المرآة.. ولحظة اكتشاف «من الأقوى» على مسرح الهناجر/هند سلامة

من الأقوى.. من الأفضل.. من الأكثر حكمة واستمتاعا بالحياة، من الأكثر عمقا وتصالحا مع الذات، هل من يلتزم الصمت ويتعفف عن الثرثرة وكثرة الكلام، أم من يتكلم كثيرا حتى تضعف حجته، تقول الحكمة «من يتكلم كثيرا يخطئ كثيرا»، والصمت صفة الحكماء، هكذا عالج المؤلف والكاتب المسرحى السويدى أوجست استراندبرج قضية «من الأقوى» بعمق وشاعرية، المسرحية كتبت فى فصل واحد،  وأراد بها المؤلف استعراض أزمة الخلل النفسى والشخصية المهزوزة فى مقابل الشخصية الثابتة الواثقة، التى تواجه الأمور بتجاهل ولامبالاة، كانت هذه المعالجة من خلال زوجة يقتلها الشك فى زوجها بأنه على علاقة أكيدة مع إمرأة أخرى، والتى تواجهها بالفعل فى النص الأصلى من خلال محادثة طويلة تقع بينهما ليلة الكريسماس بأحد المقاهى، لكن الغريب فى هذا النص أن السيدة أو الزوجة التى تتحدث طوال الوقت وتلقى بالاتهامات على عشيقة زوجها كما تظن، تتحدث دائما من طرف واحد، بمعنى أن بطلة المسرحية الثانية أوالعشيقة تظل طوال العرض صامتة ولا تنطق بكلمة واحدة بل تكتفى فقط بقراءة الجريدة، دون الاكتراث لحديث هذه السيدة التى تتركها فى نهاية الأمر مؤكدة أنها تعلمت منها كيف تحب زوجها.
تناول هذا النص المخرج المسرحى محمد حبيب فى عرض «لحظة» الذى قدم مؤخرا على خشبة مسرح الهناجر بطولة سارة سلام، شمس الشرقاوى، ومحمد حبيب، كثف المخرج النص فى نصف ساعة، واستعاض عن بعض الجمل والمشاهد الحوارية الطويلة بالتعبير الحركى الذى لم يكن موفقا مع بداية العرض بينما بدأ فى التصاعد تدريجيا فى منتصف العرض خاصة بمشهد الكراسى الذى جسد فيه الممثلون حالة الصراع الداخلى الشديد الذى تعانى منه هذه الزوجة بسبب جنون شكوكها، فى حين أن المؤلف لم يثبت خيانة زوجها، بل تعمد أن يجعل الأمر مبهما ومتوقعا للمتفرج من خلال تصاعد أحداث العرض، الذى قدمه حبيب بمعالجة تكاد تصل بقوة إلى عمق الفكرة التى أراد أن يعبر عنها المؤلف، فبدلا من النهاية الأساسية التى أشرنا إليها فى بداية المقال، انتهى باكتشاف الزوجة لنفسها شاردة للحظة أمام المرآة متخيلة كل الأحداث التى مرت بها من عذاب نفسى وشكوك كثيرة، ومن هذه النهاية يأتى التفسير الأدق والأعمق وكأن المؤلف أراد من هذه البطلة الصامتة طوال العرض أن تكون ما هى إلا مجرد مرآة تعكس اضطراب مشاعر الزوجة بما يعتريها من غيرة وحقد على من هى أكثر منها تصالحا مع الذات واستمتاعا بالحياة، ففى النهاية كانت العشيقة هى الأكثر ثابتا وقوة من موقف الزوجة المضطربة.
جمع العرض بين التعبير الحركى والأداء التمثيلى الذى وقع عبئه بشكل كبير على الممثلة شمس الشرقاوى التى أدت دورها بمهارة واحتراف، بينما اكتفت سارة سلام مع محمد حبيب بالتعبير الحركى فقط، واستعاض هنا المخرج عن فكرة جلوس السيدتين بالكافيه، والحوار الطويل بينهما، بحركة متنقلة على المسرح للعشيقة الصامتة التى اكتفت بالظهور والاختفاء فى مشاهد متفرقة وكأنها شبحا يطارد هذه الزوجة المنزعجة بالأفكار والظنون، فأحيانا يظهر ظلها بالمرآة، وكأنها ترى فيها ضعفها وعجزها عن تجاوز كل ظنونها، اتحدت كل هذه العناصر التى وضعها المخرج محمد حبيب فى نصف ساعة فقط، وصنعت رؤية مغايرة للنص الأصلى، وخرجت بعمل مسرحى جيد على مستوى الإعداد ومتكامل فى بنائه الدرامى، وإن كان زمن المسرحية قصيرا، إلا أنها عالجت رؤية المؤلف بعمق شديد، حيث ساعد هذا التكثيف سواء بالنص الأصلى أو بالعرض المسرحى فى تشريح تقلبات النفس البشرية بصورة أكثر دقة وبنظرة ثاقبة لرسالة العرض مباشرة، دون مط أو تطويل أو محاولة للتنظير على فكرة العرض الرئيسية، اتضح ذلك فى سرعة استعراض هواجس الزوجة والتى أدت إلى تعاستها فى النهاية بعكس السيدة الأخرى التى تعيش غير مكترثة لشىء سوى قضاء أوقات سعيدة دون الالتفات لأى اتهامات أو ظنون من حولها فلخص كل من المؤلف والمخرج فلسفة الشعور بالسعادة أوالتعاسة، من خلال نظرة هاتين المرأتين للحياة وأسلوب كلتيهما فى مواجهة المشاكل والمجتمع!

المصدر/ روز اليوسف

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *