المسرح العربي في علاقته بالرّاهن

انتظمت في تونس، بين العاشر والسّادس عشر من شهر جانفي 2017، الدّورة السّابعة لمهرجان المسرح العربي، ببادرة من الهيئة العربيّة للمسرح وتحت إشراف وزارة الشّؤون الثّقافيّة. إشكاليّات عديدة أثارها هذا المهرجان. لا يتعلّق الأمر بجوهره الذي يمتاز بمسعى حميد وهو النزوع إلى النّهوض بالمسرح العربي و الإسهام في تنميته وتطويره، فكرا وإبداعا وتنظيرا وتوزيعا وإشعاعا. وهو ما حاولت الهيئة العربيّة للمسرح الرّاعية للمهرجان أن تحقّقه بدعم من حاكم الشّارقة الشّيخ  الدّكتورسلطان بن محمّد القاسمي. وهو كاتب مسرحيّ وعاشق للمسرح بل ومريد من مريديه.

لكنّ دورة تونس للمهرجان صادفت فترة في مسار التّجارب المسرحيّة العربيّة، تبدو شبيهة بفترات الأنوميــا في مســـار الحضارات.

إذا اعتبرنا أنّ المسرح أيضا قيم إلى جانب أنّه فنّ وتهويم ومخيال وحلم، يمكن القول إنّ هـذه القيم جرفــها تسونـامي الثّورات العربيّة. والمقصود هنا بالقيم ليـس الباطن الأخلاقي بل الباطن الفكري والجمالي.بدت التّجارب المسرحيّة العربيّة من خلال هذه الدّورة، في حيرة من خلفيّاتها ومرجعيّاتها الفكريّة والجماليّة وأيضا في مناهجها وخياراتها. ولا أستثني في ذلك المسرح التّونسي الذي تربّع على عرش التّجارب المسرحيّة العربيّة منذ ما يزيد على الثّلاثة عقود أي منذ بروز نسق الفرق المسرحيّة المحترفة الخاصّة.

وبالموازاة، فقد التّنظير والتّفكير حول المسرح العربي ذاكرته الرّاهنة واستدار بكراسيّه صوب الرّوّاد الأوائل في مقاربات إنشائيّة تتّخذ من المرجعيّات الغربيّة مفاصل مزروعة غالبا ما تلفظها تركيبات التّجارب المسرحيّة العربيّة. ويمكن تفسير ذلك بأنّ الباحثين والمنظّرين للمسرح العربي لا يحتكّون بالأركاح ولا يتابعون التّجارب المسرحيّة الرّاهنة وهم بالتّالي يغيبون عن لحظة المكاشفة الإبداعيّة وعن معاناة الإنتاج الذي بقي يتخبّط في منظومة العولمة وانسياباتها من مصطلحات ثقافة السّوق والتّأهيل الاحترافي ومقتضيات تســويق وتصدير المــوارد الإبداعيّة في الأسواق العالميّة.

انقلب الحلم على الحالم

حينما اندلعت التّغيّرات السّياسيّة في بلدان ما يسمّى بالرّبيع العربي، كان في بواطن التّجـــارب المسرحيّة حلـم بالانفجار. انفجـار المكبـوت السّياسي والفكري. وكان للتّنظير والبحث أيضا الحلم نفسه.

إلاّ أنّ ما طالعتنا به التّجارب المسرحيّة العربيّة منذ الأشهر الأولى من هذه المرحلة، لم يكن يشبه انفجارا لحلم وإنّما كان لفظا لجثث الشّعارات العائمة على شاطئ الأحداث. وإنّما كان بمثابة المناشير المكتوبة بلغة الانفلات في شوارع التّحرّر التّائهة: بيانات انتخابيّة لفنّ رشّح نفسه لزعامة جديدة ، ضدّ منافس هو شارع الاحتجاج والاعتصام وشارع»ارحل» وشارع المراودة السّياسيّة.

لذلك ضيّعت التّجارب المسرحيّة قيمها. قيم البحث والحفر في باطن الحدث وفي خفايا النّقلة السّياسيّة. وضاعت معها الجملة المسرحيّة المشحونة بشعريّة المسرح والتي تعيد للحدث حداثته وللمسرح حداثته.

المسرح يقوم على المغامرة. المغامرة المدروسة التي تنخرط في نسق المشروع المعلن عن نواياه وأهدافه وآليّات تنفيذه وإمكاناته.

وما نلاحظه اليوم من خلال أغلب الإنتاجات المسرحــيّة العربيّة هو مغــــامرات تائهة لا دليل لها، تجترّ واقعا قاتما بائسا، كعنوان لثوريّتها. وفي الأثناء، ها هيّ تضيّع علاقتها بالفعل المسرحيّ الذي يرفض التّصوير والاجترار ويتوق إلى تمثّل الحدث وإلى إعادة صياغته صياغة تستبطن فيها السّاحة العامّة كمبحث وكمجهر لا كركح بديل للرّكح المسرحي .يكون فيها المبدع شاعرا وليس بشاهد عيان.

وإذا كان لا بدّ له أن يشهد، فيكون شاهدا فكريّا وحضاريّا وحسّيّا.

هذا المـأزق الذي يتخبّط فيه المسرح العربي اليوم، كما بدا في هذا المهرجان، ولكن أيضا في ما سبقــه من مناسبات أخرى كأيّام قـرطاج المســـرحيّة في دوراتها الثّلاث الأخيرة، يدعـو إلى إعادة النّظر في علاقة المسرح بالمعاناة الإنسانيّة التــي هو معنيّ بها بالأساس، من جهة ومن جهـة أخـرى، بالسّلطة في أوجهها المتعدّدة: سلطـة المتفرّج وما تفترضه من مجموعة الأعراف والنّواميس وسلــطة النّقد وسلطة البحث والسّلطة السّيــاسيّة التي تتوسّل بالمال والدّين لتستبدل وظائف الرّقابة التّقليديّة التي وقعت إقالتها في خضمّ سـورة «ارحل».

وقد لاحظنا في الملتقى الفكري الذي انتظم في صلب مهرجان المسرح العربي والذي اختار التّفكير حول علاقة المسرح بالسّلطة، مسافة بمثابة الهوّة تفصل المدوّنة البحثيّة عن راهن التّجربة المسرحيّة. غربة هاجر فيها الباحثون باستثناء قلّة قليلة، إلى غياهب المسرح الإغريقي وإلى الرّموز المسرحيّة الغربيّة في اصطلاحـاتها التي لا تغني البحث ولا المسرح.

مأزق التّجارب المسرحيّة يتلذّذ بتقليعة الحفل والمهرجان و«العرس» المسرحيّ. وهي تقليعة أصبح لها وقع خاصّ ومحبّب لدى السّلطة السّياسيّة، تبثّ فيها إشارات وشعـارات تـدلّل على صحّتها بالحضور الجماهيريّ المكــثّف. وبذلك، تتغافل عن الحاجة الملحّة للتّجربة المسرحيّة: الحاجة لأطر فكريّة وتجهيزات تحتيّة تفعّل مفاهيم الاحتراف وتوفير فرص الالتقاء بالجمهور في فضاءات مهيّأة جديرة به وبالعرض المسرحيّ.

هذه الحلقة المفقودة هــي التي خلقت المفارقة في الدّورة التي اعتبرت دورة «وازنة» في مدلولاتها ومخرجاتها في حين أثارت الانتقاد من حيث نوعيّة العروض المنتقاة والمساهمات في الملتقى الفكري. وهي مؤاخذات تعود بالذّكر إلى كلّ تجربة مسرحيّة عربيّة وإلى الحوكمات الثّقافيّة المحلّيّة في البلدان العربيّة.

فوزية بلحاج المزّي

http://ar.leaders.com.tn/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *