المسرح بين المعرفة العقلية والمعرفة الظنية

أ. د. أبو الحسن سلام (مصر): المسرح بين المعرفة العقلية والمعرفة الظنية
جدل المعاني: فرق شاسع بين مقولة: “إن بعد الظن علم”، ومقولة: “إن بعض الظن إثم”
وما بين المقولتين (نكون أو لا نكون) نفكر أو نتفكر أو نوقف التفكير إكتفاء بالتماهي مع أفلاطونية
أسبقية الماهية على الوجود. المقولة الأولي ترفع راية (الوجود أسبق من الماهية) نوجد أولا ثم نفكر
في تحقيق جوهر وجودنا فينشأ الصراع والتنافس بين الذات والآخرين أو المحيط، أما الثانية فترفع
راية (الماهية أسبق من الوجود) جوهر وجودنا مخلوق غيبا قبل وجودنا، وبعض الظن في صحة
ذلك إثم، ونحن ملزمون فحسب بالتفكر في مظاهر وجودنا وهنا مناط الصراع بين ثقافتين كلتيهما ظنية
.. إلا أن مقولة (إن بعد الظن علم) هي دعوة للتفكير، بينما تقف دعوة (إن بعض الظن إثم) عند حدود التفكر .. وما بين أصحاب التفكير وأصحاب التفكر ينشأ صراع وجودي ، يرفع أصحاب تيار التفكير شعار (أكون أو لا أكون) ويرفع أصحاب التيار الثاني شعار (يكون كما أكون أو لا يكون) والفرق بين التيارين كالفرق بين: قول المعري ((فلا نزلت على ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا )) وقول أبو فراس: ((إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر))
  فالعلاقة إذا بين التفكير والتفكر والتكفير علاقة قديمة / متجددة في مجتمعات التخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي التي تنشط فيها التيارات الأصولية والسلفية في ظل أنظمة التسلط الفردي والتبعية، حيث بنعكس حكمها بالسلب على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وتؤثر تأثيرا بالغ السوء على الحراك العلمي والتعليمي وتهمش الحراك الثقافي والفني، وهذا واقع تعيشه مصر بدون مواربة، حيث يشتعل هوس الفتاوى ونعيق التكفير، الذي كان محصورا بين التفكير والتفكر بما يتيح للإبداع الأدبي والفني إمكان المراوحة بينهما من مدخل (إن بعد الظن علم) فينشط العلماء و (إن بعض الظن فن) فينشط الأدب والفن (المسرح والسينما والتصوير والتشكيل) فما البال ومصر تعيش الحاضر التكفيري الذي ينبذ مجرد التفكر.  
لعبة الحروف في جدل المعني: أليس من الغريب تطابق حروف كلمتي تفكير وتكفير، مع اختلاف المعني وتنافره بينهما ..
مع أن مادة الكلمتين واحدة – خمسة حروف: إلا أن لعبة تقديم حرف وتأخير حرف في صياغة الحروف الخمسة نفسها، تعطي معنى نقيضا؛ بل إنك لو تلاعبت بالحروف فصدرت كل حرف منها في بداية تشكيل مجموع الحروف الخمسة لأنتجت نحو خمس عشرة كلمة، لا تجد لها معنى في كلام العرب إلا في كلمتين هما (تفكير، تكفير) ولو رجعنا لجذر كل منهما سنجد جذر تفكير هو (فكر) ومعناها المعجمي: دبر. أما جذر كلمة تكفير هو (كفر) ومعناها: (غطى، أنكر).
 أما الفرق بين دلالة المعنيين فكبير وعميق، فالتدبر بحث مستمر متوالد عن جديد يستبدل به القديم أو يطوع مستجدات الواقع المعيش، بحث في قيمة الموجود وسبب ثباته على حاله لعصور ممتدة، وماهية السلطة التي تستميت في الدفاع عن ثباته، لتفكيك مرتكزات جمودها وتحجرها مع تغير كل ما يحيط بنا من مستحدثات يعيد التطور العلمي والبحث المستمر تجديد ما ينفع حاضر الأمم ومستقبل حيواتها، إعمارا للأرض واستمرارا للحياة الإنسانية.
   والتدبر بهذه الكيفية بحثا عن جديد مغاير لمنهج حياة أفضل لعالمنا الفعلي، هو في ذاته إنكار لمظاهر ثبات الموجود، ثبات حياتنا على نمط واحد متكلس صدئ جامد لا حياة فيه.
 إذن فالتفكير بمعني التدبر والبحث عن جديد مغاير للقديم والموجود فيه إنكار للموجود إما من حيث جوهر وجوده، وإما من حيث مظهره، وإما من حيث طرق توظيفه لغاية مغايرة أو منحرفة عن جوهره. والتكفير بمعني رفض التدبر والبحث والتغير هو إنكار لمجرد التفكير في كيفية التفكير في تغيير الموجود. ومع اختلاف مصدري إنكار كل منهما للآخر، إلا أن أصحاب التفكير يتميزون إنسانيا وعقليا عن أصحاب التكفير، بقصر إنكارهم على الظاهرة، أو على المظهر – مظهر وجود الشئ أو مظهر التعامل معه بما يحط من كرامة الإنسان، أي على الفعل نفسه – بينما يمتد إنكار أصحاب الفكر التكفيري لوجود المفكر نفسه، أي نفيه عن الحياة!
   فإذا وقفنا على منبع عملية التفكير وعملية التكفير، نكتشف أن كليهما (التفكير والتكفير) ينبعان من المنبع الظني، وينتميان إلى المعرفة الظنية، غير أن المفكر لا يتوقف مكتفيا بمحصلة ظنونه وإنما يتجاوزها بترقية ظنونه حول المسألة أو الظاهرة أو المظهر الذي أوقفه مندهشا من كيفية وجوده ؛ بحثا عن سببية وجود تلك الظاهرة أو ذلك المظهر، على الكيفية التي رأي فيها غرابة أدهتشته ودفعته إلى التحري والتحقق وصولا إلى حقيقتها، بينما يتجمد ظن المكفر ويتكلس حول ظنه، أو يتوقف عند تفسير فقيه أو أكثر من فقيه عبر تلق سمعي تلقينا.
  ومع أن عملية التفسير منبعها التفكير، إلا أنه تفكير منغلق على نص ديني لا يستعين المفسر في فهمه له على جديد علوم عصره، ولا يعتد بمتغيرات وجوده الإنساني المتوالد المعارف، وبذلك ينكر مستحدثات العلم، وإن أدار حياته بمنجزات إنتاج الآخر العلماني للمعرفة ولوسائلها، مؤمنا بمقولة أحد المشايخ المعاصرين بأن “الله قد سخر الغرب لينتج لنا ما نحتاجه” مما أوقع أصحاب المعرفة الظنية في حالة إنفصام. بين إنكارهم لكل جديد مبتدع، مع الانتفاع بمنجزاته بإعتباره بدعة وضلالة صاحبها في النار يقينا – إنتهازية واضحة –
  وبما أن الفنون تأسست على المعرفة الظنية بالتخييل والإيهام، مشتبكا مع المعرفة العقلية، والعلمية اليقينية، فلن يقابل من أصحاب التيارات التكفيرية سوى الاستنكار والتكفير، الذي بدى فاشيا في الحياة الاجتماعية المصرية متسللا في جنح ليل الثمانينيات وما فتئ يميط لثامه ليظهر عكرة وجهه الظلامي عاما بعد عام لينشر جرثومة التخلف عبر النوافذ التي غضت الدولة عنها (زوايا أو جمعيات سلفية، وإخوانية تتخفي خلف عمل الخير، وتغول في المؤسسات التعليمية في مراحلها الأولية عن طريق آلاف المدارس في قري مصر، وتركت المنابر سداح مداح أمام وهاببيين مفوهين تكفيريين ينكرون على غير تابع لمسيرهم ليس حقه في الحياة
————————————————————————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي – المحور الفكري –  المحور الأول: ماذا قال؟ المسرح وتكفير الفكر العقلاني

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *