اوراق فنية جبار جودي والسينوغرافيا/‏عبدالعليم البناء‏.

إذا كان أحد من المعنيين بالمسرح ، يحق له التنظير والحديث عن فن السينوغرافيا ، الذي يمثل عصب العملية الابداعية المسرحية ، في ماضيها وراهنها ومستقبلها ، فأعتقد أن المخرج السينوغراف الدكتور جبار جودي العبودي هو الأحق بذلك ، لأنه مارس هذا الفن عمليا قبل أن يتصدى له نظريا ، من خلا ل ماقدمه من منجز تراكمي نوعي ، الأمر الذي أدى الى إطلاق الكثير من المسرحيين عليه ، لقب (ملك السينوغرافيا) .
ولعل المتتبع لسيرته المسرحية ممثلا، ومخرجا، ومصمما للاضاءة ، وإنشاء المنظر المسرحي ، وصولا الى بقية التقنيات المسرحية ، يجد أن العبودي قد عمل بالتوازي والتكامل بين هذه العناصر مجتمعة ، مع السعي الدؤوب لصقل مواهبه المتعددة بالدراسة الاكاديمية ، منذ دخوله معهد الفنون الجميلة ، وحتى حصوله على الماجستير، ومن ثم الدكتوراه من كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد ، وتعامله المباشر مع نخبة من المسرحيين من مختلف الاجيال ، ناهيك عن إتساع تجاربه من المحلية الى العربية ، فاستطاع أن يمتلك ناصية الحديث عن فن السينوغرافيا ،بخبرة العارف والمجرب والمتمكن.
ومصداقا لما قلناه صدور كتابه الجديد (السينوغرافيا المفهوم ، العناصر ، الجماليات) ، الذي إزدان بمراجعة شيخ مخرجي المسرح العراقي الاستاذ الدكتور سامي عبد الحميدلمحتوياته ، وبمقدمة مهمة لعراب مسرح الصورة في العراق الاستاذ الدكتور صلاح القصب ، الذي أكد أنه ” طرح ثقافي (ميتا بصري) لمنجز تنظيري ، إنطلق من تجاربه التي كانت أشبه بالقصائد التي عزفت لحنا ، يصدح بأغان ورسوم ملونة كلمعان البرق ترتفع عاليا نحو قمم مملوءة، بالدهشة ذات اللهب الذي منحنا التواصل معها ” ، مواصلا تبصيرنا : ” المعماري جبار جودي إنطلق من مخيلة الشعر وروح الموسيقى ، في مديات كتابه التنظيري ، ذي الموجة والطاقة الجمالية لمعادلات الفيزياءاللونية ، ليشكل هارموني يتحرك ضمن مدارات زمانية مطلقة لأثيرية الكتلة واللون والحركة”.

الكتاب صدر عن دار ومكتبة عدنان للنشر والتوزيع والطباعة ، بحجم متوسط ذي 224 صفحة ، واحتوى على خمسة فصول ، مع مقدمة وافية عرج فيها على أن العالم إنفتح “على مختلف أنواع العلوم والتكنلوجيا والمنجزات التقنية ، التي شكلت العصب الأساسي في الحياة المعاصرة ، حيث بدأت التجارب المسرحية ، بوصفها فناً يعكس أنماطاً شديدة الخصوصية ، وعلى تماس مباشر بأحاسيس ومشاعر المتفرجين، مع محاولات اللحاق بركب العصر الحديث ، والاستفادة القصوى من كل ما من شأنه أن يرتقي بالشكل التقديمي للعرض المسرحي ، من تقنيات وتكنولوجيا ، بدءاً من معمارية الأبنية المسرحية إلى تجهيزاتها التقنية والفنية ، إلى الإمكانات المتاحة في إبراز الصوت ومتابعة حركة الممثل فوق خشبة المسرح ، ومواكبة روح العصر في إنشاء المنظر المسرحي وطرق تنفيذه وصياغة أمكنة العروض المختلفة ، والإمكانيات المتطورة لأنواع الإضاءة المسرحية ،عن طريق استخدامات أجهزة الحاسوب ، في وضع الخطط المتكاملة لتشكيل صورة العرض النهائية” .
وعلى هذا الأساس يرى الباحث ،أن مهنة تصميم السينوغرافيا قد برزت، ” بوصفها فناً شمولياً ، يهدف إلى تكوين وتشكيل الجماليات المتنوعة ، التي تسهم في الصياغة البصرية والسمعية لعناصر العرض المسرحي ، الذي تباينت الآراء في إمكانية تأثيره وتعريفاته المختلفة ، وتنوعت وجهات النظر في صياغة معنى نهائي ومحدد ، يلم بهذا العنصر الحيوي” .
وتناول المؤلف في الفصل الأول سلطة جماليات السينوغرافيا في العرض المسرحي ،وقدرتها على التأثير في الصياغة النهائية ، لتكوين صورة العرض البصرية والسمعية ، كذلك أهمية الكتاب في تناول موضوع جماليات السينوغرافيا وعلاقتها بالإخراج المسرحي ، في محاولة لإستقراء واقع المسرح العراقي ومواكبته لروح العصر في تقديم عروضه المسرحية ، ومن ثم تحديد المصطلحات التي وردت في العنوان ، إضافة الى التعريفات الإجرائية الخاصة بالمؤلف .
في حين توقف في الفصل الثاني عند مفهوم ووظيفة السينوغرافيا ،مشيرا الى أن كلمة سينوغرافيا تعود بأصولها الى الاغريق ، فهي تتكون من مقطعين scene ، وتعني المشهد او المنظر ، وGraphic وتعني تصوير أو رسم ، وبالنتيجة هي تصوير المشهد بمعنى رسمه ، أو رسم المشهد بمعنى تصويره أو تشكيله ، وهي تشبه في عملها أو مكانتها ،المسرح ومكانته بين الفنون ،إذ هو جامع لها جميعا ، فتؤلف بين كل مفردات العرض المسرحي ،وصولا الى عمل السينوغراف ومنجزه في العرض المسرحي المعاصر، أما الفصل الثالث فقد تركز حول جماليات عناصر السينوغرافيا ،المتمثلة بالفضاء المسرحي وأشكاله المتعددة ، والمنظر المسرحي ( الديكور) ، وجماليات الإضاءة ، والأزياء ، والماكياج ، والملحقات المسرحية المتنـوعة ، والموسيقى ، والمؤثرات الصوتية ، والممثل ، بوصفها عناصر فاعلة في تكوين وتشكيل المنظومة البصرية والسمعية للعرض المسرحي المعاصر .
وتمحور الفصل الرابع حول عمل (المخرج السينوغراف) ، و(السينوغراف المخرج) في تجارب ثلاثة من الفنانين المسرحيين ، وهـــم ( أدولف آبيا ، وروبرت ويلسون ، وتاديوش كانتور) للتوصل إلى جماليات السينوغرافيا ، بوصفها منطلقاً تأسيسياً في بلورة الرؤيا الإخراجية في المسرح المعاصر، من خلال الدراسة التفصيلية لأعمالهم المتنوعة ، ليعقبه بالفصل الخامس الذي تناول فيه ثلاثة من عروض المسرح العراقي: (نزهة) للمخرج أحمد حسن موسى ، و(حظر تجوال) للمخرج مهند هادي ، و(حصان الدم) من إخراج مؤلف الكتاب .
جبار جودي في منجزه الابداعي التشكيلي المسرحي السينوغرافي هذا – كما أكد القصب في المقدمة – ” رسم لنا عالما ومحيطا تتسع في طاقاته الموجبة ، قوة الحركة لمعادلة زمن مستقبلي ، لمملكة مسرح عراقي متقدم “.

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *