العلامة والتلقي في عرض مسرحية “ستربتيز” – العراق

اتخذ الفن المسرحي ضمن التحولات التي مر بها في القرن الماضي منحىً مختلفاً في غاياته وأسلوب تقديمه ، فلم يعد فن النبلاء وهو يرسم حياة الملوك والأمراء بصورة تعكس الواقع الفني المعاش ، وتغيرت الذائقية الجمالية للمتلقي بتغير التطور الفكري والفلسفي والعلمي للمجتمع.

بذلك تغيرت منطقة التلقي ، من إثارة العاطفة الى الحدس الذهني ، بمعنى من المتعة المجردة الى المتعة الغائية ، التي تحمل علامات ودلالة الى التغيير ، لتستفز ذهنية  متلقي القرن الجديد ، بغية تغيير واقعه الذي سادهُ العنف والتشويه ، فالخطاب المسرحي لم يعد حيلة او خدعة تثير المتعة ، بل أداة جمالية تهدف الى تغيير ذائقية المتلقي وواقعه .

(ستربتيز) عرض مسرحي من اخراج علاء قحطان قدم على خشبة المسرح الوطني في 26 تموز ، ومن العنوان المتصل بهدف العرض، بأن التغيير الحاصل في العراق منذ 2003 ولحد الان هو عبارة عن قضيب ( بوري) وكلمة بوري ارتبطت بالذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي بعملية الغش والخديعة والنصب والاحتيال ، ففي المخيال العراقي عند تعرضك للنصب والاحتيال ما عليك سوى ان تقول : ( انضربت بوري )لا بل زاد العرض المسرحي للمخرج ( علاء قحطان ) بنوع البوري ، فهو ليس عادياً، انه (قضيب ستربتيز) أي قضيب رقص فتيات العري ، بمعنى ان المجتمع العراقي تعرض لخديعة وتراقصوا على خداعه ، ولم يكن العهد العراقي الجديد بشكله الحالي سوى قضيب من الخدعة والاحتيال تلقاه المجتمع العراقي . وبدا هذا واضحاً من نزول القضبان وسَبَقها مشهد سقوط العهد الدكتاتوري البائد والمتمثل على لسان شخصية الأب : (أحمد شرجي ) ( طار …. راح ) وظهور لوحة النهب والسرقة في أعلى المسرح إلا من ممثل واحد كان يتطهر بالماء لإعطاء دلالة بعدم مشاركة الأبناء جميعهم في لوحة السرقة.

يكشف خطاب العرض منذ اللوحة الأولى عن هويته واتجاهه باعتماده فضاءات غير مشروطة ، وحاول امتلاك رؤية جديدة تغادر المعنى السائد وتلامس التطور الحاصل في الفنون الأدائية والمرئية ، وهذا ما لم يدركه بعض المشاهدين ، وبدا العرض لهم غامضاً ، فلكل منتج فني يمتلك انتماءً وهوية خاصة به ، وآليات التقديم تختلف من عرض الى آخر، ومن هذا المنطلق اختلفت الاتجاهات المسرحية الى عشرات الاتجاهات والتيارات والمذاهب والمدارس المسرحية ،وبعيدا عن الاتجاهات ، فهناك خطاب مسرحي يعتمد على سحر الكلمة وشاعريتها والأبعاد الفكرية التي تنتجها ، مثل عرض مسرحية (يارب) للمخرج مصطفى الركابي ، وهناك خطاب يغادر الكلمة ويعتمد المنتج الصوري مثل عرض ( السجادة الحمراء ) للمخرج جبار جودي وهناك خطاب مسرحي يرتكز على حوارات مقتضبة بلا متن حكائي ، معززاً الفكرة بتوالد الصور الجمالية ، مثل عرض (ستربتيز)، ولغة العصر الآن تميل الى سحر الصورة ورمزيتها ، وهذا يستدعي من المتلقي ذهناً تأويلياً ، وممارسة تبادلية فاعلة مشتركة بينه وبين الإنتاج الصوري للعرض ، فالعرض المسرحي اليوم ليس انعكاساً سطحياً للحياة ، ولا تنحصر مهمته في استنساخ الواقع واهمال المعادل الذهني وكل فكر تجريدي للصورة الفنية .. فالصورة غير العادية تفرض وسائل قراءة غير عادية ، ان المسرح عملية إبداعية تواصلية متطورة بتطور أدوات المجتمع ،ولايمكن ان يبقى المسرح العراقي يجتر الأطر الفنية لمسرحية (البستوكة) و( الدبخانه ) لكي يحافظ على مساحة المتلقي ، اذا رغب المتلقي ان يدور في فلك الفلسفة الوضعية التي تحصر مهمات الفن في استنساخ الواقع واعتماد الوضوح المباشر السمج المفرغ من المعنى ، كما في المسرح التجاري ، او المسرح الطبيعي سيبقى لا يفهم العروض المعاصرة … في عرض ( السجادة الحمراء) غيب الحوار ، بل حتى التسلسل المنطقي للصورة واعتمد على رمزية الصورة المنتجة ، فالصورة تتحدث بأبلغ لغة مؤثرة وبأدق حاسة … في لوحة المهرجين والشموع (احدهم يضيء النور والآخر يطفئ النور)حملت دلالات كونية أزلية منذ هابيل وقابيل وباستفزاز جمالي معاصر ، في الوقت الذي سمعت تعليقاً من احد المشاهدين المثقفين ( والله ما افتهمت شي اثنين يلعبون بالشموع) … يقول (بودلير) : ان المألوف في الصورة أفقد الفن هدفه . أما ( ادغار الن بو ) يؤكد ان مصدر الجمال ذهني ويكمن في المجرد والغامض … بمعنى آخرعلى المتلقي المسرحي ان ينهض بمجساته الفكرية والحسية لرؤية تغير مفاهيم الجمال ، وما كان قبيحاً قبل حقبة من الزمن أصبح الآن معياراً جمالياً والشواهد كثيرة .

انطلق عرض (ستربتز) بمنظومة حركية تعتمد دوالي رمزية متعددة القراءات مستندا على العلامات الجيلية ، التي حاولت ان تتحرر من التموضع والإسفاف ، واعتمدت آلية التدفق السائد للفعل المرئي بغية تحريك المناطق الساكنة في فضاء العرض ، إلا انها اعتازت التنظيم في دخول وخروج الممثلين من الكواليس ، إذ بدت للمتلقي فوضوية الاتجاهات من خلال كثرة الهدم والبناء ، مما راود المتلقي بأن رسم الحركة جاء من المخيال الفرعي للمنظومة الإخراجية ، وهنا تكمن فائدة هضم الأطر الأكاديمية المقروءة والمرئية منها ، يقول ( كروتوفسكي) : “نحن لا ننطلق من فراغ ولسنا بنية مبتكرة ، وانما بنية تسعى الى تشذيب العناصر التي أزاحت أداء الممثل” ، كما اعتمدت آلية الإخراج على ابتكار العلامات الجيلية ،وبالرجوع الى (رولان بارت) ووفقا للاختزال البارتي للعلامات ، إذ تنقسم العلامة المرئية الى علامات ترحيلية وعلامات جيلية … والجيلية هي العلامة المنشأة التي تحمل خصوصية الجيل والتي تشكل هوية الجيل الجديد … اما العلامات الترحيلية ،فهي العلامة المُرحَلة من جيل الى جيل ، وهذه العلامات تحمل شفرات متنوعة : شفرة معنية ، شفرة تأويلية ، شفرة رمزية ، شفرة تضمينية ، وشفرة مرجعية … واغلب قراءات المتلقي العراقي تخضع للشفرة المعنية ، مع ترسب الشفرات الأخرى في ذهنه ، وهذا ما ذهب اليه (بيتر غاتريف) إذ لاحظ قدرة حامل العلامة الى ما وراء الدلالة الحقيقية . وفي منحى تطبيقي في عرض (ستربتيز) ، في حركة قفزات (هند نزار) في أحضان الممثل السلطوي ( ياسر قاسم) تارة ، وتارة في أحضان الممثلين ، كشفرة تبث شذوذ الفتاة وارتماءها تارة في أحضان المنقذ ، وتارة في أحضان الكل ، وتارة في أحضان الأقوى ( السلطة) ، وكدلالة تتكرر بصور متعددة مرة فتاة لعوب ، ومرة البحث عن خلاص ، ومرة شغفاً بالانقلاب وغيرها … بينما وجدها بعض المشاهدين حركات زائدة لا معنى لها ، وحتى في قراءة حديثة لـ( الشكلانيين الروس) وأعني بـ(مدرسة تارتو) ، وبالتحديد (يوري لوتمان) ، وجد بان اشتغال العلامة السيميوطيقية الثقافية تمتلك موضوعات تواصلية ضمن أنساق دلالية ، يحدها المعادل الذهني المتمثل بالسلوك الاجتماعي والسلوك الثقافي والسلوك الديني ، فظهور الممثلة ( هند نزار ) بزي مختلف ضمن الرؤية الاخراجية لتكسب دلالة الرياء والانفلات ضمن مرجعية البيئة المجتمعية للشخصية او الدور ، الا ان ضمن المعادل الذهني لأنساق السلوك الثقافي والديني بدت العلامة عند بعض من المتلقين بأنها (عري )، فالعلامة تكشف ان كل ما هو خارج انساق السلوك يمثل فوضى ، بينما حركة افتتاحية العرض ( رفع الجوازات والتلويح بها ) شفرة معنية ضمن دلالة اختزلت ما كان يهيم به معظم شباب الوطن ابّان العصر الرعوي لحكم صدام بالهروب من جحيم الوطن ‘ ثم تلتها حركة الضيق وفقدان الحرية ( ذهاب الممثلين والرجوع لنفس المكان) وكأن الوطن تحول الى سجن صغير ،ثم بعدها حركة المظاهرات وتلتها حركة الانشقاق بين الأبناء وتلتها حركة صراع الأجيال ( بين الأب “احمد شرجي” والابن ” ياسر قاسم” ) وصولا الى حركة (فقء العين ) بعلامة ترحيلية الى (أوديب) صاحب الدنس والمنقذ ، وكدلالة على ان هذا الجيل حمل دنس الجيل الذي سبقه ، وعوقب بدنس غيره ، معززا ذلك بحركة ( إجبار الأب بالجلوس على التواليت) ليؤكد بإن الجيل السابق مصاب بالدنس ولم ينتج الا الرجس في المدينة بمقاربة مع ( مسرحية أوديب) ، وعزز هذا المفهوم فقء العين ، وباستيقاظ جمالي امتلكت علامة اللون الأحمر في أزياء الممثلين شفرة رمزية جمالية .. في شخصية الاب ( الجوارب حمر) ‘ وفي الابن السلطوي (تيشيرت احمر) ، والابن الاصغر( بنطلون احمر ) والابن الثالث (حذاء احمر) ، والبنت ( ثوب احمر)، كشفرة رمزية تحيل الى الدم والجريمة ، ولتؤكد ان الكل مشترك في الجريمة ولكن بنسب متفاوتة ، ما استفزت هذه العلامة ذائقية المتلقي لتثير لديه دهشة اللحظة في العرض ، وعمدت آلية الإخراج الى انشاء البديل الصوري للعلامة ، وبدا هذا واضحا من مشاهد القتل اذ اتسمت ببشاعة الانسان ( القتل بالكيس) واعطت دلالة بأن نوع القتل طارئ عن المجتمع العراقي بل انه مستورد من غيره.

بهدف تحريك المناطق الساكنة بالعرض تداخلت الحركات في الرؤية الاخراجية وأدت الى غياب الإيقاع ، وكان بالإمكان الاعتماد على المؤثر الموسيقي الذي لم يضف شحنه هرمونية لمركب الصورة المرئية … بالإمكان اختيار جمل موسيقية تنتشل إيقاع العرض .. او استغلال بقعة تمتلك اقوى تركيز كأن تكون أسفل وسط المسرح ، واستمر انحدار الإيقاع لحين تداركه بمشهد الفتاة … كما بالإمكان تنظيم إظهار القطع الديكورية لتساعد في تحريك الإيقاع ، مثل : التواليتات ، تواليت مقتل الاب ، الديكور المصاحب لمقتل البنت ، نزول القضبان وغيره .

ان الممثلين في تجسيد شخصياتهم ، جعلوا من ذواتهم حالة عدمية معجونه برائحة الندم لتسبح في فضاء العرض وتنساق جماليا في هاوية التيه الأجوف ( العهد الجديد ) كدلالة لما يمر به المجتمع العراقي الآن ، وإن بدت سمات الشخصية وابعادها وخصوصيتها مُغيبة ، رغم انها تمتلك خصوصيات وصفات مختلفة بتوجهاتها بالعرض ، باستثناء شخصية الاب ( احمد شرجي) فقد امتلكت تجسيدا جماليا واضحا من خلال اعتماد مرجعيات الممثل الأدائية مثل : (الرجفة) و( الوهن) والتحكم بالحركة المنسجمة وابعاد شخصية الاب ، و(وفقء احدى العينين) جاءت كدلالة بأن نظام الحكم البائد امتاز بنظرة أحادية الجانب نحو شعبه ، وانتقلت هذه النظرة الى المجتمع لما بعد التغيير ، لتعزز مفهوم انفصال المجتمع عن ذاته ، الا ان شخصيات الأولاد والبنت مع شخصية الاب شكلت قوسا جماليا ، طرفه الشعور بضياع حلم الاب من جانب والتطلع والشغف المميت القاتل من جانب القوس الاخر .

اختتم العرض بحركة الرقص على قضيب ( ستربتيز) لينهي دلالته بأن عملية التغيير التي يتطلع اليها المجتمع العراقي ما هي الا خديعة واحتيال على المجتمع ، وعملية الخديعة تمت بنجاح وانطلت على المجتمع ، بل واكثر من ذلك … تراقصوا بالاحتيال وذلك عن طريق الرقص بصورة تثير الغيلة في ذات المتلقي ، ساعيا الخطاب الى تحريك ذهنية المتلقي بتغيير واقعه .

 

————————————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  فرحان عمران موسى – المدى

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *