السياسة‭ ‬والدين‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬أبي‭ ‬خليل‭ ‬القباني

ابو الخليل القباني

 

 

 

دلع الرحبي

كان‭ ‬«أبو‭ ‬خليل‭ ‬القباني»‭ ‬رجلاً‭ ‬وحيداً‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أتقنت‭ ‬إنكاره،‭ ‬إذ‭ ‬تجسد‭ ‬سيرة‭ ‬حياته‭ ‬العبارة‭ ‬القائلة‭: ‬لا‭ ‬كرامة‭ ‬لنبيّ‭ ‬في‭ ‬وطنه،‭ ‬وهذا‭ ‬قدر‭ ‬المبدع‭ ‬حين‭ ‬يقترف‭ ‬ذنباً‭ ‬ويسبق‭ ‬عصره،‭ ‬ولقد‭ ‬سبق‭ ‬«أبو‭ ‬خليل‭ ‬القباني»‭ ‬عصره‭ ‬وربما‭ ‬عصرنا‭ ‬أيضاً‭ ‬إذ‭ ‬يبدو‭ ‬المشهد‭ ‬اليوم‭ ‬وكأن‭ ‬قرناً‭ ‬ويزيد‭ ‬لم‭ ‬يمرّ،‭ ‬وكأننا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬المضطربة‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬مازلنا‭ ‬نقف‭ ‬مشدوهين‭ ‬وفاغري‭ ‬الأفواه‭ ‬أمام‭ ‬الأسئلة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬طرحها‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬عام‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نقنع‭ ‬بجواب‭.‬

ينتمي »أبو خليل القباني» (1833-1903) إلى زمن بواكير النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو واحد ممن ترجموا هذه النهضة إذ كان أول من أسس فن المسرح في دمشق، ليكون بديلاً عن فنون أخرى كانت شائعة آنذاك كالحكواتي وعروض الكراكوزاتي التي تحوي من الفحش والبذاءة الكثير.
إنها الشام أواخر القرن التاسع عشر

شام الحارات والأزقة الضيقة والزوايا والتكايا والفوانيس اليدوية المضاءة بالزيت. شام المقاهي والحكواتية والكركوزاتية والزكرتاوية. شام المآذن وحلقات الذكر والإنشاد والموالد ودروس الأموي. شام البيوت الدمشقية المتوارية خلف حيطان الحارات العتيقة. شام العربات والخيول والجنود العثمانيين والطرابيش واللفات والعمامات والملاءات والقمبازات والشالات. شام الأبواب والبوابات التي تغلق عند كل مساء.

في تلك الأجواء نشأ «أبو خليل» وضمن هذه الظروف ولد مسرحه. وحكاية مسرح «أبي خليل» تقتضي بالضرورة التطرق إلى حكايتين أخريين لتشكلا في الحصيلة ضلعي مثلت العلاقة بين المسرح والسياسة والدين.
المسرح والسياسة

لا يمكن أن يجري الحديث عن «أبي خليل القباني» دون أن يتم ذكر الوالي «مدحت باشا» (1822-1884) ومازال سوق «مدحت باشا» هو من أهمّ معالم مدينة دمشق، وهو سوق مغطى على غرار موازيه «سوق الحميدية» الذي تعود تسميته إلى السلطان «عبد الحميد» (سلطان البرين وخاقان البحرين) «بادشاهم جوق يشا».

وحكاية الوالي «مدحت باشا» مع الشام بدأت قبل أن يأتيها والياً، بل إن القدر الذي ساقه إلى دمشق وجمعه مع «أبي خليل» كانت قد بدأت فصوله الأولى في الآستانة عاصمة الخلافة، حيث كان هو «الصدر الأعظم» و»أبو الدستور» «وأبو الأحرار»، وقبل كل شيء «خالع السلاطين». وحكاية خالع السلاطين تلك كانت شوكة تنغز السلطان «عبدالحميد»، الذي لم ينس أبداً أن «مدحت باشا» السياسي البارع والداهية المحنك، هو الذي خلع السلطان عبدالعزيز -عمه- والسلطان مراد الخامس -أخاه- وقد يأتيه الدور فيخلع على يديه كسابقيه. وعليه، فإن العلاقة بين الرجلين كانت شائكة ومضنية، محورها الصراع الذي عنون وقتها في كونه صراعاً بين «الدستوريين» و»الحميديين» أو بين «المابين» «والباب العالي» أو بين «الأحرار والمستبدين» أو بين «الإصلاحيين والمستغلين»… وأياً كانت التسمية فإن السلطان «عبدالحميد» في إسناده منصب الصدارة العظمى إلى «مدحت باشا « بداية، ثم في إصداره المرسوم السلطاني بإعلان الدستور لاحقاً، لم يكن حراً تماماً، بل كانت الظروف الدولية والمخاطر المحيقة بعاصمة الخلافة بعد وصول المسألة الشرقية حداً أصبح يهدد بقاء الدولة العثمانية ومصيرها هي التي دفعت السلطان إلى تعيين هذا الرجل صدراً أعظم.

أما إعلان الدستور، فقد جاء نتيجة منطقية لتولي «مدحت باشا» منصب الصدارة العظمى، فالدستور كان قضية حياته، ولولا الدستور لما أقدم أساساً على عزل السلطان «عبدالعزيز″ ولما وصلت الخلافة إلى «عبدالحميد» الذي كان يؤرقه سؤال: هل يحدد الدستور سلطة السلطان أم لا؟ خاصة وأن واحدة من أهم البنود التي تحفظ عليها «عبد الحميد» هي تلك التي كانت تقضي بتغيير لقب الصدر الأعظم وتحويله إلى لقب رئيس الوزراء، اقتداء بالحكومات الدستورية في أوروبا، وهذا ما رأى فيه السلطان توسيعاً لصلاحيات هذا المنصب وانتقاصاً من سلطته المطلقة.

لم يكن السلطان وحده متخوفاً من مسألة الدستور، بل كان معه العلماء والمشايخ الذين كانت تؤرّقهم إمكانية دخول المسيحيين إلى مجلس النواب بعد منح البلاد الحياة النيابية، لا سيما وأنهم يعرفون حق المعرفة أن غاية أماني «مدحت باشا» هي التأليف بين العناصر المسلمة والمسيحية في البلاد العثمانية وإيجاد كتلة واحدة تعيش تحت سماء وطن واحد. لذا لم يكن مستغرباً أن يقوم المشايخ بتملق السلطان بقولهم إنّ «لا حاجة إلى دستور، بعد أن تولى العرش سلطان عاقل حكيم». وأيضاً فإن النفعيين من أرباب الرشوة رأوا في «مدحت باشا» عقبة تمنعهم من نهب خيرات البلاد، وها هو واحد منهم يصرح قائلاً «إذا كان كل شيء سيجري البحث فيه علناً في مجلس النواب، فلا سبيل عندئذ إلى التهام شيء!».

ورغم ذلك فقد نجح «مدحت باشا» في دفع السلطان إلى إعلان الدستور (12 كانون الثاني 1876). وكان يوم الإعلان يوماً من أيام العثمانيين المشهودة، زار فيه «مدحت باشا» بطريركية الروم والأرمن ليصبح بذلك أول صدر أعظم في التاريخ العثماني يزور فيه رؤساء الطوائف المسيحية في مراكزهم. ثم أتبع خطوته تلك باستصدار عفو من السلطان عن المبعدين السياسيين.

هذا هو «مدحت باشا» الذي كان يعارض إدارة الولايات العثمانية بالقوانين الموضوعة في الآستانة، والذي كان يحبذ توسيع صلاحية حكام الولايات ومنحهم شيئاً من الاستقلال. هذا هو «مدحت باشا» الذي حين استرد منه السلطان بعد ذلك الخاتم الهمايوني، عازلاً إياه من منصب الصدارة العظمى، تلقى الخبر برباطة جأش متفوهاً بعبارة وحيدة «أعان الله وطني». هذا هو «مدحت باشا» الذي حين وصل إلى دمشق والياً -بعد أن تم نفيه إلى لندن ردحاً من الزمن- استحق كل ما أقيم لأجله من احتفالات وزينات إذ ابتهجت لمجيئه القلوب واستبشرت بقدومه النفوس، وتفاءل الناس بخير عميم لا بد آتيها، طالما أن المصلح «مدحت باشا» واليها.

القباني القادم من باحات المسجد الأموي معتليا منصة المسرح التي ابتناها في باحات البيوت الدمشقية كان يحطم في الوقت نفسه الصورة النمطية لشيخ عبوس يفتي بتحريم الفنون
في ظل هذه الظروف المعقدة على الصعيدين العام والشخصي، وصل هذا الوالي المغضوب عليه من قبل السلطان إلى دمشق التي استمرت ولايته عليها (1878-1880). وما كان قرار تعيينه والياً بعد أن كان منفياً ومبعداً إلا ذريعة وحيلة لجأ إليها السلطان لتسكيت الرأي العام الدولي في الخارج، وأيضاً أنصار «مدحت باشا» في الداخل. وكان الأخير يدرك حق الإدراك أن السلطان «عبدالحميد» يضمر له ما يضمر وأن ولايته على الشام لن تطول.

لهذه الاعتبارات كان الوالي الجديد المفعم بالرغبة في اللحاق بركاب التطور والتجديد مصمماً على تحويل طموحاته الإصلاحية واقعاً ملموساً، وترجمة ميوله التنويرية إلى فعل حقيقي وممارسة عملية دون أن يأبه بالسلطان. لذلك حين وصل إلى «دمشق» كان كمن أحرق سفنه كلها في «الآستانة»، إذ وجد في الشام ضالته، وصارت على أيامه مدينة تمور بانبعاثات الصحوة والإصلاح والتجديد، إذ بدأ بتأسيس الجمعيات وتأمين الطرق والمواصلات وتطهيرها من الشقاة، والضرب على أيدي الخونة واللصوص، وإصلاح المحاكم، ونشر العدل، والقضاء على الرشوة، وفتح المدارس للذكور والإناث، إلى آخر ما هنالك. ولما كان ذات يوم يقوم بجولة يتفقد فيها أحياء دمشق، لفت نظره كثرة المقاهي التي تمثل فيها عروض «الكركوزاتية»، فراعه ما رأى وانتقد وجهاء دمشق وعلماءها على هذا المستوى المنحط، ولامهم على مشاهدة المناظر المخلّة، والاستماع إلى الألفاظ البذيئة التي كانت ترد في بابات وفصول كراكوز. وحين سأل عما إذا كان يوجد في المدينة من يقوم بتمثيل الروايات الأدبية سمع اسم الشاب «أحمد أبو خليل القباني» فأمر بإحضاره والتقى الرجلان، والرجال عند لقائها تلتقي أقدارها وهذا ما كان.
المسرح والدين

يسبق اسم «أحمد أبو خليل القباني» لقب الشيخ، ذلك أنه قد جنى ثمار العلوم على أفضل علماء زمانه، وجهابذة عصره، من أمثال الشيخ العالم «بكري العطار». كان التدريس في ذلك العهد يجري في الجوامع، حيث تقام حلقات الدراسة لشتى العلوم العربية من نحو وصرف وبيان وبديع ومنطق وفقه وفرائض. وفضلاً عن أن أبا خليل قد اعتاد أن يؤذن على مأذنة عيسى القائمة في جانب من جوانب الأموي، فإن ذلك الفتى الشاغوري -نابغة آل آقبيق قبل أن يكنى بالقباني- كان قد بلغ في علمه حداً جعل أحد الشيوخ من أساتذته يقول فيه «لو ظل هذا الفتى مثابراً على الدرس لتحدثت الشام عن علمه زمناً طويلاً».

وعلى ذلك فإن الشيخ «أبا خليل» القادم من باحات المسجد الأموي، ليعتلى منصة المسرح التي ابتناها في باحات البيوت الدمشقية لأقاربه ومعارفه، ثم في خانات دمشق «كخان الجمرك» «وخان العصرونية»، كان يحطم في الوقت عينه الصورة النمطية لشيخ عبوس متجهم يفتي بتحريم الموسيقى والتمثيل والغناء، منطلقاً من الثوابت الدينية نفسها التي يمتح منها معارضوه من الشيوخ وعلى رأسهم «سعيد الغبرة».

وهنا تماماً مكمن الخطر الذي جعل المؤسسة الدينية المتمثلة «بالغبرة» وأمثاله، يعلنون حربهم الشعواء ضد المسرح الذي أسسه، والذي لم يجرؤوا على مسّه أو النيل منه طيلة فترة ولاية «مدحت باشا»، ذلك أن الشيوخ على دين ولاتهم، وبالتالي فإن الدعم الذي قدمه الوالي «لأبي خليل» كان بمثابة حصانة سياسية له حمته من كل أذى أو سوء يمكن أن يطاله من أعدائه المتمشيخين. وحين دعا الوالي «مدحت باشا» مشايخ الشام ومن بينهم مفتي الديار الشامية والشيخ واعظ السجدة وكبار العلماء لمشاهدة التمثيل، امتثلوا.

إن لقب الشيخ الذي لا ينفصل عن اسم «أبي خليل» يرسم صورة مغايرة وجديدة كل الجدة لشيخ تقيّ يحب الفن ويستمع إلى الموسيقى ولا يحرّم التمثيل؛ شيخ يعتبر أن من حسبوا أن التقوى هي عبوس الوجه والتجهم، نسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا»، وأن الذين جعلوا الحرام أصل التشريع، نسوا أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن الذين قالوا بأن كلّ ما سر به قلبك فهو حرام، نسوا بأن القلب بين يدي الرحمن، يقلبه كيف يشاء، وأن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله. لم ترق تلك الصورة الجديدة لرجل متدين يمتهن الفن للمشايخ الذين لم ترق لهم أصلاً إصلاحات الوالي «مدحت باشا» وعلى ذلك فِإن الرجلين كانا محط أنظار الفئة نفسها ممن كانوا يتحينون اللحظة التي سيرحل فيه الوالي «مدحت باشا» عن الشام، كي يوقعوا «بأبي خليل» وينقضّوا عليه انقضاض الوحش على الفريسة.

الفتى الشاغوري- نابغة آل آقبيق قبل أن يكنى بالقباني- كان قد بلغ في علمه حدا جعل أحد الشيوخ من أساتذته يقول فيه لو ظل هذا الفتى مثابرا على الدرس لتحدثت الشام عن علمه زمنا طويلا
وإذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار مدى توسع النشاط المسرحي «لأبي خليل» مستفيداً من دعم «مدحت باشا»، وتحديه للتحفظات الدينية، والرفض المجتمعي للمشتغلين بالمسرح من الرجال، والنظرة الدونية إليهم، يمكن فهم مدى خطورة الخطوة السباقة التي خطاها «أبو خليل» بعد ذلك، حين استعان بممثلتين من النساء لتقفا على خشبة المسرح أمام جمهور واسع، في مدينة تحتجب نساؤها خلف حيطان البيوت، ووراء سواد الملايات.

إن عمل المرأة كممثلة على خشبة المسرح، يفترض الظهور المادي لا الاختباء، والحضور المباشر لا الاحتجاب، وهذا يتطلّب تحدياً مضاعفاً من أجل خلق وعي مجتمعي، يميز بين المرأة الممثلة التي تبدع، وبين المرأة الساقطة التي تستعرض.

فإذا كان المجتمع قد اعتاد أن ينظر إلى المرأة عموماً نظرة احتقار وهي معتكفة في خدرها، فأيّ تحدٍ صعب ذاك الذي خاضته أولئك الممثلات القلائل اللواتي كن السباقات في الصعود على خشبة المسرح، وبأيّ ألفاظ كن يوصمن؟ إن العلاقة بين حركة تحرير المرأة وحركة المجتمع، هي علاقة جدلية، ولقد ساعد موقف بعض المفكرين النهضويين من أجل ترسيخ المسرح، ومن أجل التأكيد للناس وللسلطات الدينية والأنظمة السياسية والتربوية والثقافية، بأن دور المسرح لا يقل أهمية عن دور المدرسة الموجهة. إلا أنه بين الدعوات لتحرر المرأة وبين الإصرار على بقائها في البيت، كان هناك نضال من نوع آخر، توجب علي المرأة الممثلة أن تخوضه للوصول إلى الخشبة، ولتحقيق المعادلة التي تجيب عن سؤال جوهري وعميق:

كيف تكونين ممثلة ومحترمة في الوقت نفسه؟

في مذكراتها كتبت «مريم سماط» -وهي إحدى الرائدات الأوائل من ممثلات المسرح والتي عملت مع «أبي خليل القباني» في عدد من عروضه- تقول «إنما كانت التبعة في ذلك على إفراط الأوانس في تبرّجهن، ومغالاتهن في سفورهن وزينتهن، مما يلقي الشك والريبة في خلد الصالحين من الأدباء، ويولج البشر والسرور في أفئدة ذوي القلوب المريضة من عشاق الغزل وفُساق النظر».

وبالعودة إلى الشيخ «أبي خليل» فإنه قد قبل التحدي بشكل مضاعف.

أولاً- لم يكتف بتقديم عروض مسرحية بين الفينة والأخرى، بل أسس فرقته التمثيلية التي ضمّت عدداً ضخماً من ذوي المواهب المتنوعة من مسلمين ومسيحيين، والتي تعرض بانتظام وبشكل محترف، وفق ريبرتوار وبرنامج مسرحي مستمر وغنيّ، يجذب إليه جمهوراً غفيراً وجد في المسرح ضالته المنشودة.

ثانياً- لم يأبه لكل المخاوف التي قد تأتي بما لا يُحمد عقباه، حين استعان بممثلتين وقفتا على خشبة مسرحه، وفي ذلك مغامرة وخيمة العواقب، لا على المرأتين وحسب، بل عليه هو شخصياً بوصفه صاحب فرقة تمثيلية هزت سكون المدنية مرتين: حين أسس فيها مسرحاً وحين جعل المرأة تقف على خشبته.

لقد قارب الشيوخ الأزهريون قبل ذلك فن المسرح، منذ بداية القرن التاسع عشر، إبّان الحملة الفرنسية على مصر، وكانت هناك محاولات دائبة من أجل أسلمة الأفكار المنشورة كي لا يشعر المصريون بالذنب الذي دائماً ما يؤرق عواطفهم الحساسة إزاء الدين.

وصف «الجبرتي» (1825-1756) في كتابه «عجائب الآثار» (1801) المسرح بأنه مجرد «فرجة على ألاعيب» «واللعب» كما جاء في قاموس «محيط المحيط» هو «العبث» «وترك ما ينفع بما لا ينفع″. إلا أن «رفاعة الطهطاوي» (1873 – 1801) خطا خطوة أبعد في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز″ والذي أنجزه خلال إقامته في فرنسا، التي أرسل إليها بوصفه شيخاً أزهرياً وإماماً على طلاب البعثة العلمية التي أوفدها الوالي «محمد علي» إلى فرنسا (1826). تحفّظ الطهطاوي على فعل التسمية الأول «اللعب» لقصوره ولعدم وفائه بالمحتوى الدلالي للمسرح واستخدم عوضاً عن ذلك دال «الخيال» ليصنع بذلك فارقاً جوهرياً بين ألعاب «التسلي والملاهي» وبين «ألعاب الخيال» التي يقوم عليها التياتر. وعلاوة على ذلك فإن «الطهطاوي» أدخل مترادفات جديدة إلى اللغة العربية، نقلها من الفرنسية مباشرة مثل «سبكتاكل» و»تياتر» وكان لديه انطباع إيجابي عن المسرح، وأقرّ بأن دروساً في الأخلاق يمكن أن تعطى من خلال العروض المسرحية، إذ «بالعوائد ينصلح اللعب». ومع ذلك لم يشأ الطهطاوي أن يرتبط اسمه بترجمة نص مسرحي هو «أوبرا هيلين الجميلة» والتي كانت العرض الافتتاحي لمسرح الكوميدي بالقاهرة (1869). لقد كان هذا هو العمل الدرامي العربي الأول، الذي نشر بمصر والترجمة الحرفية الأولى لعمل درامي أوروبي باللغة العربية. امتثل «الطهطاوي» لأوامر «الخديوي إسماعيل» وترجم النص. لقد عمل بشكل فعال كمترجم ومراجع لترجمات مئات الأعمال العسكرية والتاريخية والقانونية والفلسفية والاجتماعية والعلمية والطبية والجغرافية، وكان يستند بقوة إلى سلطة تفويض من كل من المؤسستين السياسية والثقافية، لكنه حين اقترب من النص المسرحي، عاب على نفسه أن يكسر صورته النمطية المرسومة كشيخ حين يدرج اسمه على ترجمة عرض مسرحي يؤديه ممثلون وممثلات. لقد رأى في ذلك انتقاصاً من اسمه فضن به وأغفله.

لم تذون الكتب وجع الرحيل عن “دمشق” التي ترك فيها مسرحا احتلته العتمة بعد أن التهمه الحريق. لم توثق الكلمات وقفته الأخيرة أمام باب بيته مطاردا بمساخر الصبيان
من هنا يمكن قراءة الشيخ «أبي خليل القباني» الذي مزق الصورة القديمة، ليقدم صورة جديدة لشيخ لا يخجل من المسرح، يحترم المرأة، ويعرف كيف يصالح بين الدين والحياة.

لقد كان وحيداً في مدينة أتقنت إنكاره مرتين:

الأولى: حين استفرد به خصومه بعد رحيل الوالي «مدحت باشا» عن الشام، إذ تمت فبركة المضبطة التي رفعها «سعيد الغبرة» إلى السلطان «عبد الحميد» بعد أن ركب البحر، وشد رحاله إلى الأستانة، معترضا موكب السلطان المتجه إلى الجامع ليصلي صلاة العيد، وصارخا أن: «أدركنا يا أمير المؤمنين، فإن وجود التمثيل في البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية»….الى أخره . ومهما يكن من أمر مدى صحة هذا المشهد المسرحي المصطنع، فإن النتيجة كانت صدور القرار بإغلاق المسرح، ومنع «القباني» من عمله، وتضييق الخناق عليه، ومحاربته في رزقه، وإهانته وطعنه في كرامته و دينه بعد أن تم تأليب صبيان الحارات والأزقة، ليرددوا قرادياتهم المشينة بحق الرجل، مما دفعه إلى الاعتزال في بيته، ثم إلي مغادرة دمشق بعد أن ضاقت عليه بما رحبت.

والثانية : حين نشر نعي ابنه «خليل» المتوفى سنة 1940 والذي ورد في جريدة «الإنشاء» الدمشقية، خاليا من أية اشارة تفيد بأن المتوفى هو ابن الشيخ «أحمد أبو خليل القباني» رائد المسرح السوري.

هل انتصر المتزمتون اذن؟

في احدى رسائله إلي صديقه «يحيى أفندي تللو» كتب الشيخ «أبو خليل» يقول:

«أستودعكم الله أشواق قلبي الأسيف الحزين، ولعن الله الغبرة وأسكنه حضيض غور جهنم».

وفي ترجمة « سعيد الغبرة « جاء أنه فى أواخر أيامه:» أقبل على الدنيا ففتر أمره وتنزل قدره بين الناس.

بكى «أبو خليل القبانى» حين غادر الشام.

لم تحك المراجع عن اللحظة التي ضبضب فيها حياته في بقجة ورحل عن مدينته مكرها».

لم تدﱠون الكتب وجع الرحيل عن «دمشق» التي ترك فيها مسرحأ احتلته العتمة بعد أن التهمه الحريق.

لم توثق الكلمات وقفته الأخيرة أمام باب بيته مطاردا» بمساخر الصبيان وزعيق من أسروا المدينة وادعوا الغيرة على الدين.

ءالا أن التاريخ الذي يعيد نفسه لا يحتاج ءالى تدوين ، و لحظة» أبي خليل» تلك صار يعرفها كل من غادر مدينتة مكرها بعد أن احتلتها العتمة و التهمتها الحريق.

لم يخبرنا أحد كم بكى «أبو خليل « حين غادر الشام, لكننا نعرف جيدا أنه بكى كثيرا وفي بكائه ناداها : يامال الشام .

كل من غادر ذاق , وكلﱡ من ذاق نادى , وكلﱡ من نادى عرف.

ختاما: اعتمد المقال على أبحاث وضعها أو ترجمها: يوسف كمال حتاتة، قدري قلعجي، أدهم الجندي، عادل ابو شنب، فوزية حسن، فيليب سادجروف، سيد علي اسماعيل، سامح فكري حنا.

——————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – الجديد

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *