الصمت في الأدب المسرحي المعاصر

 

يعتمد المسرح على أفعال محددة، منها مستترة، وأخرى ظاهرة، وهذه الأفعال تشكل جوهر العلاقات الإنسانية بين شخوص العرض عبر وسائل المباشرة في الحوار، أو الجسد، أو الإيماءة، إذ يكون فضاء العرض المسرحي مساحة تعبيرية لهذه الوسائل، كما أن هناك وسائل أخرى تعمل على كشف الجوانب الإنسانية، ومعاناة الفرد النفسية، مثل “الصمت”، الذي يعد فعلا تعبيريا دراميا يجسد على خشبة المسرح لينتج عرضاً يحتمل زمانية ومكانية المشهد، بالتوافق مع واقعية الصورة المرئية والمتخيلة مستقبلا ً. عند قراءتي كتاب (الصمت) في الأدب المسرحي المعاصر، “اللامعقول انْموذجاً” تأليف دكتورة (سافرة ناجي)، توّقفت عند مباحثه بشكل مكثف، والتي بذلت فيها المؤلفة جهداً كبيراً، إذ تؤكد على الكتابة في العصر الحديث لم تعد تمثل آلية مسلمات الأجناس الأدبية، بل أن هناك بحثا دائما عن أشكال تعبيرية محدثةٍ تؤسس لمنهج جديد في التجريب، كما أن هناك حدودا تقليدية بين الأنظمة تشكل خطوطا رئيسة لـ” الحداثة وما بعد الحداثة” تظهر على بعض الأشكال الكتابية في القصة، والرواية، فضلاً عن النص المسرحي الذي أسس لمنهجية جديدة في النصوص التعبيرية واللامعقول، كما اعتمدت على سمات ومفاهيم منها “اللامرئي” والذي يعد من علامات النص غير المنطوقة، والتي يعد “الصمت” أهم أشكالها.
عند قراءة أي نص مسرحي سوف يتم بناء بعض المشاهد التخيلية لدى القارئ، بعيد عما تقترحه خشبة المسرح عبر تحريك النص وتحويله، وقد تعجز بعض التأويلات الإخراجية في حسم أحداث العرض المسرحي، بسبب الخطوات التقليدية، مما يعطي هذا لفعل “الصمت” حضوراً أوسع عبر تحويل بعض الأفعال الرمزية إلى واقع يكون له تأثير أكبر من الكلمة، وهذا ما أشارت اليه المؤلفة في تأكيدها  أهمية الصمت في نصوص اللامعقول، على اعتبار أن هذا النسق الفاعل قد غير من طبيعة القراءة النقدية، كونه علامة فاعلة في بنائية النصوص المحدثة، عبر النص الغائب، والذي يمثل الصمت ببعديه الفلسفي والجمالي، والذي لا ينكشف إلا من خلال التلقي والتأويل، لذا أرى أن النطق بالحوار بات حاجزا بين الممثل وشخصيته، وبين الممثل والمتلقي, حتى أصبحت الكلمة تفرض من أجل رسم تشكيل صوري، أو إيجاد معانٍ دلالية لا نستطيع التعبير عنها، إلا بالصمت الذي أعطى للممثل تركيزاً عالياً وحضوراً جعله يخلق جواً جمالياً عبر سكونية أدوات العرض وحركتها المرمزة، مما يتيح له انتاج جملة من الصياغات المرئية والسمعية, تنتقل بالمشهد إلى مستوى الكمال والتقبل، بين الممثل، والمتلقي، وهذا الجانب ينتج ايقاعاً حسياً جمالياً متناغم مع عناصر العرض المسرحي.
كما تؤكد المؤلفة على تشاركية المتلقي في بنائية النص، وذلك من خلال إثارة الأسئلة واستنفار قدراته الإدراكية للإجابة على طروحات النص، كي يتسنى له قراءة العرض بكل عناصره التي تشكلت عبر البناء الأول للنص، ليقوم بعدها بتحليل خطوط الكتل والأحداث ليخرج بنص جديد حسب رؤيته، مما يجعل كل ثيمة تزيح الأخرى لتؤسس إلى ثيمة جديدة، وهنا تحقق هذه الديناميكية عدة مفاهيم إبداعية
وجمالية.
يعد كتاب (الصمت) منهجاً معرفياً مهماً، لما يحمله من مفاهيم، وقيم، إذ قدمت دكتورة (سافرة) جهداً كبيرا لتصل إلى هذا المنجز المعرفي الكبير، عبر عملية البحث عن المعلومة وتوظيفها بشكل صحيح، ومن ثمة الوصول إلى نتائج وتوصيات، تحتاج إلى خزين فكري ينظم آلية البحث، وهذا ما لمسته من صياغة واضحة في منهج البحث الذي اعتمدته، تناولت الصمت على أنه إبهام أو إغلاق، وأيضا على أنه سكوت: يمثل المدلول المادي السلوكي الذي تغلق افاقه المعرفية.
كما أن هناك مبحث آخر يتناول “الصمت” في النص المسرحي المعاصر، والذي ينقسم إلى الصمت الوظيفي: الموجه إلى المخرج والممثلين، والصمت الدرامي: الذي ينفرد به المسرح الحديث بمعنى أن هذا النوع من الصمت يعطي للشخصية تواصلا أشد في صمتها الفاعل مع باقي الشخصيات، وبالتالي كان هناك كثير من الاستنتاجات منها بروز “الصمت” ذا قوة تعبيرية اتصالية عبرت عن الوجود والموجود بمظاهر متنوعة كلا حسب تداولها الاستعاري، كما يحيل “الصمت” القارئ إلى فضاءات النص غير المكتملة فيكملها عبر تلقيه لها في بنية مغايرة، كما أنه غير من نظم التلقي ومفهومه
المتداولين.
ما قدمته قراءة مكثفة لموضوعة موسعة ومهمة، كون أن “الصمت” يدخل في جوانب فنية وأدبية متعددة، وله اشتغالات كثير أهمها في المسرح وعناصره، إذ يشتغل في النص وعند الممثل وحتى في الكتل على خشبة المسرح، إلى أن يصل للمتلقي ويستفزه حتى يجبره على تشاركية العرض المسرحي.

 

www.iraqakhbar.com/

علاء كريم

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *