المرأة في مسرح آرابال بين القسوة واستعذاب الألم

الكاتب الأسباني الأصل فرنسي الجنسية أحد الكتاب المتميزين الذين أثبتوا جدارتهم الفنية بما تميز به من فهم عميق لطبيعة النفس البشرية.
الفن الجميل يد حانية تربت على كتفك، وتزرع مساحة من الدفء في القلوب المقرورة، تصحبك إلى عالم من المتعة والخيال لا تحده حدود. طائر يضمنا بين جناحيه ويرتفع بنا إلى أعلى سموات الإبداع، لنعانق الأقمار ونلثم النجوم، وكما أننا لا نسأل ماء النبع بأية لغة يترقرق، ولا نسأل النسيم بأي لسان يغازل وجناتنا، فإن الفن الجيد لا تعوقه حواجز الثقافة أو مفردات اللغة وإنما يجتاز كل العقبات ليستقر في القلوب ويصبح ملكاً للإنسانية لا وطن له إلا القلوب المتعطشة لكل ما هو جميل ومبتكر.
 
ويعد الكاتب الأسباني الأصل فرنسي الجنسية فرناندو آرابال، رغم الجدل الكبير الذي دار حوله، أحد الكتاب المتميزين الذين أثبتوا جدارتهم الفنية بما تميز به من فهم عميق لطبيعة النفس البشرية، وخاصة المرأة التي تمكن من الغوص في أعماقها مصوراً انفعالاتها وأحاسيسها، اضطراباتها، وصراعاتها.
 
وتسعى هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على نموذجين مختلفين للمرأة في مسرح آرابال، أولهما: مازوكي يستعذب آلامه ويلتذ بها، وثانيهما: سادي يتلذذ بإيلام الآخرين، وذلك من خلال عملين مسرحيين له، كتبهما في مرحلتين مختلفتين من مراحل حياته الفنية هما:
 
أولاً: مسرحية (الشباب الممجد)
 
كتب آرابال هذه المسرحية في المرحلة الثائرة من مسرح الفزع، وتقوم على أربع شخصيات هي: (فتى، فتاة، رجل، امرأة عجوز)، وأول ما يلفت النظر في هذه الشخصيات شدة التجريد فيهان فالمسرحية لا تقدم أشخاصاً بقاماتهم الصحيحة، ولكنها تقدم نماذجاً من البشر، في إشارة واضحة إلى إمكانية حدوث هذه الأحداث في أي وقت وفي أي مكان.
 
وتبدأ المسرحية بوجود الرجل على خشبة المسرح وهو يقرأ كتاباً عنوانه (نسبية الزمن) ولهذا العنوان دلالته التي ستظهر لاحقاً.
 
ثم يختفي الرجل، ويظهر الفتى والفتاة ويبدآن في تبادل الأشواق في رقة وعذوبة.
 
الفتى: أنت جميلة، جميلة حقاً، وأنا أحبك.
 
الفتاة: تحبني ؟
 
الفتى: يفر من فمك ما لا يحصى من الفواكه الناضجة وترقص حواليك الفالس ولكن هذه العذوبة لا تدوم طويلاً إذ سرعان ما يتحول الفتى فجأة إلى وحش سادي يمارس كل صنوف القسوة مع محبوبته الحانية.
 
الفتى: (بصوت وحشي غير متوقع) سوف أربطك إلى الشجرة.
 
وهذه الرغبة العارمة في القسوة تقابلها الفتاة باستسلام غريب دون أدنى تفكير في المقاومة.
 
الفتاة: تضع نفسها فوق جذع الشجيرة، ثم يأخذ في ربطها وهي تبكي.
 
لكن هذا البكاء لا يزيده إلا إصراراً على موقفه، فيمضي قدماً في قسوته وشراسته مهدداً إياها بعذاب أشد.
 
الفتى: إنك لا تعرفين معنى الألم الحقيقي، لو تريدين لجعلتك تتألمين حقاً.
 
ونظراً لأنها تستعذب الألم وتريد مزيداً منه، فإنها تدله على الوسيلة الأكثر إيلاماً فتقول له:
 
الفتاة: أنت طيب، وفوق كل شيء لن تدعك أقدامي بنبات النار.
 
الفتى: ماذا قلت ؟
 
الفتاة: إنك لن تدعك أقدامي بنبات النار، عاهدني على ذلك.
 
ويذهب الفتى ليبحث عن نبات النار فلا يجده، لكن الفتاة تدله على مكانه.
 
الفتاة: ألم تجد نبات النار؟
 
الفتى: قولي لي أين يوجد ؟
 
الفتاة: هناك خلف جبل الأعشاب.
 
ولا تقف عند مجرد إخباره بمكانه وإنما تدله على أكثر الأماكن إيلاماً في جسدها بعد أن ينجح في العثور على النبات.
 
الفتاة: أتوسل إليك لا تدعك رسغي فإنه المكان الأكثر حساسية.
 
الفتى: يدعك رسغيها بينما هي تبكي.
 
وهنا يعود الرجل إلى الظهور محاولاً الدفاع عن الفتاة لكن الفتى يقذفه بحجر فيسقط مغشياً عليه، وعند هذا الحد ينتهي دور الفتى والفتاة، ليحل محلهما الرجل والمرأة العجوز التي تأتي بنفس ملابس الفتاة وبنفس الألوان لتعيد الموقف ذاته من جديد ولكن بعد مرور ستين عاماً.
 
المرأة: هل يمكن أن تصنع لي معروفاً؟
 
الرجل: أجل يا سيدتي.
 
المرأة: اربطني إلى هذه الشجرة.
 
ولا تكتفي بهذا القدر من العذاب وإنما تطلب منه أن يدعك قدميها بنبات النار وتلح في طلبها هذا.
 
المرأة: أتوسل إليك أن تدعك قدمي العارية به.
 
الرجل: سيجعلك تتألمين.
 
المرأة: لا .. لا .. فقط أفعل، أتوسل إليك.
 
وهكذا كانت نسبية الزمن هي الحدث الأكبر أهمية في المسرحية، فمنذ البداية كان بين يدي الرجل كتاباً بهذا العنوان، وهو ما حدث فعلاً في المسرحية، فالفتاة بعد ما كانت تتوسل إلى الفتى ألا يؤلمها:
 
القيد يؤلمني جداً، هلا أرخيته قليلاً أتوسل إليك.
 
صارت تطلب من الرجل أن يفعل ذلك:
 
اربطني إلى هذه الشجرة.
 
والفتى بعد أن كان يستعذب آلامها:
 
لو تريدين لجعلتك تتألمين حقاً.
 
صار مشفقاً عليها:
 
سيؤلمك هذا.
 
والواضح أن الرجل والمرأة هما الفتى والفتاة، ولكن بعد مرور ستين عاماً، ولعل الرجل الذي يظهر على فترات متقطعة في المسرحية يكون رمزاً للعقل الذي افتقده الشاب في البداية وقهره، ولكنه عاد ليفرض نفسه عليه في النهاية، فعدل من سلوكه، بينما المرأة تحن إلى عهد الشباب ولحظات الحب بكل ما فيها من طيش وجنون وقسوة أحياناً، فتحاول استعادة الزمن الفائت فتكرر نفس الموقف ولكن هيهات أن ترجع عجلة الزمن إلى الخلف.
ولعل فكرة نسبية الزمن التي يلح عليها آرابال هنا تبين سبب تغير سلوك الفتى والفتاة، لأن ما يريد قوله أن ما نريده اليوم قد لا نريده غداً والعكس صحيح، ولعل أبرز ما أراد آرابال إظهاره هنا أن المرأة غالباً ما تظهر خلاف ما تبطن، ولا تعبر عن حقيقة مشاعرها إلا بعد أن يجري بها قطار العمر وتشعر بقرب محطتها الأخيرة.
 
ثانيا: مسرحية (الجلادان)
 
كتب آرابال هذه المسرحية في مرحلة اللامعقول، وإذا كان آرابال قد قدم لنا في مسرحية الشباب الممجد شخصية مازوكية للمرأة التي تستعذب آلامها، فقد قدم لنا شخصية سادية لها في هذه المسرحية حيث نرى قمة القسوة مع إظهار الضعف والرقة، فنجد امرأة تقضي على أسرتها، وتسلم زوجها للموت، وتشعل نار الحقد بين ولديها وكأنها تريد تدمير كل من حولها حتى وإن كانوا أقرب الناس إليها لشعورها بأنهم كانوا سبباً في تقييد حريتها وعدم منحها ما تستحقه قياساً بالنساء الأخريات.
 
وتقوم المسرحية على مجموعة من الأشخاص هم:
 
الجلادان: لا يسميهما المؤلف، لأن الجلاد واحد في كل مكان وزمان.
 
الأم (فرانسواز): تدعي الرحمة والحب والعدل والتسامح ويسكن في صدرها جلاد محترف.
 
الولدان (بينوا، موريس): الأول قوي بلا عقل تسيطر عليه الأم وتجعله يقهر أخاه ويبطش به، والثاني يشعر بمعاناة أبيه ولا يملك من أمره شيئاً، لأنه الأضعف.
 
الأب (جان): هو الضحية التي تتعذب دون ذنب اقترفه، فهو مثال للبطل المقهور والإنسان المهزوم في هذا العمل، يعاني من العذاب ولا يستطيع حتى الصراخ، لأن فمه كان مكمماً ولم ينطق بكلمة واحدة حتى فارق الحياة.
 
وتبدأ المسرحية بذهاب الأم إلى الجلادين وإبلاغهما عن زوجها، وهي تعلم أنها تقضي عليه بهذا الإبلاغ فتخونه وتوقع به مع إظهار الشفقة عليه، كالحية تزحف بنعومة ورقة حتى تلدغ لدغتها المميتة.
 
(تتحدث بمزيد من الدقة والهدوء).
 
نعم .. نعم .. نعم .. إنه مذنب.
 
وهو يعيش في المنزل رقم 8 بشارع ترافاي.
 
واسمه (جان) وليس (جون).
 
ونلاحظ هنا تأكيد على أنه مذنب، وذكرها لعنوان المنزل، ودقتها في تحديد الاسم حتى تتأكد من الإيقاع به، وبعد أن تنجح في مهمتها ويمسك به الجلادان ويعذبانه تذهب بولديها إلى غرفة التعذيب وتتظاهر بالحزن على فقد الزوج.
 
فرانسواز (تتحدث بصوت متهدج).
 
أي دقائق حزينة وعنيفة هذه التي نمر بها ؟.
 
ما هي الآثام التي ارتكبناها حتى تعاقبنا الحياة بمثل هذه القسوة ؟ وتحاول إيهام ولديها بمدى المعاناة التي عانتها في حياتها ومدى الظلم الذي واجهته، وكيف احتملته في سبيلهما فتقول:
 
أنظر أي حياة بهيجة تحياها النسوة اللاتي في مثل سني، يمتعن أنفسهم ليل نهار بالذهاب إلى المراقص والمقاهي ودور السينما، نساء كثيرات.
 
هذه هي الحياة التي ترجوها لنفسها والتي لم يحققها لها هذا الزوج المسكين فقررت التخلص منه حتى تعيش حياتها كما تحب، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، تذكر الولدين بمدى التضحية التي قامت بها، وما تضحيتها إلا أقل ما تقوم به أي أم عادية تجاه أولادها، ولكنها ترى في ذلك إيثاراً عظيماً منها، وحظاً أعظم لولديها بها.
 
إن كل ما أطلبه ألا تكونا جاحدين.
 
ألا تكونوا منكرين لتقدير تضحية أم كأمكما التي كنتما محظوظين بها.
 
ولأن سعادتها تكمن في تعذيب الآخرين، فإنها لا تتورع عن الإيقاع بين الأخوين موهمة الأقوى الذي تسيطر عليه أن الآخر يهينها ويضربها وتدفعه إلى إلحاق الأذى به لا لشيء إلا لكونه متعاطفاً مع أبيه، فتقول:
 
دعه وشأنه يا بينوا، دعه يهينني، أعرف تماماً أنه لو لم تكن موجوداً لضربني، ولكنه جبان، ويخاف منك، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يصده، لأنه لا يتورع عن أن يدفع يده في وجه أمه.
 
ونتيجة لهذا الكلام يحاول الأخ الأقوى ضرب أخيه، فترجوه الأم ألا يضربه أمامها، وكأنها تبيح له أن يضربه في أي وقت آخر.
 
الأم: بإمكانه أن يسلخني حية لو أراد، ولكني أرجوك يا ولدي لا تضربه في حضرتي، وحينما تتأكد من إشعال نار الحقد بين الأخوين، تلتفت إلى الزوج الذي كان ما يزال يعذب ويتألم، وكان عذابه مصدراً رئيساً في سعادتها، وقد وصف المؤلف استماعها لأنات زوجها بقوله:
 
تنصت الأم بتلذذ، تتسع عيناها، تتقلص قسمات وجهها على نحو هستيري (غالباً بابتسامة).
 
وحينما يكف الجلادان عن تعذيبه، تتولى هي جلده وتعذيبه ولكن بصورة أخرى، أنا التي أبلغت عنك يا جان، أنا من قال بأنك مذنب.
 
ولا تقف عند هذا القدر، ولا تترك الزوج وشأنه يواجه مصيره المحتوم وإنما تذكره بضعفه وعجزه فتقول له:
 
أنت الآن تحت سيطرة الجلادين، تقبل عقابك دون تمرد، إنه تطهير لك، وتكفير لآثامك، وعليك أن تعد أنك لن تعود إلى الخطأ ثانية، ولا تعذب نفسك بالتفكير في أنني أستمتع برؤيتك تعاقب.
 
وبعد أن تفرغ من تعذيبه نفسياً تشرع في تعذيبه جسمانياً، فتضع الخل والملح على جروحه لتمزقها وتزيد من عمقها متظاهرة بأنها تقوم بتطهيرها.
 
قليلاً من الملح والخل على الجروح سوف يصنع العجائب.
 
ثم يعود الجلادان لممارسة تعذيبه حتى يفارق الحياة، وبدلاً من الشعور بالذنب أو الاعتراف بالخطأ نراها تحمل القتيل نتيجة ما حدث.
 
موريس: كان بإمكاننا أن نحول دون موت أبي.
 
فرانسواز: كيف ؟ هل كان ذلك خطأي ؟ لا لقد كان أبوك هو المخطئ.
 
وهكذا تحول المجني عليه إلى مذنب نال عقابه الذي يستحقه، وانتهى الأمر، بل تحول في نهاية الأمر إلى مجرد ذكرى كئيبة لا داعي لتذكرها عند ابنه المدلل الذي خاطب أخاه الآخر قائلاً:
 
ذلك تاريخ ماضٍ لا تنظر إلى الخلف الذي يهم هو المستقبل سوف يكون من الغباء أن تتعلق بالماضي.
 
وهكذا حققت الأم هدفها وانتقمت من زوجها شر انتقام، ودفع الزوج المسكين ثمن حقد زوجته دون ذنب يذكر، في إشارة من الكاتب إلى أن الضحايا في كثير من الأحيان يلقون مصيراً مؤلماً دون ذنب يقترفونه، وإن كان ذنب الزوج الأكبر يكمن في تلك الزوجة التي لم يحسن اختيارها في البداية فهلك على يديها في النهاية.
 
ومن خلال العملين المسرحيين السابقين تظهر موهبة آرابال في النفوذ إلى أعماق النفس الإنسانية في حالاتها المختلفة وقدرته على اختيار اللغة المناسبة لكل شخصية ورسم ملامحها بمهارة فائقة، ورغم براعة آرابال التي لا تنكر، ورغم كثرة الكتابات التي كتبت عن المرأة، فإن المرأة ما زالت تمثل عالماً غامضاً يسعى الأدباء والفنانون إلى سبر أغواره والوصول إلى كنهه، والتعرف على حقيقته، وما زلنا في انتظار مزيد من الأعمال الفنية التي تهتم بالمرأة، وتعبر عنها تعبيراً صادقاً يهتم بها من الداخل ولا يقف عند مجرد وصفها من الخارج.

———————————————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – د. أحمد محمود المصري – ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *