الفنانون الرواد والشباب.. المواقف والمشاعر – العراق

من الطبيعي والبديهي ان كل جيل فني يأتي امتدادا واستمرارا للجيل الذي سبقه، فالفنان الشاب مهما بلغت موهبته وامكانياته فإنه لابد وانه تابع اوتأثر او اعجب بأعمال الفنانين الرواد، وان اعمالهم قد نمّت البذرة الفنية المزروعة بداخله واستفزت مواهبه وحرضت همته واشعلت حماسه وساهمت بدفعه الى السعي من اجل الوصول الى ما وصل اليه السابقون او اكثـر.

لذا لا يمكن لاي فنان شاب ان ينكر او يتجاوز او يتجاهل اعمال ومكانة واهمية ما قدم في السابق ـ حتى وان بدت الاعمال السابقة دون المستوى المطلوب بقياسات المرحلة الحالية ـ والا سيبدو ذلك الشاب منقطعا، ضائعا، خاويا، بلا خزين يعتمد عليه ولا اساس يقف فوقه ولا مبدأ ينطلق منه.

وسابقا لم تكن الثقافة مجرد دراسات اكاديمية او قراءات عامة وتجميع معلومات بل كانتـ اضافة الى كل ذلك ـ تراكمات معرفية

وتجارب حياتية استثنائية وجهوداً ذاتية خلاقة ومواقف ايجابية بناءة، تسندها مبادئ انسانية يحملها المثقف ويتحلى بها ويدافع عنها.. فتنعكس في سلوكه وتعامله وتخاطبه مع الآخر.. وهذا ما يميزه عن عامة الناس. والفنان ـ كعنصر مثقف ـ  يتمتع بتلك الميزة المتفردة وهي اهتمام الناس واعجابهم حتى وان وقفوا موقف المتحفظ من مهنته! فالفنان هو ذلك المتمرد على ما هو سائد والذي كسر قيوده الاجتماعية وانتزع حريته واعلنها من خلال اعماله الفنية.. ولأنه حر ذو مبادئ سامية لذا اعتبر الفن رسالة اجتماعية وانسانية عاليه القيمة والاهمية..فلم يضع الاعتبارات المادية والشخصية هدفا رئيسيا مباشرا لاعماله.. بل كانت آخر ما يفكر به ويسعى اليه.. فكانت النتيجة تلك النهضة الفنية المتألقة والغنية بالانجازات الكبيرة والاسماء اللامعة التي اصبحت رموزا فنية وثقافية مهمة.. وكانت الفرق المسرحية الأهلية من اهم الأعمدة الفنية في العراق.. بنشاطها المتنوع واعمالها المتميزة وفنانيها المبدعين، وهي التي خرجت اجيالا من الفنانين، في مقدمتهم الرعيل الاول، الذين وضعوا اسس الحركة الفنية ـ الدرامية ـ في العراق.. بجهودهم ومثابرتهم وفكرهم التقدمي وشجاعتهم الادبية وفي ظروف تاريخية، كان ينظر فيها للفن كحالة غريبة غير مألوفة اجتماعيا.. وهؤلاء من يطلق عليهم مصطلح رواد.. وقد تميزوا بالوطنية والانسانية، وكرسوا جهودهم لخدمة الفن والمجتمع ووقفوا الى جانب شعبهم وعرضوا همومه ومشاكله وتصدوا للظواهر السلبية والفوارق الاجتماعية وتحدوا السلطات في كثير من المواقف والظروف، فتعرض ـ الكثير منهم ـ للملاحقة والاعتقال او الفصل الوظيفي او النفي او المنع من العمل الفني.. ولم يكونوا اتكاليين او متشكين او لامبالين، تجمعهم اهداف فنية سامية وتحفزهم منافسات ندية بناءة وتربطهم علاقات اجتماعية طيبة اساسها الاحترام المتبادل وهدفها التعاون المثمر. وهذا مالم يستطع الفنانون الشباب ـ في الوقت الحاضر ـ الاستمرار به والسير عليه والاقتداء بمبادئه.. ومن الملامح المهمة لزمن الرواد، ان الفنان ( ممثل ـ مخرج ) وحتى السبعينات، كان يعتمد في اعالة نفسه وعائلته، على عمله ـ الوظيفي ـ وليست للحكومة ( الدولة ) اية علاقة بنفقاته.. وحين جاءت الفرقة القومية للتمثيل  ـ وبهدف سحب البساط من تحت الفرق الاهلية ـ عمدت الى دفع رواتب شهرية للاعضاء سواء شاركوا بأعمال فنية او لم يشاركوا ـ وهي سابقة تفرد بها العراق ـ فانتمى اليها الكثيرون، طوعا او طمعا في الراتب، وهذا ما اضعف همة الفنان وقلل سعيه للعمل والابتكار والتجديد، فظهر جيل، جزء منه يتكئ على الالقاب والمناصب الوظيفية لا يبالي ان تطور الفن او تأخر.. وجزء آخر اقتنع بالراتب الذي تدفعه الدولة واستسلم للكسل والبحث عن شماعة يعلق عليها اسباب فشله او ضياع فرصته المنتظرة! وظلت الفرق الاهلية، وخاصة فرقة المسرح الفني الحديث، تعمل وتستقطب الشباب الواعي الباحث عن الفن الحقيقي.. ولأن الفرقة كانت ذات توجه يساري ـ ومصنفة من السلطة كمعارضة ـ لذا كانت حذرة في التعامل او التعاون مع الاشخاص ـ الفنانين ـ المحسوبين على السلطة، اضافة الى ان معايير اختيار الفنانين الشباب في الفرقة تخضع لحسابات دقيقة، في الموهبة والالتزام والمستوى الثقافي والوعي الوطني والتفاني في العمل والرفاقية في التعامل، والعمل فيها شبه طوعي، لا ينتمي اليها من يفكر بالفن كوظيفة او وسيلة للدعاية والشهرة فقط. فكان موقف بعض الشباب القادمين من خارج الفرق الاهلية ينم عن سوء فهم او قلة معرفة بالحقائق.. فأغلب الشباب الذين لم يجدوا فرصة في تلك الفرقة ـ لظروف واسباب مختلفة ـ وقفوا من الفرقة وروادها موقفا غير ودي وغير موضوعي، فالشاب يبني موقفه ورأيه ومشاعره تجاه الفنان الرائد على موقف شخصي، لا يخلو من مصلحة فردية ضيقة، فإن منحه ذلك الرائد فرصة عمل ـ او امتدحه ـ سيكون معجبا به ومعترفا بوجوده.. والا فإنه سيحمل له الضغينة ويعمد الى التقليل من شأنه والاساءة لشخصه ودوره، واحيانا يلقي عليه كل اسباب وتبعات تعثر مسيرته في الفن!.. رغم ان الكثير من الفنانين الرواد والاوائل ظلوا يشاركون جيل الشباب في اعمالهم ونشاطهم كالفنان يوسف العاني وحضوره في مسرحية ( دور وتصفيق ) مع فرقة المستحيل للشباب والفنان سامي عبد الحميد وتجربته مع المخرج كريم خنجر في مسرحية ( غربة ).. وآخرين غيرهم. والفنانون الرواد يذكرون الشباب، دوما، بالاعتزاز والاهتمام والنقد البناء الهادف.. يقابله برود في التعامل ولامبالاة في المواقف من قبل الشباب.. ومشاعر الضيق والتذمر والشكوى، من حضور الفنان الرائد بينهم، يعكس حالة عصية على الفهم والتفسير.. فهل هي غيرة فنية من تاريخ هؤلاء الرواد وشعبيتهم؟ ام منافسة غير بناءة تنم عن فراغ فكري وثقافي وعدم فهم للعلاقات الفنية ومبادئها؟ ام يأس واحباط سببه قلة العمل والفرص والتهميش الذي يشعر به الفنان الشاب ما جعله يصب لومه وغضبه على غيره من الفنانين؟ حتى صار البعض يطالب بحقوق وامتيازات دون ان يفعل شيئا، او يستلم راتبه من الدولة ويلعنها! علما ان الفنانين الرواد لم يفعلوا ذلك طوال حياتهم العملية بل اعتمدوا على جهودهم الذاتية في تحقيق اهدافهم، سواء في الفن او في إعالة أنفسهم!  

فيما مضى لم يخل الوسط الفني من السلبيات والتنافس غير البناء.. لكن الحالة الايجابية كانت هي السائدة والسلبية استثناء ـ ينكشف صاحبها وينعزل ـ اما في الوقت الحالي فإن السلبية هي السائدة والعنصر الايجابي مهمش وضائع بين صراعات المتنافسين والمتهافتين على الادوار والمناصب والامتيازات. 

ولا يغيب عن البال انه في كل زمان ومكان يحتاج الشباب الى خبرة الكبار وخزينهم المعرفي والحياتي، ويحتاج الكبار لحماسة الشباب وافكارهم المتجددة.. وبدون تعاضد الطرفين تصبح المعادلة غير مكتملة وتبقى الاجواء غير نقية، خصوصا ان الحركة الفنية ـ الدرامية ـ في العراق متعثرة، حاليا، وبحاجة الى تضافر كل الجهود والطاقات للوصول بها الى المستوى المطلوب، انتاجيا وفنيا وفكريا.

——————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية -حميدة العربي – المدى

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *