الكاتب المعاصر مغامرا في النصوص القديمة وصائدا للضوء – عواد علي

 

لم يتوقف كتّاب المسرح والرواية وحتى الشعر، لا في الثقافة العربية ولا في الثقافات الأخرى، عن استلهام النصوص الأدبية القديمة وإعادة كتابتها أو كتابة أجزاء منها في أعمال تجدد أسئلة تلك الكتابة في عصورها المختلفة، أو تنحرف بها لتفجر في النصوص أسئلة جديدة تتصل بالعصر الحديث بقضاياه ومشكلاته المختلفة، وتجعل من تلك الأيقونات أقنعة لإنسان العصر الحديث وإلماعات ثقافية وإبداعية جديدة.

دأب الشاعر والباحث العراقي خزعل الماجدي على الغوص في التراث العراقي والإنساني، باحثا ومبدعا، في كتابه الجديد “جحيم شكسبير”، الصادر حديثا عن دار فضاءات في عمّان، مختارات مسرحية تضم “قطار الخامسة والعشرين” و”هامنت” و”موزاييك” و”مجنون ليليت” و”سجن الزعفران”، وتتضمن هذه النصوص قراءة إبداعية في تراجيديات شكسبير وإعادة إنتاج لها في نصوص مسرحية تتعاشق مع شكسبير، وتبتعد عنه بصياغات جديدة في البناء الدرامي والدلالي، ليجسد الجحيم المستعر في بلاده بين غروب الحرية، وتصاعد شهوة السلطة والمال التي سيطرت عليه، ولا تزال، وبين تساقط نيازك الحروب عليها، والتي أصبحت اليوم حرب العالم العربي كله.

تنتمي مسرحية “قطار الخامسة والعشرين” إلى مجموعة مسرحيات، وضع لها الماجدي عنوان “مسرح العذاب”، سلط فيها الضوء على الحزن العراقي المعاصر، وحاول تلمّس أطرافه الشاسعة وأوجهه المختلفة.

دأب الشاعر والباحث خزعل الماجدي على الغوص في التراث العراقي والإنساني، باحثا ومبدعا

في هذه المسرحية تضطر أسرة عراقية، مكوّنة من أب وأمّ وابنتهما، إلى العودة للعراق من أحد بلدان المنفى الأوروبية على أثر اختطاف ابنها الذي كان قد عاد إلى العراق للعمل بعد إسقاط النظام السابق. تصل الأسرة إلى محطة القطار حاملة حقائب سفر تحوي إحداها ملابس ابنها المخطوف، والتي وصلت إليها كدليل على اختطافه، ومطالبة الخاطفين بفدية كبيرة. تلتقي الأسرة في المحطة باثنين من المهاجرين العراقيين، رجل يبحث عن ولده المودع في السجن، ونادل الكافتيريا الذي لا هدف له في الحياة، ويجري التعارف بينهم، وتتداعى أشجان الجميع، ويحكي كلّ منهم لنفسه أو للآخرين معاناته، وهم ينتظرون في المحطة. وعندما تأتي القطارات يجدون أنها لا تتطابق مع تذاكرهم. وفي الساعة الخامسة والعشرين (خارج الزمن) يحاول الجميع الانتحار فيفشلون، ثم يأتي قطارٌ غريب لا يشبه القطارات، ويتوقف عندهم، فيركبون فيه، ويذهب بهم إلى جهة مجهولة.

وتنتمي مسرحيتا “هامنت” و”موزاييك” إلى مجموعة مسرحيات أطلق عليها الماجدي “مسرح العود”، وهي نصوص حاول من خلالها العودة إلى الماضي، واستلهام بعض السيَر والأساطير ومسرَحَتها من وجهة نظر خاصة به.

يركز الماجدي، في مونودراما “موزاييك”، على مجموعة من المتناقضات والمتضادات التي تعايشت معها الملكة الآشورية سميراميس، فهي تنحدرُ من أم إلهية مائية الطبيعة (حورية بحر نصفها بشري ونصفها الأسفل سمكيّ) بينما تترعرع هي بين الحمام، وتكتسب صفاتها وهي طبيعة هوائية. يذكرها الأصل المائي بألوهيتها، في حين يذكرها الوصف الهوائي بحريتها وملوكيتها. كذلك يكون أصلها البابلي الجميل والأنثوي مناقضا لظهورها في آشور كطموحة وملكة تستخدم القسوة والحيلة، ففي حرير بابل تتفتح مواهبها كأنثى أما في حديد آشور فتتصلب مواهبها كرجل. وهي في زواجها الأول من القائد الآشوري تكون عاشقة، أما في زواجها الثاني من ملك آشور فتكون مهووسة بالطموح والملك، لا تتمسك بالأول، وتقتل الثاني لتستولي على عرشه وتغتصبه كما اغتصبها. وفي الأخير تكشف لنا سميراميس أن ولدها، الذي أمّنت له عرشا ملكيا، يتآمر عليها ليستولي على العرش فتضحك من سخرية القدر، وتقرر العودة إلى أصلها مع جموع الحمام، فتطير وتنضم إليها.

ويلتقط الماجدي، في نص “هامنت”، شخصية مدفونة في سيرة شكسبير هي ابنه الصغير “هامنت” ليفضح حياة شكسبير المعذبة بسبب خيانة زوجته له؛ واجدا جذر سرّ إبداع شكسبير فيها، وملقيا ضوءا جديدا على مرجعية مسرحية “هاملت”، من خلال محاولة التطابق أو التوازي بين السيرة الحقيقية لشكسبير وبين ما جرى في مسرحية “هاملت”.

يظهر شبح “هامنت”، بعد موته بالطاعون الأسود وهو في عمر 11 سنة، على قبره ويودّ إخباره بالسرِّ الذي أراد أن يبوح به، ثم يخبره بصعوبة بأن أمه كانت تخونه مع ثلاثة، لكنه لا يفصح عن هويتهم.

مختارات مسرحية

وحين يدرك شكسبير أن الثلاثة هم إخوته (جلبرت وأدموند وريتشارد) يخرج ليواجه زوجته، فتعترف، بعد أن يكاد يقتلها، وتتحجج بأنه كان يتركها وحيدة منصرفا لأعماله المسرحية وشعره. لكنه يرد

عليها بأنها خانته مع ثلاثتهم وليس مع واحدٍ منهم

لأنها تعاني من الشذوذ الجنسي، وأن بإمكانه فضحها، لكنه يتركها لعذاب الضمير، ولوساخة جسدها.

ينفض شكسبير أوهام الحب والزواج والوظيفة والدين والوطن والتاريخ، ولا يبقى له سوى الإبداع خلاصا، ويشعر بأنه لا بد من أن يُعمّد من جديد بسبب ولادته الجديدة هذه، فيظهر له حفار القبور معمدانا، فيعمده ويحفر له قبرا لقادم الأيام. وفي أثناء التعميد يهطل المطر، فيظهر ولده “هامنت” في قوس القزح، وتتردد وصية حول تركه السرير الثاني لزوجته لتتذكر دائما ما حصل.

أما مسرحيتا “مجنون ليليت” و”سجن الزعفران”، فتنتميان إلى مجموعة مسرحيات عنونها الماجدي بـ”مسرح الإيروس” تناولت مختلف أوجه الحب الإيروسي، عاطفة وجسدا.

تحاول مسرحية “مجنون ليليت” إيجاد الجذر الأسطوري لحكاية “قيس وليلى” من جهة، وإلقاء الضوء على الهوس والتطرف العذري عند الأول والهوس والتطرف الحسّي عند الثانية من جهة أخرى، وترى في الحب المتوازن حالة مناسبة للإنسان، وإن شابته تطرفات متضادّة هنا أو هناك.

تقع ليلى، بعد تزويجها من ورد، فريسة المرض. وحين يلتقيها قيس تُبدي له عدم رضاها عن نفسها لأنها قبلت، مجبرة، بالزواج ودنّست جسدها، فيقنعها قيس بأنه لا بد من وصولهما إلى الحب المطلق الأبدي، لكنّ ليلى تقنعه بعدم جدوى ذلك، ولا بد من حب بسيط جميل واقعي وحسّي، فيرفض قيس عرضها هذا. وحين يأخذون ليلى إلى واد يقطنه السحرة والأطباء لمعالجتها وفكّ السحر عنها، يعمد هؤلاء على إخراج حبّ قيس من روحها، فينجحون بذلك. وهكذا ترفض ليلى حبّ قيس وزواجها من ورد معا، وتتحول إلى بائعة هوى. وعندما يلمحها قيس بهذه الحالة يتلو آخر قصيدة له، ثم يسقط ويموت.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *