الرومانسية وحدها لا تكفى الشعب يحكم فى «بلاد السعادة» / هند سلامة

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

بلاد عنوانها السعادة وواقعها البؤس يحمل العنوان سخرية لاذعة من حال هذه البلدة التى احتلها مجموعة من الناس واستوطنوا بها لتكون لهم بلادا للسعادة ووبالا على شعبها، الذى لا يشعر سوى بالتعاسة والفقر، نص كتبه المؤلف وليد يوسف عام 1994 لينفذه احترافيا المخرج مازن الغرباوى على مسرح السلام عام 2018 دون اى تعديل أو تغيير وكأن الواقع العربى لم يتحرك قيد أنملة من وقتها وحتى هذه اللحظة، كتب يوسف النص بعنوان «مات الملك» ثم تم تغييره إلى «حدث فى بلاد السعادة».
يتناول العرض قصة حاكم محتل جاء من أقصى البلاد كى يستوطن أرض بلاد السعادة هو وجنوده، فيثور عليه أحد أفراد الشعب ويطالبه بالتغيير، هنا يقترح عليه مستشاره ترك الملك لهذا الثائر تحت رقابة الوزير عجبور ونتابع الأحداث اثناء تولى «بهلول» سدة الحكم ماذا سيفعل هل سيتغير اى شيء على يده باعتباره صادقاً مخلصاً لفكرته ورسالته؟!، فتح وليد يوسف لخياله العنان كى يسبح إلى عالم غير معلوم فأخذنا فى رحلة ليس لها مكان أو زمان وكأننا خارج كوكب الأرض ثم سار المؤلف على ثلاثة خطوط فى نقد شكل الواقع العربى وأسلوب الحكم فيه فأنت امام أكثر من رؤية وقراءة نقدية على مر العصور، لم يتوقف الكاتب عند السخرية من الحاكم الديكتاتور الذى يحيا فى رفاهية وترف ولا يشعر بشعبه، بل ذهب إلى أبعد من ذلك وتطرق لنقد الشعب نفسه فمن وجهة نظر الكاتب أو هكذا يطرح فى عرضه أن الشعب دائما هو المسئول الأول عن شكل الحكم الذى يقع عليه فالشعوب هى التى تصنع الديكتاتور، بجانب الرؤية الثالثة فى مدى إمكانية واستطاعة وصول أحد افراد الشعب إلى الحكم؛ هنا كانت المفارقة الكبرى والطرح الأقسى فى تعرية وطرح أزمة السؤال الأهم هل يستطيع أن يحكم الثائر؟! أم أنه خلق كى يثور فقط؛ عادة ما يكون الثائر رومانسياً حالماً قد لا تتوافق هذه الرومانسية الشديدة مع الواقع وقد تصنع منه ضحية لثورته؛ وليس شخصا قادرا على حكمة اتخاذ القرار، لذلك عندما قابل بهلول الحكيم واراد أن يخرجه من السجن رفض ونصحه بأن الناس لا تحترم الحاكم الضعيف، أراد بهلول أن يحقق الحب والخير والجمال على ارض الواقع برفع الظلم لكن المفارقة ان الشعب نبذه ورفضه، رفضوا الخروج عن إطار ما اعتادوا عليه من ذل وظلم وجبروت فأصبحت الأزمة خللا نفسيا يعانى منه الشعب وارتباط شرطى بالطاعة العمياء باتباع سياسة القطيع أيا كان الحاكم فالأشخاص تتغير لكن الواقع لن يتغير؛ ولم يكن سهلا عليهم قبول الوضع الجديد فهؤلاء شكلت نفوسهم على الخضوع فقط..!

سوء استغلال الفرص

من هنا تنطلق الرؤية الجوهرية للعمل التى اراد المؤلف الإشارة إليها هل يمتلك الثوار او الحالمون القوة الكافية لتحقيق أحلامهم؟!؛ ليست القوة المادية فقط بينما قوة معنوية داخلية نابعة من الإيمان وسلامة اليقين فيما ثار واعتقد تدفعه لتحقيق أحلامه وجعلها أمرا واقعا، فإذا لم تكن قويا واكتفيت بالحلم ستظل تحيا داخله، وظل بهلول يحلم حتى انتهى به الأمر باليأس والإحباط وقرر التخلى عن هذه السلطة والبقاء تحت رحمة الحلم ولم يحسن استغلال فرصة وصوله إلى أعلى منصب فى الدولة، فهل ستتعاطف كمشاهد مع موقف بهلول أم ستعتبره كائنا هشا ضعيفا يعيش فى خياله؛ هنا تأتى براعة الكتابة فى تباين موقف المشاهد من العرض فلك أن تتعاطف معه أو تحمله ذنب ما وصل إليه؛ وبالتالى لك أن تتوقع وتقرأ مشهد النهاية المفتوحة بلا قيود فلم يفرض المؤلف عليك رأيا أو مشاعر محددة بل ترك العمل كتابا مفتوحا يأخذ منه المشاهد ما شاء، دوامة كبيرة تدور فيها شعوب بأكملها وأمنيات طالما تمنى كثيرون تحقيقها لكنهم حتى الآن لم يمتلكوا القدرة والقوة والإصرار الداخلى لجعلها أمرا واقعا.

البناء المحكم والمبهم

ساهم الديكور فى خروج هذه البلاد بشكل مبهم ليس له معالم فجاء طيع الاستخدام بسهولة تحويله وتشكيله من مكان لآخر، وخروجه ودخوله ومبهم لعدم إلتزامه بشكل او واقع بلاد بعينها بل أوحى لنا وكأننا فى بلاد غير موجودة على الخريطة من الأساس، كما اوحت الملابس بالحالة المزرية التى يمر بها أهل هذا المكان فكانت ملابس المجاميع وأهل المدينة أشد إيحاء بأوضاع هؤلاء البؤساء وتشتت حالهم فمنهم من يرتدى ملابس مرقعة وكأنه هو شخصيا لا يعلم ماذا يريد وماذا يفعل وكذلك ملابس حكام البلدة، أما بهلول فكانت ملابسه والوانها صريحة واضحة لأنه شخصية مستقيمة تعلم ما تريد بلا مواربة.

الواقع المكرر

برغم جودة النص الذى كتبه وليد يوسف حتى وإن بدا قديما أو بدا وكأنه عاد بعجلة الزمن إلى الوراء فكأننا دخلنا فى أحدى حكايات «ألف ليلة وليلة» إلا أن هذا يعد عيبا وميزة فى نفس الوقت، العيب فى عدم حداثة النص المقدم أو معاصرته، والميزة فى أنه برغم هذا العيب إلا أن العمل يبدو وكأنه يناقش أوضاع حالية أو كأنه كتب بالأمس مما يؤكد على ثبات الأحداث والأوضاع السياسية والإجتماعية أو كأننا نعيش تاريخاً مكرراً يعيد إفراز الواقع من جديد بلا جدوى أو تغيير يذكر، استخدم المخرج تقنية ال3D mapping فى تقديم أحداث الثورة وتعبيرا عن معاناة هؤلاء الشعب وهو ما كان موفقا فيه المصمم رضا صلاح لأنه ساهم فى صنع حالة وصورة مسرحية مختلفة قد تبدو أكثر حداثة، كما وفقت كريمة بدير فى تقديم أداء حركى لمجموعة الشحاذين والراقصين، وكذلك شكلت الأغانى واشعار العرض تكميل ما نقص من الأحداث فقد تحكى وتعلق أحيانا وقد تطرح حلولا أحياناً أخرى فكانت جزءا آخر ملتحما ومكملا لدراما بلاد السعادة.

مباراة تمثيلية ممتعة

لم يتوقف العمل عند جودة وإحكام النص، بينما كان للممثلين دور كبير فى نجاح العرض والخروج به فى شكل شديد الانسجام على تنوع واختلاف أدوراهم جميعا، بداية من سيد الرومى الذى لعب دور الحاكم التافه المحتل قدمه ببساطة وتلقائية وخفة ظل جاذبة وخاطفة لانتباه الجمهور من الدقائق الأولى للعرض، ثم محمد الخيام مستشاره الغاضب دائما قدم هذا الرجل دوره بإتقان ومهارة شديدة حتى بدت وكأنها طبيعته، أما الفنان علاء قوقة يستحق المزيد من التوقف والمزيد من جوائز التفوق فى التمثيل والتشخيص حتى دون انعقاد مهرجانات فنية، فلم تقتصر مهارته على اتقان هذا الدور فقط، بل يجب أن تتأمله جيدا عندما تشاهده بعرض «مسافر ليل» للمخرج محمود فؤاد فى دور عامل التذاكر وهنا فى دور الوزير المنافق الساعى للوصول إلى السلطة؛ فى العملين يقدم قوقة دورين شر متناقضين إلى حد كبير ليس التناقض فى الشر ذاته بينما يأتى التناقض من أداء هذا الرجل الذى تشعر وكأنك ترى شخصا آخر فكأنه يحيا بروحين أو كأنه ترك قرينه فى «مسافر ليل» وجاء الآخر فى «حدث فى بلاد السعادة» فنحن هنا أمام مدرسة تمثيلية كبيرة تقدم قدوة ونموذجاً يحتذى به فى عمق التقمص والإتقان ببساطة ونعومة فى أداء الشخصيتين ولم يتكرر اسلوبه هنا أو هناك، بل بدا وكأنه شخص آخر فأنت على موعد مع مشاهدة علاء قوقة فى ثوبين مختلفين، فهذا الرجل يمتلك الكثير الذى لم نره بعد فهو حقا «عشرى السترة»!!، قامت بأداء شخصيتين أيضا الفنانة فاطمة محمد على داخل العرض فكانت زليخة زوجة بهلول الناقمة على حياته ورومانسيته ومرة مطربة تعلق على أحداث العرض بأدائها الصوتى واتقنت فاطمة عملها فى تبادل الدورين كثيرا، شاركها نفس الإتقان وجمال الصوت فى التعليق على الأحداث الفنان وائل الفشني، كما أضاف الفنان مدحت تيخة الكثير للوحة العمل فى دور الثائر الحالم والحاكم الرومانسى وكذلك الفنان أسامة فوزى فى دور السقا وحسن العدل فى دور الحكيم قدموا جميعا أدوارهم بمهارة واحتراف شديد، وكذلك محمد حسنى فى دور بائع الغلال ونسرين ابى سعد وخدوجة صبرى وعبد العزيز التونى ومنة المصرى وحسن خالد وعمر طارق وميدو بلبل، إجتمع هؤلاء ليقدموا معا عملا فنيا محكم الصنع فكل منهم يحمل موهبة تمثيلية مستقلة بذاتها فتحت المجال لصنع مباراة فنية ممتعة؛ وربما يحسب للمخرج والمؤلف فكرة الاستعانة بنجوم من دول عربية لبنان وليبيا والعراق، فهذه خطوة جديدة ومختلفة على المسرح المصرى تفتح مستوى أرحب واوسع من الإنتاج الفنى بجانب فتح خيال المتلقى لقراءة العرض بنظرة نقدية أرحب من النظرة القاصرة على الواقع المحلي.
«حدث فى بلاد السعادة» تأليف وليد يوسف، إخراج مازن الغرباوي، تأليف موسيقى محمد مصطفى، تصميم أزياء مروة عودة، ديكور حازم شبل، تصميم حركى كريمة بدير، إضاءة مصطفى التهامي، 3D mapping رضا صلاح أشعار حمدى عيد.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *