القاهر مقهور.. والصياد فريسة فى «الغد» / محمد الروبي

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

«الحادثة» نص مسرحى كتبه لينين الرملى منذ سنوات عن رواية «جامع الفراشات» للكاتب الإنجليزى «جون فاولز» الذى نشرها عام 1964 وزادت شهرتها بعد أن حولها المخرج «وليام ويلر» إلى فيلم عام 1965. وقد نجح الفيلم نجاحًا مبهرًا فى أغلب أنحاء العالم مما ضاعف من شهرة الرواية التى ترجمت إلى عدة لغات منها العربية.

تدور أحداث الرواية، ومن ثم الفيلم، ومن بعدهما «الحادثة» حول شاب هام حبا بفتاة كان يراقبها دون علمها ويقرر اختطافها بعد تخديرها ويسجنها فى منزله المنعزل فى الصحراء، مدفوعا فى ذلك بإيمان مريض بأن الفتاة إذا تعرفت عليه وقضيا معا أياما ستبادله حبا بحب. وتتطور الأحداث ما بين رفض الفتاة فى البداية لمنطقه ثم استسلامها على أمل أن تقنعه بحبها فيطلق صراحها. لكن الأمور لا تسير كما تخطط له ولا كما خطط لها الشاب.

وعلى الرغم من أن لينين الرملى لم يذكر على نصه المطبوع أو المعروض أنه عن رواية «جامع الفراشات»، فإن جميع من قرأوا وشاهدوا العرض المسرحى فى نسخه المتعددة أجمعوا على مقدرة لينين الرملى على إعادة كتابة نص عالمى بروح مصرية وبخفة دم ليست غريبة عليه، فلينين كما تشير كل أعماله سواء المسرحية أو التليفزيونية أو السينمائية، هو بلا شك صائغ محترف للأفكار وكاتب بارع لحوار يتسم بالتكثيف وخفة الظل. ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة إن كانت «الحادثة» إبداعًا خالصًا أم اقتباسًا، فتلك قضية أكبر من هذه المساحة المتاحة. ما يهمنا هنا هو ذلك العرض الذى تصدى له المخرج الشاب عمرو حسان الذى- وللأسف- لم أشاهد له أعمالاً سابقة، لكن وعبر هذا العمل يمكننى الإقرار بأنه يمتلك من الموهبة والصنعة ما يجعله مخرجًا قادمًا وبقوة.

أهم ما كشف عنه عرض «الحادثة»، أن مخرجه صاحب رؤية وأنه باحث مجتهد فى تاريخ شخصيات النص الذى يتصدى له، لذلك ستجده يعود إلى الأصل- إلى «جامع الفراشات»- فى تفسيره لشخصية الشاب الخاطف، ليحيله من مجرد خاطف شرير إلى مريض نفسى، لا يثير فيك الشعور بالكره بقدر ما يثير فيك التعاطف مع إنكارك لما فعل وما يفعل. وهو الأمر الذى دفع بعمرو إلى تفسير شخصية الشاب كشخص يعانى من «انفصام» واستطاع ممثله «مصطفى منصور» أن يؤدى هذا الدور بمقدرة كاشفة عن وعى وواشية بكم المناقشات التى دارت بينه وبين المخرج، فهو فى لحظة يتحول من «شبه عادى» إلى «خجول متهته» إلى «قاس متمرد»، ولكل شخصية منهم أداؤها الخاص صوتًا وحركة. وهو الأداء الذى يستحق عنه الممثل تحية خاصة.

كذلك تمكنت «ياسمين سمير» من القبض على روح شخصية الفتاة التى ألقى بها القدر فى قلب حادث خاص وعليها أن تتعامل معه بحنكة تمتزج فيها الغواية بالمرح بالانهيار النفسى. وجاء مشهدها قبل الأخير، والذى كان يفترض أن يكون الأخير، ينبئ عن ممثلة قادمة هى الأخرى مع زميلها الشاب، وتستحق عن دورها تحية مماثلة.

يبدأ عرض «الحادثة» بشاشة تهبط من أعلى يعرض عليها فيلم سينمائى قصير عن فتاة (بطلة العرض) تسير وحدها فى الشارع يتبعها شخص (بطل العرض)، ينقذها من محاولات تحرش، ثم يخطفها بالطريقة نفسها التى تمت فى الفيلم الأمريكى.

بعدها تنسحب الشاشة ليظهر المنظر المسرحى الذى سنكتشف مع الفتاة أنه فيلا خاصة بالشاب ورثها عن أحد أقاربه الملقى فى مصحة عقلية يعالج من جنون لا شفاء منه.

فى تصميمه للمكان (الثابت طوال العرض) ينجح المصمم (محمد فتحى) فى منحه إحساس العزلة الممزوجة بالوحشة والقيد، فها هى خيوط بيضاء تتقاطع على خلفية سوداء، وكأنها القيود المكبلة للمخطوفة والخاطف فى آن واحد، كذلك سيصنع ميل الحوائط للأمام مع ارتفاعها إحساسا باقتراب الانهيار(مكاناً ونفوساً) وسيمنح المتلقى القريب إلى حد الالتصاق من مكان الحدث إحساسا مضاعفا بالضيق والقهر يماثل إحساس بطلى العرض.

فى العرض اعتمد عمرو حسان على تقنية المونتاج السينمائى، تلك التى تمثلت فى إظلامات متتالية تشير إلى مرور الوقت والقفز إلى حالة متقدمة فى الصراع بين الشاب والفتاة، والتى تصل إلى حد استقدام الشاب لفتاة ليل ليثير غيرة فتاته التى يتصورها متمنعة. ومع مرور الوقت تقع بالفعل الفتاة فى حب الشاب، لكنها تتحول بفعل الزمن والضغط من مقهور إلى قاهر، ومن ناشدة للحرية والخلاص إلى مستكينة للقفص الذى سجنت داخله بل وتراه هو الحرية.

وهنا لن ينسى عمرو حسان أن يستبدل صورة الشاب المتصدرة لعمق المسرح بصورة للفتاة، فى دلالة ذكية وغير مباشرة لكيف تحولت القاهرة إلى مقهورة.

وأمام هذا العرض المنضبط إيقاعا الكاشف عن قدرات مخرج شاب وممثلين قادمين لن يبقى إلا الهمس فى أذن الشاب عمرو حسان بما نعتبره وجهة نظر تحتمل الصحة والخطأ، وتتمثل فى ملاحظة تخص المشاهد الأخيرة للعرض والتى نراها زائدة عن الحاجة. فما أجمل أن ينتهى العرض بذلك المشهد البارع الذى صنعه بمهارة وبرعت فى تجسيده ممثلته فى لحظة انهيار تنادى على الشاب لينقذها من نفسها بل وتضع بنفسها الشريط اللاصق على فمها بينما الباب مفتوحا بعد أن نسيه الشاب وخرج مهرولاً للخارج يستنجد بطبيب لإنقاذ فتاته من آلام مفاجئة. هذا المشهد قال وبدلالات واضحة المعنى نفسه الذى حاول المخرج التأكيد عليه بمشاهد لاحقة. قال إن المقهورة تماهت مع قاهرها، وأن الفراشة استكانت لقفصها.

لكننا نؤكد مجددا أنها الملاحظة التى تدخل فى باب وجهة النظر. وللمخرج كل الحق أن يأخذ بها أو لا يأخذ حين يعيد العرض الذى نراه جديراً بالمشاهدة والتحية.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *