المسرح الجزائري: تخبّطات في قبضة التقشّف

 
عبد الرزاق بوكبة – مجلة الفنون المسرحية 
 
حين غادر الاستعمار الفرنسي الجزائر في عام 1962، كان ثمة سبعة مسارح في سبع مدن شمالية. بنيت كلّها في أماكنَ كانت أسواقاً تحتضن الأشكال الشّعبية للمسرح، لتكون بديلاً لها بمعمارها وخطابها الغربيين. لقد كان حكواتي واحد، يومها، يصنع من الوعي الوطني والفنّي ما تعجز عنه مؤسّسة ثقافية حكومية اليوم، بترسانتها الضخمة من العمّال والأموال والوسائل.
 
تبنّت حكومة الاستقلال هذه المسارح الموجودة في الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة وسيدي بلعبّاس وباتنة وعنّابة وتيزي وزو، وأوكلت إدارتها لمسرحيين ملتزمين، مثل محمّد بودية، الذي اغتاله الموساد بسبب دفاعه عن الحقّ الفلسطيني عام 1973، وكاتب ياسين (1929 ـ 1989) الذي استحدث مدرسة خاصّة به، فكان المسرح واحداً من القنوات، التي استعملت في نشر خطاب البناء الوطني، بعد 132 سنة من الاحتلال الفرنسي.
 
أدّى الانفتاح الاقتصادي والسّياسي، الذي عرفته ثمانينيات القرن العشرين، إلى ظهور فرق وتعاونيات مسرحية حرّة، يديرها فنّانون انسحبوا من المسارح الحكومية، ولعبت دوراً حاسماً في تكريس خطاب مسرحي جديد يرتبط بالشّارع وينتقد السّلطة، كانت أهمّها وأكثرها تأثيراً تجربة عبد القادر علّولة (1939 ـ 1994)، وتجربة تعاونية “القلعة” عام 1990، بوجوهها البارزة مثل امحمد بن قطاف وشريف زياني عيّاد وسيد أحمد أقومي وصونيا مكيو.
 
راوح المسرح بين رغبة في الإبداع وطمع في المال العام
 
صار الانتساب للمسرح، في التسعينيات، طريقاً معبّداً للموت على يد الجماعات المسلّحة، التي اغتالت نخبة كبيرة من المسرحيين مثل عبد القادر علولة وعز الدين مجّوبي (1945 ـ 1995). إذ لم تخلُ العروض من وقفة ترحّم على روح راحل جديد. مع ذلك ناضلت نخبة من المسرحيين من أجل أن تبقى المسارح مفتوحة، تقدّم عروضاً قليلة، لكنها كانت تنتصر للحياة وتنبذ العنف وتبشّر بغد لا يموت فيه الإنسان غدراً.
 
مع منتصف العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، تزامن تعيين امحمّد بن قطّاف، أحد أبرز وجوه “مسرح القلعة”، مديراً لـ”المسرح الوطني الجزائري”، مع طفرة تاريخية في الدّعم المالي لميزانية المسارح الحكومية والتعاونيات الحرّة معاً، أملاها ارتفاع أسعار النّفط، فعرف المسرح الجزائري أزهى فتراته، نشاطاً وإنتاجاً وانفتاحاً على الوجوه الجديدة، في حقول الإخراج والسينوغرافيا والتمثيل والموسيقى والنصّ والتعبير الجسدي.
 
عشرات المواهب القديمة عادت من منفاها أو خرجت من عزلتها، في مقابل عشرات المواهب الجديدة، التي ظهرت لأوّل مرّة، ووجدت الظروف مهيّئة للتألّق وافتكاك الجوائز والألقاب، إذ بات سائداً أن المسرحي الجزائري لا يجد وقتاً للبقاء مع أسرته أكثر من أسبوع، فهو إمّا يتدرّب على عرض جديد أو يشارك في تقديم عرض جاهز أو يتكوّن في ورشة أو يحضر مهرجاناً في الدّاخل أو الخارج.
 
بين الرّغبة في الإبداع والطمع في المال العام، نشأت عشرات الجمعيات والفرق والتعاونيات المسرحية المستقلّة. إذ كان الحصول على الدعم من وزارة الثقافة مفتوحاً على مصراعيه، خاصّة خلال التظاهرات الثقافية الكبرى، مثل “الجزائر عاصمة الثقافة العربية” عام 2007، و”المهرجان الثقافي الأفريقي” عام 2008، و”تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية” عام 2011، و”قسنطينة عاصمة الثقافة الإسلامية” عام 2015. إذ انتقل الممارس للمسرح في الجزائر من مرحلة كان “يأكل الخبز” فيها لقلة ما يدرّه عليه المسرح من مال، إلى مرحلة بات يستطيع فيها أن يتزوّج ويؤجّر بيتاً ويشتري سيّارة.
 
أدّى غياب استراتيجية واعية بالرهانات الفنية إلى أن يصبح الهاجس المالي، في هذه المرحلة، مهيمناً فوق ما تسمح به هذه الرّهانات. فوقعت المنظومة المسرحية الجزائرية في ما وقعت فيه المنظومة السّياسية نفسها من تبذير وفساد وزهد في بعث مشاريع ثقافية استثمارية مستدامة.
 
ففي الوقت الذي بلغت فيه تكلفة إنتاج مسرحي واحد 200 ألف دولار أميركي، علماً أنه لم يكن يعرض أكثر من 30 مرّةً، وكانت ميزانية المهرجان المسرحي الواحد لا تقلّ عن مليون دولار، كان المشهد المسرحي يفتقر إلى مجلّة مسرحية محترفة، وإلى عروض مسرحية دائمة، وإلى معاهد معاصرة، إذ يعود تاريخ تأسيس المعهد الوحيد إلى عام 1964.
 
من هنا، كان تأثير سقوط أسعار النفط في الهاوية، منذ مطلع عام 2016، مباشراً على الواقع المالي للمشهد المسرحي الجزائري، إذ كان الحقلَ الفنّي الأوّلَ الذي مسّته سياسة التقشّف التي اعتمدها وزير الثقافة الحالي عزّ الدّين ميهوبي. وهو الوضع الذي أدّى إلى احتجاج نخبة من المسرحيين.
 
يتساءل الممثل والمخرج ربيع قشّي: “ما معنى أن يبقى الدّعم المخصّص للسينما ساري المفعول، بل إن هناك تفكيراً في بعث مهرجانات جديدة، بالموازاة مع تقليم الدّعم المخصّص للمسرح؟”. يضيف صاحب “القرص الأصفر” المسرحية التي تجرّأت على توظيف الكرسي المتحرّك فوق الخشبة، في إشارة إلى الوضع الصّحي للرّئيس عبد العزيز بوتفليقة: “أرى أن هناك انتقاماً حكومياً من المسرح الجزائري على الجرأة التي مارسها في السنوات السابقة”.
 
من جهته، يقول الممثل والكاتب المسرحي فتحي كافي لـ”العربي الجديد” إنّ تقشّف الحكومة في المجال المسرحي غير مدروس، مثلما لم يكن ما سماه “الكرم المالي” غير مدروس من قبل: “وإن السّياسات غير المدروسة في الحقل الثقافي المرتبط بصناعة الوعي والذوق عادة ما تُثمر الفراغ”. يشرح فكرته: “يفترض أن التقشف يعني مراجعة السّياسات والبرامج، في محاولة للتقليل من الميزانية مع الإبقاء على الوتيرة الفنية نفسها، لا التقليل من المال والنشاط معاً”.
 
في كلام فتحي كافي إشارة إلى مظاهر غير منطقية لسياسة التقشّف المعتمدة في الحقل المسرحي، يجملها الممثل بوتشيش بوحجر بالقول “في إلغاء مهرجانات تاريخية أو تذبذب موعد تنظيمها، وتخلّي ما بقي قائماً منها عن تقاليدَ مهمّةٍ، مثل الورش التكوينية والملتقيات العلمية والنشريات الإعلامية واستقدام فرق ووجوه مسرحية أجنبية”.
كان المسرح الحقل الفنّي الأوّلَ الذي مسته سياسة التقشّف
 
ويضيف: “لقد وصل الأمر ببعض المسيّرين للشأن المسرحي إلى أن يعتمدوا نصوصاً على حساب أخرى فقط لأنها تتطلّب ممثلين أقلّ، وأن يفرضوا على السينوغرافيين التقليل من المواد التي يرون أنها تكلّفهم مادياً. أنا أرفض التقشّف على حساب المقتضيات الفنية”.
 
 هذا الهاجس إلى الممثل والمخرج سفيان عطية، الذي عيّن قبل أشهر مديراً لمسرح مدينة العلمة، فقال إن الوضع حسّاس، ويقتضي من المسرحيين التحلّي بروح المسؤولية: “ليس بمعنى تبرير السياسة المعتمدة، بل من زاوية البحث عن مصادر مرافقة للدعم الحكومي”. يتابع: “إن الاقتصاد الجزائري يعرف، منذ ثلاثة عقود، انتعاشاً للمؤسّسات الخاصّة، وعلينا خلق هوامش من التعاون معها، للحصول على رعايتها بعض جوانب إنتاجنا المسرحي”. يختم بالقول: “يجب أن يدخل الإنتاج المسرحي ضمن الدورة الاقتصادية للبلاد”.
 
ويملك الممثّل والمخرج بلّة بومدين من مدينة تندوف، 1460 كيلومتراً إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، نظرة مختلفة تماماً، تقوم على التفاؤل بالوضع، لأنه، بحسبه، سيقوم بتصفية الحقيقي من المزيّف. يقول: “في ظلّ انسحاب المال من الفن لن يبقى إلا الفنان الحامل للمشروع الجمالي والحضاري، ونحن بحاجة إلى هذه التصفية، إذ ما جدوى الدّعم لساحة مغشوشة وغير مصفّاة؟”.
 
يواصل بلّة بومدين طرح الأسئلة: “كان عبد القادر علّولة ينتج مسرحية بدينارين، فتبقى راسخة في الوجدان والأذهان، فكم مسرحية فعلت ذلك، ما المسرحيات التي حصلت على دعم مالي ضخم في الفترة الأخيرة؟ لماذا لا نعتمد على أنفسنا، مستغلّين أكثر من معطى في صالحنا، لنخلق مسرحاً خاصّاً يكون موازياً للمسرح الحكومي؟ أليس من التناقض أن نقول إننا فنانون أحرار، وننتظر الدّعم من الحكومة في الوقت نفسه؟”.
 
في هذا السّياق، بادرت نخبة من الشباب المسرحيين في مدينة معسكر، 400 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة، إلى بعث مسرح خاصّ سموه “القمر الخامس”. يقول الممثل محمد بن يحي لـ”العربي الجديد” إنهم أثّثوه بإمكاناتهم الخاصّة:”أحياناً نفرّط في وجبات الغداء والعشاء، وفي شحن خطوطنا الهاتفية بأرصدة جديدة، وفي شراء أحذية وسراويل لنا، لنتمكّن من شراء غرض يقتضيه تأثيث مسرحنا”. يختم بجملة دالّة: “من كان يحبّ المال فإن التقشّف قد هيمن، ومن كان يحبّ المسرح فإن المسرح يحيا في القلوب لا في الجيوب”.
 
أمّا المخرج والسينوغرافي أحمد رزّاق والممثّل شاكر بولمدايس، فقد بادرا إلى إطلاق مشروع مسرحي في أحد شواطئ مدينة عنابة، 600 كيلومتر شرقاً، في إشارة منهما إلى التحرّر من المسارح الحكومية، وقاما بقراءة النصّ على نخبة من الصيّادين، في إشارة إلى التحرّر من لجانها المكلّفة بالموافقة على النصوص. فهل هي بداية جديدة للمسرح الجزائري، بمنطق “ربّ ضارّة نافعة؟”.

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *