية تساهم في تكوينه وهي (الجسد المنضبط، الجسد المرآتي، الجسد المتسلط، الجسد الاتصالي).
يحيلنا هذا إلى إمكانية فهم (الجسد المسرحي) الذي يخضع، هو الآخر، لأنماط جسدية متعددة ولكنها متضادة، لكي يكون الفعل المسرحي نشطاً وفعالاً وأكثر دراميةّ، ويمكن لتلك الثنائيات بأوجهها المتعددة أن تكون قاعدة لهذا الفهم. يمكننا اختصار ما توصلنا إليه من نتائج في هذا الجدول الذي يجسد طبيعة الصفة المركزية للجسد، وصفة وحركة الهامش من أجل تفكيك المركز.

كوريغرافيا
كوريغرافيا: مصطلَح يعني اليوم فنّ تصميم الرَّقصات. وتُستعمَل كما هي في أغلب اللغات وفي اللغة العربيّة أيضًا، وهي تَعني حَرفيًّا فنّ تدوين حَرَكات الرَّقص لأنّها منحوتة من الكلمتين اليونانيّتين choreia التي تعني رَقصات الجوقة، و Graphia التي تعني تدوين.
ويُمكن أن تَلعب الكوريغرافيا دَورًا مهماً في العَرْض المسرحيّ حتى ولو لم يَكن يَحتوي على الرقص. والبُعد الكوريغرافي للعرض المسرحيّ يَتشكَّل عَبْر العلامات الحركيّة التي تَنتج عن تَنوُّعات شكل الأداء، وعن حركة الجسد على الخشبة ووضعه في الفضاء المسرحيّ، وعن التجانُس أو التعارُض بين الكلام والحَرَكة، وهي عناصر ترتبط بإيقاع العَرْض.
معجم الشاشة الكبيرة، مكتبة دار العلوم- ناشرون

 

https://www.alittihad.ae/a

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *