“الست نجاح” لعايدة صبرا في المركز الثقافي الروسي كوميديا ساخرة حصرت شوائب الوطن في المفتاح الضائع

المسرح، وصفه جان لوي بارو، بمصل اخترعه الانسان ليحمي نفسه من القلق. يعود هذا القول إلى البال ونحن في المركز الثقافي الروسي، نشاهد مسرحية هزلية في ظاهرها، نقدية في عمقها، كتبتها وأخرجتها عايدة صبرا من تعايشها مع مآسي البلد وعلله المزمنة. المعاناة التي يعيشها الوطن والمواطن،حوّلتها مسرحية، شخصيّتها الظريفة جدا هي الست نجاح، تحرّك خيطان الشخصيات الأخرى، محتجزة في قفص مصعد البناية التي تسكنها،وما من أحد يتطوّع لنجدتها. فالمصعد معطّل باستمرار، ما يجعلها، في انتظار المعجزة التي قد تحرّرها، تدير مصير حياتها وحياة الجيران من داخله.

عايدة صبرا تركت من دون شك للمشاهد أن يستعمل فطنته في ترجمة النيات المطروحة على الخشبة بدءا من الدور الذي ألبسته للست نجاح، قد يكون المواطن أو الوطن، وكلاهما في هذا القيد المعطّل إلى ما لا نهاية ينتظران خلاصا بات من مشهد إلى آخر من المستحيلات، ولا سيما حين تصرخ الست نجاح من قفصها: “قضية الشرق الأوسط راح تنحل وباب المصعد ما إلو حل”.
لكل قصة بداية. ها هي الست نجاح جاهزة لتمضي إلى محل الحلويات الذي تديره. صورة المرحوم قبالتها، تترحم عليه قبل مغادرتها البيت القائم في حي تغيّرت بعد الحرب معالمه: “ربما صار الحي أجمل بعدما كثرت فيه البنايات. الأشجار انتقلت رسوما على الحيطان، والعصافير الملوّنة على أغصانها”. هذا الغزل الصباحي تعكّر حين وجدت نفسها عالقة في المصعد ولا من يرد على ندائها: أبو محمود وكيل البناية، مشغول يوزع على كل عابر سبيل بطاقات ترشحه للمخترة، وليس لديه الوقت ليفك عقدة المصعد. لكنه يطلب من الست نجاح صدر كنافة وصدر معمول ليوم الاحتفال بفوزه، وتعده خيرا شرط أن يفك أسرها. وليد، الناطور الغبي، يأتي بمعدات هجينة لا تفي بالغرض. عامل المصعد في المقهى المجاور يتمتّع بنفَس أركيلة. سميّة الجارة تطلب من السجينة أن تساعدها بطبخة اللازانيا وترسل إليها كتاب الطبخ لتملي عليها كيفية تحضيرها. فواتير الكهرباء والماءتستلمها من بين قضبان سجنها وتسددها. المراسلة التلفزيونية العيّوقة جاءت مع الكاميرامان لتصوير حدث كبير، إمرأة في مصعد معطّل: ما هو شعورك ست نجاح؟ ماذا تتمنين للمستقبل؟
المشاهد حيّة، صاخبة، لا تهدأ.التهريج المبالغ فيه في أكثر الأحيان، يكسر من ظرافة موضوع أدركت عايدة صبرا المقادير اللازمة لمعالجته وربما في رفعها مستوى التهريج والصراخ إلى قمة عالية من الازعاج. فهل التوتّر لدى سميّة الجارة، والعويل الهستيري الذي كان يطمش ما تريد أن تعبّر عنه، كان من جوهر مفهومنا للكوميديا؟ أما التصنّع السمج في أداء بديعة، أفلم تلاحظ عايدة الرؤيوية أنه كاد أن يفقد رسالة المسرحية قيمتها النقدية، لو لم يتدخل عنصر التمريض، بعدته، الوسيلة لإنقاذ الست نجاح (المواطن) من الاختناق؟ الطب الذي يعالج مآسي المواطن اللبناني بالمسكّنات، الوصفة الناجعة التي باتت الست نجاح تسفّ منها كميات وتوزّع منها على جارتها المكهربة دوما.
عايدة صبرا لبست معطف الست نجاح العتيق، لتجسّد شخصية هذه المرأة، المتكمّشة بلهجتها البيروتية، تكمّشها بمعطف رافقها في كل الحروب التي عصفت بالبلد. الست نجاح قد ترمز إلى المدينة الخائبة، المتروكة للطامعين والوصوليين، ونظرتها العميقة إلى ما يدور حولها من إفرازات سامة طالت كل فرد في هذا المجتمع المختصر في بناية شعبية. ومن سواها يمكنه أن يجسّد شعبا محكوما عليه أن ينتظر فرجا لا يأتي، هو ذلك “المفتاح” لينقذه من الاختناق البطيء. كل ذلك كان ينبض من تحت معطف هذه المرأة العتيق، في ضمير ممثّلة قديرة محقونة بدم المسرح.

may.menassa@annahar.com.lb

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *