المسرح والخاصية الديمقراطية

يتميز المسرح، من بين العديد من الفنون الأدائية، بميزة التعددية والحوارية التي تجعل منه فناً ديمقراطياً بامتياز، على عكس قول ميخائيل باختين إن ظاهرة “التعدد الصوتي” تقتصر على الرواية، ولا يمكن وجودها في المسرح، بل إنه في المجتمعات غير الديمقراطية يحل محل البرلمان، ويتحول إلى ساحة حوار حتى لو تخفى في أردية تاريخية أو فانتازية.
لكن ديمقراطية المسرح لا تكمن في تركيبه وأسلوبه فقط، بل في توجهه وأنماط علاقاته الإنتاجه وتلقيه أيضاً. ونعني بتوجهه، نزوعه الفكري الذي يقوم على الاختلاف والشك والرفض والمقاومة والتحدي، وتعرية الاستبداد والطغيان، والدفاع عن الحرية والتعددية، وليس على التسليم والإذعان.
 
ولذلك فإنه فن لا يمكن أن يزدهر إلاّ في مجتمع نضج وعيه، وأصبح قادراً على التفكير والتمييز، ومساءلة نفسه ومواجهة مايحيط به بمعزل عن التابوات‏.‏
 
ويكشف تاريخ المسرح في اليونان القديمة أن هذا الفن ازدهر مع ظهور الديمقراطية، وازدهار الفلسفة، وقد ارتبطت إحداهما بالأخرى بصلة قوية‏،‏ كما في مسرحية “السحب” لأرستوفانيس التي صورت الفيلسوف سقراط في هيئة السفسطائي المضلل، ومحاورات أفلاطون التي قدمت حياة الفيلسوف نفسه،‏ وجعلته يناقش فيها الاتهامات التي وجهها له خصومه.
 
وتراجع المسرح، كما هو معروف، وتهافت في العصور الوسطى حينما ساد الحكم الثيوقراطي واستعبد الناس،‏ وصادر الرأي‏، وحاصر الإبداع‏، ثم عاد للازدهار في العصور الحديثة التي استعاد فيها العقل مكانه‏، وانتصرت الديمقراطية‏، وانفصلت الدولة عن الدين‏، وسقطت الإمبراطوريات المقدسة‏، وأصبحت حرية التفكير‏‏ والتعبير‏‏ والاعتقاد مكفولة للجميع.‏ 
 
“المسرح فن أصيل في ديمقراطيته، عاصر قيام أول حكم ديمقراطي سجله التاريخ في “أثينا” خلال القرن الخامس قبل الميلاد،.”
فن أصيل
إن التأكيد على الخاصية الديمقراطية للخطاب المسرحي، في إطار التنظير أو الكتابة عن المسرح بشكل عام في الثقافة العربية، ليس وليد التحولات الديمقراطية المحدودة التي شهدها العالم العربي، أو الثورات التي حدثت في الآونة الأخيرة، بل يعود ذلك إلى بضعة عقود سابقة.
 
وعلى سبيل المثال كان الفنان المسرحي المصري زكي طليمات (1894-1982) أول المثقفين العرب الذين شغلتهم هذه الخاصية على مستوى التنظير، إذ كتب عام 1941 مقالةً بعنوان “المسرح والديمقراطية”، نشرها في عدد نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من مجلة الهلال، قسمها إلى خمس فقرات: مفهوم الديمقراطية، وتاريخ المسرح من تاريخ التحرر الفكري، والمسرح سلاح ديمقراطي خطير، والمسرح يحطم قيوده، وديمقراطية التركيب والتعاون.
 
ومن أهم القضايا التي طرحها في هذه المقالة أن المسرح فن أصيل في ديمقراطيته، عاصر قيام أول حكم ديمقراطي سجله التاريخ في “أثينا” خلال القرن الخامس قبل الميلاد، وحين أزال الطاغية “بيزسترات” النظام الديمقراطي أغدق الأموال على المؤلفين والممثلين لشراء ذممهم وصرفهم عن الأمور السياسية، لكنه “أخطأ التقدير، إذ أراد أن يتخذ من ربيب الديمقراطية، وهو المسرح، قاتلاً لها، وأن يصطنع من الحارس المدافع عنها سجّاناً يكبلها بالقيود.
 
وكان في ذلك كمن يتخذ من الضرغام للصيد بازه، فسرعان ما انقلب عليه التيار الذي أطلقه بعد أن تنبه الشعب إلى حريته المسلوبة مما يشاهده على المسرح، وسرعان ما تصيده الضرغام فيما تصيده، فكان أن انتبذه الشعب وأرسله إلى المنفى البعيد هو وأسرته، وأرجع النظام الديمقراطي إلى معقله”.
 
واستشهد طليمات في هذا السياق أيضاً بعلاقة المسرح الفرنسي بالنظام الملكي الذي أطاحت به الثورة الفرنسية قائلاً إن المشتغلين في هذا المسرح، رغم الرعاية المنقطعة النظير التي وفرها لهم الملك لويس الرابع عشر، وحمايته لهم من اضطهاد رجال الكنيسة، وفتحه أبهاء قصوره لعروضهم، فإنهم لم يتوانوا من الاشتراك بمسرحياتهم في التمهيد للثورة التي قوضت عرش حفيده لويس السادس عشر، وخاصةً بومارشيه الذي كانت مؤلفاته دعوةً صريحةً للمطالبة بحقوق الأفراد، ونداءً مقنعاً إلى الشعب الفرنسي أن يهب للمطالبة بالحرية والمساواة. 
 
كما عدّ طليمات خروج شكسبير على الأوضاع الموروثة عن الرومان في صياغة المسرحية، متجاوزاً وحدة الزمان والمكان، ثورةً حطمت قيود المسرح.
 
 
الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس (الجزيرة نت) 
المسرح العربي
وفيما يتعلق بالمسرح العربي أكد طليمات أن لجوء المسرحي السوري أبي خليل القباني وفرقته إلى مصر يرجع إلى اضطهاد العثمانيين للمسرح الذي كان يعمل هناك باللسان العربي، فقد خشي حكامهم، وعلى رأسهم السلطان، أمر التمثيل والممثلين وطاردوهم. ووقف طليمات أخيراً على ناحية ثانية من ديمقراطية المسرح هي قيامه على عدة عناصر فنية وأدبية تؤلف بحق، حسب تعبيره “جمهورية فنون وديمقراطية عناصر للتعبير”.
 
تلا طليمات في السنوات اللاحقة عدد من الكتاب والنقاد المسرحيين العرب في التأكيد على الخاصية الديمقراطية للمسرح، وانزعاج السلطات الحاكمة من جرأته في الكشف عن مفاسدها واستبدادها وأساليبها القمعية، منهم سعد الله ونوس والفريد فرج ويوسف العاني وسامي خشبة وفؤاد دوارة، وأحمد سخسوخ، وصاحب هذه السطور.
 
وسعى ونوس (1941-1997) للوقوف على هذه القضية في سياق دراسته عن الرائد المسرحي “أبي خليل القباني”، التي استنتج فيها أن الميزة التحررية، أو الخاصية الديمقراطية التي يحملها المسرح، كانت أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت الفئات الظلامية المتحالفة مع الحكام العثمانيين المستبدين إلى كتم صوته وهو لما يزل نبتةً صغيرةً يحاول الرواد أن ينمّوها في أرض الشام.
 
كما حاول في مجموعة من نصوصه المسرحية أن يحقق فكرة إنشاء مسرح ديمقراطي عربي على صعيد البنية الدرامية، وهي فكرة تقوم على تركيب رؤيوي للفعل المسرحي يتجاوب وفعل القول، لأن “ما يؤصل المسرح هو قوله وكيفية هذا القول”، على حد تعبيره.
 
بمعنى آخر، إن إدخال المتفرجين في صلب اللعبة المسرحية هو حاجة فعلية لقولها، وهذه الحاجة نفسها هي ما دفعت ونوس في مسرحياته الثلاث المتتالية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، و”مغامرة رأس المملوك جابر”، و”سهرة مع أبي خليل القباني” إلى الابتعاد عن لغته الإنشائية التجريدية في نصوصه السابقة من أجل الاقتراب إلى لغة تتواءم والفعل المسرحي بعد أن كانت تحاول الإنابة عنه.
إعلان
 
inRead invented by Teads
وقد أصبحت من ثم لغةً متعددة بتعدد شخصيات هذا الفعل وتباين مستوياتها الاجتماعية والنفسية والثقافية. أما في مسرحياته الأخيرة، التي كتبها في منتصف التسعينيات، وهي على التوالي: “منمنات تاريخية” 1994، و”طقوس الإشارات والتحولات” 1994، و”يوم من زماننا” و”أحلام شقية” 1995، و”ملحمة السراب” 1996، و”الأيام المخمورة” 1997.
 
وقد حاول ونوس، على مستوى البنية الدلالية، إشباع “الجوع إلى الحوار”، وإمكانية تحقيق الثنائية الحوارية: الحوار الذي يفضي إلى الديمقراطية، ومستويات الحوار المتعددة في المسرح، ليؤكد بعدها حتمية ديمقراطية المسرح، كما يقول نديم الوزة.
 
“في عام 1908 طرد الخديوي عباس حلمي الفنان سليمان قرداحي وأعضاء فرقته بسبب عرض مسرحي مليء بالانتقادات فهاجروا إلى بلاد المغرب وقدموا أعمالهم هناك”
ضد المسرح
يقول أحمد سخسوخ في كتابه “المسرح والديمقراطية” إن الخديوي إسماعيل أغلق مسرح يعقوب صنوع بعد أن هاجمه على المسرح وانتقد إسرافه وبذخه المالي الذي أوقع البلاد في حبائل التدخل الأوروبي. ولم يتوقف الخديوي عند هذا الحد، بل نفى يعقوب إلى باريس.
 
ونفى كذلك يوسف الخياط بعد عرض مسرحيته “الظلوم” عام 1879 التي كانت ممتلئة بالإسقاط على إسماعيل نفسه، أما في عهد نجله الخديوي توفيق فقد صدر قرار وزاري عام 1888 بمنع تلاميذ المدارس من القيام بالتمثيل أو ممارسة هذه المهنة بدعوى أنها مهنة لا تليق بالاحترام، لكن السبب الخفي هو أن التمثيل فن يتيح لمن يمارسه وكذلك كتابه أن ينتقدوا السياسة العامة والسياسيين.
 
وفي عام 1908 طرد الخديوي عباس حلمي الفنان سليمان قرداحي وأعضاء فرقته بسبب عرض مسرحي مليء بالانتقادات فهاجروا إلى بلاد المغرب وقدموا أعمالهم هناك.
 
المجموعات المسرحية
هذا على صعيد الفنان والمثقف المسرحي العربي الفرد، أما على صعيد الجماعات المسرحية العربية فإن جماعة المسرح الاحتفالي في المغرب هي الجماعة الوحيدة التي أكدت في بياناتها التنظيرية على ديمقراطية المسرح، ففي ضوء الفعل التأسيسي الذي انتدبت نفسها لإنجازه جاءت لتحقيق جملة أهداف منها:
“ظهرت عشرات المسرحيات العربية، منذ خمسينيات القرن الماضي، التي تكشف قراءة بعضها قراءةً دلاليةً عن محنة الديمقراطية، أو إشكالية غياب الحرية والديمقراطية”
1- جعل المسرح فعلاً محرضاً على تحقيق الحرية الاجتماعية، وأداةً لتعرية الواقع من خلال إعادة إنتاجه بشكل أكثر صدقاً وحقيقةً وواقعيةً.
 
2- الدعوة إلى تحقيق مجتمع ديمقراطي يقوم على التساكن والتعايش والحوار ومشروعية التعدد والاختلاف.
 
3- نقل العلاقات في المسرح من طبيعتها السلطوية الإقطاعية إلى طبيعة إنسانية وشعبية جديدة، من خلال إقصاء سلطة النص، وسلطة الإخراج، وسلطة الإدارة، وسلطة الشباك، وسلطة المنتج، وكل أشكال السلطة المختلفة، من أجل جعل المسرح لقاءً إنسانياً مفتوحاً، يتحرر فيه الإنسان بالمسرح، ويحرر فيه المسرح.
 
وإلى جانب التنظير لديمقراطية الخطاب المسرحي فقد ظهرت عشرات المسرحيات العربية، منذ خمسينيات القرن الماضي، التي تكشف قراءة بعضها قراءةً دلاليةً عن محنة الديمقراطية، أو إشكالية غياب الحرية والديمقراطية من خلال تجسيد بشاعة أنظمة الحكم الدكتاتورية والبوليسية. 
 
ومن بين هذه المسرحيات “آني أمك يا شاكر” ليوسف العاني، و”قرقاش” لسميح القاسم، و”صح النوم” للأخوين رحباني، و”الدكتاتور” لعصام محفوظ، و”الدراويش يبحثون عن الحقيقة” لمصطفى الحلاج، و”محاكمة كتاب كليلة ودمنة” لمعين بسيسو، و”هبوط تيمورلنك” لعبد الفتاح قلعه جي، و”الحمام لا يحب الفودكا” لمحيي الدين اللاذقاني.
 
وضمن هذه الفئة أيضا تأتي مسرحيات “حديقة الموتى” لجابر إبراهيم جابر، و”الجنزير” لمحيي الدين زنكنه، و”ملحمة فرج الله” لخالد الطريفي، و”عاشق الظلام” لماجد الخطيب،”و مساخر السلاطين في نحر الملايين” لأحمد سخسوخ، التي يتناول فيها مواقف الحكام العرب المختلفة في قتل شعوبهم وثورات هذه الشعوب على الحكام.
 
وتعتبر مسرحية أحمد سخسوخ هذه أحدث مسرحية تنقل نبض ثورات العالم العربي في إطار المسرح الوثائقي، وأخيراً مسرحية “ديمقراطية الشرق المريضة”، لهيثم الجداح، وفيها ينتقد حالة الصعود إلى السلطة باسم الديمقراطية، التي لا تلبث أن تتحول إلى تصفية حسابات وصراع حول كرسي السلطة، وتلك الأزمة التي تأخذ شكلا جديدا من الدكتاتورية هي الدكتاتورية الناعمة.
المسرح التنفيسي
ثمة ظاهرة، يصعب إغفالها في سياق المنحى الديمقراطي للمسرح، هي ظاهرة المسرح السياسي “التنفيسي”، التي أطلق عليها تسميات عديدة منها: المسرح اليومي، والمسرح الساخر، والمسرح الانتقادي، ومسرح الكباريه السياسي… إلخ. 
 
ويتجسد ذلك مثلا في تجربة مسرح الشوك السوري، وعروض هشام يانس، ونبيل صوالحة، وموسى حجازين، ومحمد الشواقفة، وحسين طبيشات، وأمل الدباس، وهمام حوت، ومحمد علي طه، وبعض العروض المسرحية في مصر والكويت.
وهي عموماً تجارب وعروض ذات نبرة تهكمية مباشرة في نقدها للقضايا الاجتماعية والسياسية، لكن جل ما تتميز به هو “تفريغ” شحنة الغضب لدى المتلقي بدلاً من تعميقها.

—————————————————————–
المصدر :مجلة الفنون المسرحية – عواد علي –  الجزيرة

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *