الشكل المسرحي بين كتاب الإغريق وكتاب الطليعة/علي خليفة

من المتعارف عليه أن المسرح نشأ عند الإغريق من خلال الأناشيد التي كانت تغنى في أعياد إله الخمر الوثني ديونيسوس ( أو باخوس) ، ثم صار هناك ممثل يتجاوب مع الجوقة في أداء هذه الأناشيد الدينية عن هذا الإله، ثم نشأت مسرحيات دينية قصيرة عن هذا الإله.
وتطور المسرح الإغريقي بعد ذلك تطورا كبيرا ، فخرج من معابد باخوس للحياة ، وظهر كتاب مسرح إغريق يكتبون مسرحيات عن موضوعات أسطورية وتاريخية وواقعية ، لا سيما حين صار هناك ممثلان يظهران في العرض المسرحي مع الجوقة ، ثم أضاف سوفوكليس ممثلا ثالثا ، فزاد الحوار في المسرح على حساب الأناشيد والمونولوجات التي نراها بكثرة في المسرحيات السابقة عليه ، كما يظهر هذا فيما وصلنا من مسرحيات أيسخيلوس.
(٢)
وقنن بعد ذلك أرسطو في كتاب ( فن الشعر ) للمسرح الإغريقي فقسمه إلى مأساة وملهاة ، وأفاض في الحديث عن المأساة ،وأعد مسرحية أوديب ملكا لسوفوكليس المثال الكامل للمأساة ، وبناء عليها أظهر خصائص المأساة الإغريقية التي يجب على كتاب المأساة اتباعها.
وفي ظني أن أرسطو بكتابه فن الشعر قد أراد إن ينظر للمسرح الإغريقي من خلال رؤيته هو الذاتية له ، وليس من خلال خط سيره الذي كان يسير فيه. وحين نتأمل ما وصلنا من مسرحيات تراجيدية إغريقية عند كتاب التراجيديا الثلاثة الكبار
( أيسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس) نرى أنهم لم يكن لديهم تصور واضح للتراجيديا ، كما هو واضح لدى أرسطو ومن جاء بعده ممن قنّنوا للمسرحية كهوراس وبوالو.
(٣)
فنرى أن أيسخيلوس كان لا يعنيه في مسرحياته الربط المحكم بين أجزائها ، وأن تتوافر فيها عناصر التشويق والإدهاش، مثلما نرى في مسرحية الفرس ، فلا يوجد فيها حدث مؤثر ، بل ما أشبه هذه المسرحية بمرثية للقتلى الذين قتلوا من الفرس في معركة سلاميس حين وصل نبأ مقتلهم لأهليهم في بلادهم الفارسية،وأحداث المسرحية تتم فيها.
وسوفوكليس لم يكتب المأساة بأسلوب واحد ، والبناء الدرامي المحكم الذي نراه في مسرحياته ( أوديب ملكا، وأنتيجونا ، وإلكترا) لا نراه في مسرحيات أخرى له مثل مسرحية فيلوكتيتس ومسرحية أوديب في كولونا ، وهذه المسرحية – أي أوديب في كولونا -هي آخر ما كتب سوفولكيس ، وليس فيها خيط درامي متصل الحلقات يشد بعضها ببعض، بل فيها مشاهد متتابعة عن المصير الذي سيئول إليه أوديب بعد أن تألم كثيرا ،واستحق المكافأة على تحمله لهذه الآلام التي سببتها له هذه الآلهة.
ومسرحية فيلوكتيتس لا يوجد فيها أيضا خيط درامي متصل ، بل فيها من مظاهر الميلودراما ما لا يخفى على أحد ، ففيلوكتيتس البطل الذي نبذه الإغريق لجرح أصابه في قدمه خرج منه صديد ، وألقوه في جزيرة وحيدا يشكو آلامه قد عاش في هذه الجزيرة وقتا طويلا متألما ، ويخرج الصديد من قدمه ، ولم يتطور الأمر فيها لما يحدث بعد الصديد من تقيح وتسمم يصيب الجسد كله ، ثم تظهر للإغريق خلال حربهم في طروادة بعض الآلهة تخبرهم أنهم لن يفتحوا طروادة حتى يعود لجيوشهم فيلوكتيتس ومعه قوسه وسهامه ، ويرسل الإغريق بعض أشخاص يحاولون إغراء فيلوكتيتس بالعودة لساحة القتال أمام طروادة ،ويرفض بإصرار حتى يظهر طيف هرقل فيقنعه بضرورة العودة للقتال في طروادة فيوافق، وهكذا نرى هذه المسرحية تنتهي بتدخل هذه العناصر القدرية التي نعدها نحن من المصادفات الدخيلة على الأحداث فيها ،وهي من المظاهر الميلودرامية المعروفة.
أما يوربيديس فكان دائم السعي في تطوير مسرحه ، ولم يكن يرى أن هناك شكلا مسرحيا صارما يمكن أن يسير عليه ، ومع ذلك هناك بعض ظواهر يمكن أن نراها واضحة في كثير من المسرحيات التي وصلتنا له ، وقد أشار إليها أرسطوفان في مسرحية الضفادع التي قارن فيها بين أسلوب أيسخيلوس وأسلوب يوربيديس في مسرحيهما ، ومن الخصائص الظاهرة في مسرح يوربيديس ذكره في مستهل كل مسرحية من مسرحياته شخصية تلخص أهم الأحداث في المسرحية التي على الجمهور معرفتها ليمكنه متابعة أحداثها ، وأيضا اهتم في مسرحه بالحديث عن العواطف بين الرجال والنساء ، وأبرز فيها الأدوار النسائية، واهتم بأن يكون للآلهة الوثنية دور في بعضها، فهي تفك الاشتباك في أحداث بعض مسرحياته حين يصل تصاعدها للذروة.
وبعض مسرحيات يوربيديس تفتقد الحبكة المتقنة لا عن تساهل منه ، ولكن لأنه – ومن سبقه ومن عاصره من كتاب المأساة-لم يكونوا يتصورون أن هذه الحبكة شرط أساسي لجودة المأساة ، ففي مسرحية المستجيرات لا نرى حدثا متصاعدا ، بل نرى ـ في مدينة أثينا ـ نساء باكيات قتلاهن من الرجال الذين قتلوا أمام أسوار طيبة ، ويطلبن إلى ثيسيوس حاكم أثينا أن يعيد أجساد قتلاهن لتدفن حسب شرائعهم الدينية ، وتحتل الأناشيد بما فيها من ضراعة وتوسلات مساحة كبيرة من هذه المسرحية ، وتنتهي بظهور الإلهة الوثنية أثينا وهي تنصح ثيسيوس ملك هذ البلاد بما يجب عليه عمله ليضمن السلامة والمجد لبلاده ، وهي بذلك تفك كل الاشتباكات التي رأيناها في أحداث هذه المسرحية.
وفِي مسرحية هيبوليت ومسرحية أوريستيس ليوربيديس نرى تدخل العناصر الغيبية في إنهاء الحوادث فيهما، مما يعد في عرفنا نهايات مصطنعة ليست ناشئة من تطور الأحداث فيها ، ولكنها مع ذلك كانت تعجب الجمهور الإغريقي لكونها تثير فيه الحس الديني.
وأعود فأقول: إن كتاب التراجيديا الثلاثة الكبار عند الإغريق ،ومن سبقهم ومن عاصرهم من كتاب التراجيديا ـ والأمر لا يختلف كثرا عند كتاب الملهاة – لم يكونوا يَرَوْن أن إتقان البناء المسرحي هدف لا بد من تحقيقه ، بل هذا ما رَآه أرسطو ومن قنّنوا للمسرح بعده ، وكما قلت كان جمهور المسرح الإغريقي يعجب بالنهايات القدرية التي يظهر فيها آلهتهم وتحل الأحداث المتوترة فيها ، ولم يكونوا يَرَوْن هذا ضعفا في المسرحية وكاتبها عند إعطاء الجوائز، بل ربما كانت هذه النهايات مما يرفع من قدر المؤلف ويحظى بأكبر الجوائز من أجلها.
(4)
وبعد فكتاب مسرح الطليعة في العصر الحديث أراهم يخوضون التجارب نفسها التي خاضها كتاب الإغريق من قبل ظهور قوانين أرسطو في الدراما ، فهم يتحررون من هذه القوانين ، ويسيرون محاولين اكتشاف أساليب أخرى لصياغة مسرحياتهم ، ولكن الفرق بين كتاب المسرح الإغريقي قديما وكتاب الطليعة في العصر الحديث أن كتاب المسرح الإغريقي لم يكن لديهم شكل مسرحي يرونه المثل الذي يحتذى ، ولم يكن هناك بعد قوانين تحد من ابتكارهم أساليب جديدة في الشكل المسرحي ، وكان الجمهور آنذاك يتقبل هذا التجديد المتواصل في الشكل المسرحي منهم؛ لأنه هو أيضا لم يكن يرى أن التراجيديا والكوميديا لهما شكل ثابت لا يمكن التمرد عليه .
أما كتاب مسرح الطليعة في عصرنا الحديث فيعرفون أن هناك شكلا ثابتا متوارثا للمسرح رسخه نقاد المسرح منذ أرسطو ومن جاء بعده، واتبع هذه القوانين كتاب المسرح، وقل من خرج منهم عليها ، فكان سعي كتاب الطليعة للابتكار في الشكل المسرحي فيه تمرد على هذا الشكل المتوارث ، كما نرى في مسرح يونسكو وبيكيت وأداموف وأرابال ، وغيرهم من كتاب مسرح الطليعة في العالم.

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *