الحس السيميائي في التنظير المسرحي بالمغرب: مسرح النقد والشهادة نموذجا

توطئة: المنهج السيميائي في النقد المسرحي:

لقد كان للتطور الذي عرفته العلوم الإنسانية في مطلع القرن العشرين في الغرب انعكاس واضح في الممارسة النقدية المسرحية. إذ جنح النقاد إلى التسلح بما جاءت به تلك العلوم من معارف جديدة، وما صاغته من أدوات منهجية، ومفاهيم علمية، قصد الكشف عن أبعاد الفن المسرحي الدلالية والجمالية، وقصد تجاوز كذلك تلك الممارسة النقدية القائمة على الذوق الشخصي والانطباع المباشر. وهكذا خضع المسرح لقراءات عديدة ومتباينة، تمتح مرجعيتها من السوسيولوجيا والتاريخ وعلم النفس والتحليل النفسي.. ومع الثورة التي عرفها علم اللسان في العقد الثاني من القرن العشرين، وظهور ما يسمى بالمنهج البنيوي، لم يتخلف النقد المسرحي –مع رواد مدرسة “براك” في الثلاثينيات- عن الاستفادة منه، والتوسل بمفاهيمه وإجراءاته المنهجية، للبحث في طبيعة الظاهرة المسرحية، وإبراز قواعدها البنائية وكيفية إنتاجها للمعنى.. وقد تعزز هذا الاهتمام بالقراءة المحايثة للمسرح مع ظهور المنهج السيميائي في عقد الستينيات، إذ اعتبر المسرح “موضوعا سيميائيا متميزا”، لما يتميز به من ثراء علامي، و”بوليفونية” إخبارية1. وهكذا تناول النقاد السيميائيون قضايا جوهرية في الخطاب المسرحي كطبيعة العلامة في المسرح، والعلاقة بين النص الدرامي والعرض، وخصوصية التلقي المسرحي، ومستويات التحليل في العرض المسرحي.. وغيرها من القضايا النظرية والتطبيقية، المتعلقة بفهم التركيبة الجمالية والفكرية لهذا الفن.

ولم يقتصر هؤلاء النقاد على اعتماد المرجعية اللسانية، بل أغنوها بحقول معرفية أخرى، في سبيل الإحاطة بمكونات هذا الفن المركب. وبذلك غدا البحث في النقد المسرحي مجالا لتقاطع اختصاصات معرفية متنوعة، كالأنثروبولوجيا والإثنولوجيا والدراسات الاجتماعية التجريبية وعلم النفس التجريبي والتحليل النفسي.. فظهرت بحوث ودراسات نقدية يغلب عليها الطابع العلمي، تقطع مع الانطباعية وأحكام القيمة، كما تتجاوز تلك الشكلانية الصورية الفجة، لتحاول الإمساك بالظاهرة المسرحية في جدليتها، وتشابكها، وصلاتها بالفنون الأخرى، وبأشكال الفرجة المشابهة لها. فلمع نقاد كبار، ساهموا ببحوث تأسيسية، كـ”آن أوبرسفيلد” (A.Ubersfeld) وباتريس بافيس (P.Pavis) وأندري هلبو (A.Helbo) في الحقل الثقافي الأنكنلوفوني، وماركو دي مارينيز (M. De Marinis) وأ.سربييري (A.Serpieri) في إيطاليا… وغيرهم.

وإذا انتقلنا إلى الحقل النقدي المسرحي العربي، وجدنا أن ظهور المنهج السيميائي قد كان متأخرا. فعلى خلاف النقدين الروائي والشعري، اللذين حاولا تجديد أدواتهما، وإجراءاتهما المنهجية، انطلاقا من عقد السبعينيات من القرن العشرين، فإن النقد المسرحي لم يلتفت إلى الحداثة النقدية إلا في عقد التسعينيات، وبشكل محتشم وخجول. فباستثناء بعض المقالات التي كانت تظهر على صفحات بعض الدوريات، وهي في معظمها مترجمة عن الغربيين، لم يعرف النقد المسرحي العربي المنهج السيميائي، وظل منشغلا بالبحث عن المضامين الاجتماعية والبيوغرافية والنفسية في النصوص الدرامية على وجه الخصوص، أو منصرفا إلى الخوض في قضايا تتصل بتأصيل الفن المسرحي في تربة الثقافة العربية..

ولم يكن النقد المسرحي المغربي أوفر حظا من النقد المسرحي في باقي الأقطار العربية. إذ طغى عليه الذوق الشخصي والانطباع في المرحلة الممتدة من نشأته حتى الاستقلال. ثم غلب عليه في أواخر الستينيات وطيلة عقد السبعينيات المنهج الاجتماعي، إذ مال النقاد المغاربة إلى قراءة الأعمال المسرحية في ضوء سياقها الاجتماعي، باحثين فيها عن مظاهر الصراع الطبقي، وأشكال الوعي الإيديولوجي.. ولم يلتفتوا إلى المناهج الشكلية عامة، والمنهج السيميائي بخاصة إلا خلال عقد الثمانينيات؛ لكنه التفات لم يثمر في هذا العقد أعمالا نقدية تذكر، ما عدا بعض الترجمات التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى في بعض الدوريات. ولا يمكن الحديث عن المنهج السيميائي في المغرب إلا في عقد التسعينيات، حيث ظهرت دراسات تعرف بهذا المنهج، وتحاول تطبيقه في قراءة بعض النصوص الدرامية، والعروض المسرحية.

والحقيقة أن ظهور المنهج السيميائي في النقد المسرحي المغربي لم يكن ترفا فكريا، أو جريا وراء موضة جديدة زائلة، وإنما كان حاجة ملحة، فرضتها الأزمة الخانقة التي كان يعيشها، والتي تجلت في تضخم في جانب الكم، مع فقر مدقع في جانب الكيف. وهي أزمة لم يستشعرها الناقد وحده، وإنما استشعرها المبدع كذلك. فقد كان يدرك أن الأسئلة التي يطرحها النقد على الإبداع، هي أسئلة متجاوزة، إن لم تكن مغلوطة. بعبارة أخرى، إن النقد المسرحي المغربي في هذا الإبان لم يكن قادرا على مجاراة الحداثة الفنية التي كانت تتجذر في الساحة الإبداعية المسرحية. ولعل هذا هو ما دعا مجموعة من المبدعين إلى تقديم إشارات للنقاد، ووضع معالم في طريقهم، تعينهم على الإمساك بإبداعاتهم النافرة. ويأتي على رأس هؤلاء الفنان الراحل محمد مسكين. ونحن نذهب إلى أن هذا المبدع كان واعيا –مهما كان حجم هذا الوعي- بالمزايا التي يمكن أن يقدمها المنهج السيميائي للنقد المسرحي المغربي؛ بل ندعي أنه كان مدركا لجملة من القضايا النظرية والتطبيقية التي طرحتها سيميائيات المسرح في الغرب.

1 – محمد مسكين ونقد وضعية النقد المسرحي: في الحاجة إلى المنهج السيميائي:

لقد كان المرحوم محمد مسكين من المبدعين الأوائل الذين استشعروا الأزمة التي يعيشها النقد المسرحي في المغرب، وحاولوا تشخيصها، واقتراح السبل القمينة بتجاوزها. فقد رأى أن هذه الأزمة تتخذ مظهرين:

ـ الأول يتصل بموضوع هذا النقد. فهو قدر ركز على قضايا محددة، ذات طابع نظري في الأغلب، واقتصر عليها دون غيرها، كالبحث في أسباب غياب المسرح من الثقافة العربية، ومسألة تأصيله فيها… في مقابل غياب دراسات تطبيقية دقيقة، تتابع الإبداع، وتستقصي أبعاده المختلفة. يقول: “لقد استغرق منا البحث في قضايا كانت مهمة في فترة ما، كقضية غياب المسرح من الثقافة العربية، وقتا ليس بالقصير. ويمكن القول إن الخزانة المسرحية العربية مليئة بمثل هذه الدراسات لخد التخمة، في حين تعيش غيابا واضحا للدراسة الدقيقة التحليلية للأعمال الإبداعية..”.

والثاني يرتبط بالمنهج، إذ طغى على هذا النقد البعد الانطباعي، القائم على التأثر والذوق، المفتقر لكل وعي منهجي، ولكل رؤية علمية واضحة. وهو أمر راجع –في نظر محمد مسكين- إلى ضعف تكوين الناقد، وضحالة ثقافته النقدية. وحتى ذاك الذي اختار لنفسه منهجا، فإن نقده ظل “…نقدا إيديولوجيا بشكل مضخم، حيث يسقط بنوع من التغافل اللاعلمي باقي القيم الأخرى التي يحملها العمل المسرحي، مركزا على المضمون الإيديولوجي فقط. إن هاته السمة تعكس في حقيقة الأمر تخلف الفهم النقدي، وتحركه ضمن إطار ضيق، مما يعكس خضوعه عمليا لنظرية الانعكاس، والتي تتعامل مع العمل الإبداعي كمرآة مجلوة تعكس ملامح الواقع. إن هذا الفهم يشكل عائقا معرفيا خطيرا في وجه تطور النقد المسرحي، الذي يبقى متخلفا بالقياس إلى التقدم الذي أصبحت تعيشه الأصناف النقدية الأخرى، كما ينتج عنه سوء فهم لحقيقة العلاقة بين المسرح والواقع، من خلال سوء فهم لهما معا ا”.

ويرتبط بهذا المظهر المنهجي أيضا قضية أخرى، هي أزمة المصطلح والمفهوم في هذا النقد. وهي أزمة ناشئة عن حداثة هذا الفن في ثقافتنا. وقد رصد محمد مسكين هذه الأزمة من خلال تتبعه لبعض المفاهيم المتداولة في الحقل النقدي العربي، ووقف على طابعها المهلهل الفضفاض، ليخلص إلى أنها تشكل عائقا أمام تطور النقد المسرحي العربي، وألح على ضرورة استقصائها بالبحث والدراسة، لأن “الحديث عن تأصيل المسرح العربي لا يمكن أن يستقيم إلا من خلال إعادة نظر شاملة في فهمنا للعمل المسرحي، وفي الشبكة المفاهيمية المشكلة للقاموس المسرحي العربي (…) إننا نتحدث عن تجديد المسرح العربي وتطويره، بلغة كلاسيكية تعتمد مصطلحات غير مضبوطة. لهذا وجبت إعادة النظر بشكل نقدي ممنهج في أدواتنا المفاهيمية ومصطلحاتنا”.

إن هذه الملاحظات النقدية التي أبداها محمد مسكين حول وضعية النقد المسرحي المغربي، لا تدخل في النقد السلبي الذي يتوخى الهدم دون بناء، وإنما تدخل في النقد التقويمي الذي يشخص الداء، ويصف الدواء. فهو يذهب إلى أنه لا سبيل إلى إخراج النقد المسرحي المغربي من أزمته إلا بتبني النقد المعرفي. وهو يقصد بالنقد المعرفي ذلك النوع من النقد القائم على خلفية نظرية صلبة، تمده بشبكة مفاهيمية متماسكة، وتجعل دراسته للعمل المسرحي دراسة موضوعية واصفة ومفسرة، بعيدا عن الأهواء الشخصية، والميولات الذاتية. بعبارة أخرى، إن المقصود بالنقد المعرفي عند محمد مسكين هو النقد العلمي الموضوعي؛ وليس هذا النقد سوى النقد البنيوي السيميائي. يقول في معرض حديثه عن مكونات النص المسرحي: “إن النص المسرحي على المستوى الأدبي، يقدم نفسه كنسق من العلامات بين مجموعة من العناصر الدالة، (…) إن نوعية العلاقة الرابطة بين هذه العناصر الدالة هي التي تمد النص المسرحي كذلك بشكل البنية structure. إن هذا الفهم للنص المسرحي ينبع من قناعة [اقتناع](*) خاصة، تنبثق من ضرورة إرساء قراءة علمية للكتابة المسرحية”. فواضح من هذا القول إن محمد مسكين يعتبر النص المسرحي نسقا أو بنية؛ وأن إرساء قراءة علمية للكتابة المسرحية لا يمكن أن يتم إلا بالنظر إليها من الزاوية البنيوية السيميائية. ويظهر هذا التوجه السيميائي بوضوح في توسله بجملة من المفاهيم السيميائية في الحديث عن الممارسة المسرحية باعتبارها ممارسة علامية دالة. يقول عن القراءة “السيميائية” للمسرح: “إن هاته القراءة المعرفية من طرف المتلقي، هي قراءة للوحدات الدالة في الكتابة المسرحية. وتتم من خلال تحديد المدلولات signifiés للعناصر التي تشكل الوحدات الدالة. إن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة معرفية أساسا”.

لقد تناول محمد مسكين في كتاباته النقدية والتنظيرية جملة من القضايا التي تقع في صميم البحث المسرحي السيميائي المعاصر، كقضية العلاقة بين النص الدرامي والعرض، وقضية الخصوصية النوعية للخطاب المسرحي، ومكونات التواصل المسرحي، ومسألة الوحدات الخطابية التي تؤلف العمل المسرحي، وقضية اللغة الواصفة في النقد المسرحي، وغيرها من القضايا.

2 – قضايا سيميائية في تنظيرات محمد مسكين المسرحية:

2-1-ثنائية نص/عرض:

يبدو من خلال كتابات محمد مسكين أنه كان واعيا بخصوصية العمل المسرحي النوعية. ويتجلى هذا الوعي من خلال خوضه في العلاقة القائمة بين المسرح والأدب. فالمسرح يلتقي مع الأدب في قيامه على نص مكتوب يمكن أن يقرأ ويستمتع به مستقلا، كما تقرأ القصيدة والرواية والقصة. لكنه يتميز –مع ذلك- عن النص الأدبي بكونه نصا ناقصا وغير مكتمل، لأنه يظل في حاجة إلى العرض، الذي يملأ “ثقوبه” ويسد “ثغراته” على حد قول الباحثة “آن إيبرسفيلد”. يقول محمد مسكين في هذا الصدد: “إن القصيدة أو الرواية تكتمل فور انتهاء المبدع من كتابتها، ووصولها إلى يد الناقد. في حين تبقى المسرحية كنص أدبي مجرد مشروع غير مكتمل، في مرحلة القوة فقط باللغة الأريسطية، وليس في مرحلة التحقق”. فما يعطي النص المسرحي صفة الاكتمال، ويحقق له خصوصيته النوعية إذن، هو العرض. والعرض كما هو معلوم لا يقتصر على توظيف العلامات اللفظية، بل يوظف إلى جوارها خليطا غير متجانس من العلامات والأنساق: سمعية (كالموسيقى والمؤثرات الصوتية) وبصرية (كجسد الممثل وما ينتجه من علامات حركية وإيمائية… وما يعلق به أيضا من علامات كاللباس والماكياج وتصفيف الشعر.. وعلامات الفضاء كالديكور…) وشمية (عطور، بخور، روائح مختلفة…). ولعل ألصق هذه العلامات بجوهر المسرح هي العلامات البصرية. فالمسرح فن بصري أولا وقبل كل شيء، إذ يستطيع الاستغناء عن الكلام والموسيقى والمؤثرات الصوتية… لكنه لا يستطيع الاستغناء عن الفضاء والممثل. وهي حقيقة تفطن لها محمد مسكين. يقول: “إذا كان الأدب لغة (كلمات + رموز…إلخ)، فإن المسرح وجد خارج النص الأدبي، وأسس إشكالياته بعيدا عنه، خاصة على مستوى اللغة. فإذا كانت اللغة زمانا، فإن المسرح تركب أصلا في المكان، ومن خلاله(…) إن المسرح يمتلك مشروعيته التاريخية/ الحضارية والجمالية ضمن الأجناس الأدبية والفنية الأخرى من خلال امتلاكه لخاصية العرض spectacle”. إن هذه الخاصية ستسم النص ذاته بميسمها الخاص/ وتجعله مباينا للنص الأدبي. ذلك بأن لغة النص الدرامي، خلافا للغة النص الأدبي التي تكون باطنية جوانية، تميل إلى أن تكون خارجية وبرانية، حتى تتلاءم مع الطابع المادي المحسوس للخشبة. أو بعبارة أخرى، إن النص الدرامي يحمل في أحشائه بعض بذور التمسرح Théatralité، وهي قضية تشكل مدار بحث في السيميائيات المعاصرة. وقد انتبه إليها محمد مسكين، وأشار لها بشكل عفوي في تنظيراته. يقول عن الكتابة الدرامية في مسرح النقد والشهادة: “إن النص المسرحي الحقيقي هو الذي يؤسس جسر الحلول بالمعنى الصوفي، أي يدفع اللغة/الحوار لتحل في أجساد الممثلين. إن كتابة النفي والشهادة كتابة جسدية بكل تفاصيل الجسد وإغراءاته، وهذا من خلال تألقها أمام الناس، عبر أجساد الممثلين. لهذا فالكتابة المسرحية هي التي تؤسس المنظور [ البصري(*)]، وليس المسموع فقط. إن قدر الكلمة ومصيرها في الكتابة الكلاسيكية هو القراءة. لهذا كانت تأخذ أبعاد زمانية، وتفتقد لنشوة المكان”.

إن هذا الوعي بالخصوصية النوعية للمسرح لن ينعكس على تصور طبيعة النص الدرامي فقط، بل سيكون له انعكاس على طبيعة النقد المسرحي كذلك، وعلى موضوعه وأدواته المنهجية. فكون المسرح مباينا للأدب يستلزم أن يختلف النقد المسرحي عن النقد الأدبي. بل إن إسقاط مناهج هذا النقد ورؤاه على المسرح، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الإساءة للمسرح والأدب معا. ينضاف إلى هذا أن تطبيق مناهج النقد الأدبي على العمل المسرحي يسلبه روحه، ويجرده من خصوصيته وجوهره، ويقف عائقا أمام استكناه أبعاده الفنية والجمالية، ويختزله في مكون واحد من مكوناته، هو النص الدرامي. ولعل هذا هو ما حاولت سيميائيات المسرح تداركه منذ نشوئها. فقد عملت على تخليص المسرح من هيمنة الأدب والنص واللغة اللفظية، وحاولت أن توجد حيزا في خطابها النقدي للأنساق العلامية الأخرى التي تشتغل على الخشبة، وتساهم في إنتاج المعنى.

عندما شخص محمد مسكين بوادر أزمة النقد المسرحي في المغرب، أشار إلى اقتصار هذا النقد على جانب النص الدرامي دون تجاوزه إلى العرض، مما يدعو إلى الشك في هويته المسرحية. يقول: “هنالك مجموعة من المحاولات الجادة في هذا الميدان [أي ميدان النقد المسرحي]، والتي تعمل على تأسيس المشروع النقدي المسرحي بالمغرب على قواعد موضوعية. إلا أن جلها يبقى في حالة الوجود بالقوة(…) أي أنه نقد ببعد واحد من خلال تركيزه على جانب النص فقط، مع إغفال العناصر الأخرى المكونة للعرض المسرحي ككل. وبهذا يفقد مشروعيته كنقد مسرحي”.

إن النقد المسرحي الحقيقي إذن –في نظر مسكين- هو النقد الذي ينصب على دراسة العرض بكل مكوناته، بما فيها النص الدرامي، متوسلا بأدوات تسعفه في الكشف عن “ملامحه البنيوية كنسق من العلاقات بين مجموعة من الوحدات الدالة، التي تشكل عناصر التبنين structuration الضرورية للعمل المسرحي، مما يقدم إمكانية إخضاع العرض لدراسة متأنية”.

هكذا نخلص إلى أن موضوع النقد المسرحي الحقيقي في رأي مسكين هو العرض المسرحي، وأن المنهج الكفيل بتحقيق علمية هذا النقد وموضوعيته، هو المنهج البنيوي السيميائي. وبهذا يثبت لنا أن هذا الفنان لم يقتصر على ممارسة الحداثة المسرحية من خلال إبداعاته فحسب، وإنما كان من الأوائل الذين حاولوا ترسيخ أسس الحداثة النقدية في الحقل النقدي المسرحي المغربي أيضا.

2-2-تفكيك الخطاب المسرحي:

لقد اهتمت السيميائيات منذ ظهورها بتفكيك الخطابات التي تشتغل عليها، من خلال التمييز داخلها بين مستويات متراتبة (hiérarchiques) وهرمية، مؤلفة من وحدات تربطها علاقات:

ـ توزيعية، داخل المستوى الواحد.

ـ إدماجية، بين وحدات مستووين يتضمن أحدهما الآخر.

وهو إجراء منهجي استعير من اللسانيات التي تميز في الجملة بين مستويات مختلفة(*)، وطبق على الخطاب. هكذا ميز ر.بارث داخل خطاب السرد مثلا بين مستوى الوظائف، وهو أدناها، ومستوى الأفعال، وهو أوسطها، ما دامت وحداته تتحصل من تركيب الوظائف فيما بينها، وأن نظم تلك الوحدات يسفر عن وحدات المستوى الأعلى الذي هو مستوى السرد.

لقد حاول محمد مسكين أن يطبق الإجراء نفسه على الخطاب الدرامي، فميز فيه بين “ثلاثة عناصر هي: الشخصية والحدث والحوار”. وهي لا تتحدد باعتبارها جواهر مستقلة، وإنما انطلاقا من العلاقات الوظيفية التي تربط بينها. “فالحدث والحوار كعنصرين دالين يأخذان وظيفتهما من خلال ارتباطهما بالشخصية”. ومعنى هذا أن تعريفها هو تعريف بنيوي شكلي.

أما الشخصية فهي عنده علامة، مؤلفة من دال ومدلول، وهي تمتح هذا المدلول من الواقع والتاريخ؛ في حين أن الحدث “هو صورة وإشارة –بالمفهوم السيميائي- في نفس الوقت. إنه صورة لأنه يدل مباشرة على الشخصية، إنه أداة كشف وتوضيح. وهو إشارة indice، لأنه لا يملك أهمية من ذاته، ولكن من علاقته بالشخصية…”.

ويتحدد الحوار عنده باعتباره “صيغة”، أي الشكل الخطابي الذي يميز الفن الدرامي، في مقابل صيغة الحكي التي تميز الرواية والقصة. فالحوار هو “الأساس الأنطولوجي للكتابة المسرحية، لأن الكتابة المسرحية تفرض الحوار، والحوار لغة…”. لكنه يستعمل مفهوم الصيغة أيضا بوصفها مقولة كبرى، تتضمن أنماط خطابية فرعية هي: الحوار والمونولوج والتعليق الفردي أو الترديد الجماعي. وواضح في هذه التمييزات أثر النظريات البنيوية السردية، التي كانت شائعة في الحقل النقدي المغربي، ولا سيما في النقد الروائي. فالتقسيم الذي أورده مسكين شبيه بالتمييز الذي قام به ر.بارث المومإ إليه أعلاه، مع فارق هو أن الأول أنشئ لدراسة السرد الروائي والقصصي، وأنه يتمتع بدرجة عالية من التماسك النظري والمفهومي، في حين أن الثاني يطمح إلى تفكيك العمل المسرحي إلى وحداته البسيطة، والكشف عن طبيعة تركيبها، ليس من منظور نقدي تحليلي إجرائي، وإنما من منظور تنظيري مجرد. ومهما يمكن أن يقال عن هذه التمييزات، من أنها تفتقر إلى السند النظري، وأنها لا تخضع لمبدإ الملاءمة والورود، فإن ذلك لا ينال من اجتهادات محمد مسكين، ولا يحط من قيمة مساهمته في تجديد النقد المسرحي المغربي. فالسياق الذي وردت فيه هذه الإشارات لم يكن سياق بناء منهج لمقاربة العمل المسرحي، وإنما كان سياق رصد لواقع النقد المغربي، ومساهمة في بناء مشروع نظرية جمالية (لا منهجية) تخص إبداعه المسرحي أكثر مما تخص النقد.

وما يهمنا نحن هو أن هذا الفكر التفكيكي، الباحث عن الوحدات والعلاقات، يستلهم روح المنهج السيميائي، ويقيم الدليل على أن هذا الفنان قد مارس “البنية”، وإن كان لم يمارس البنيوية.

2-3-مكونات التواصل المسرحي:

لقد كان محمد مسكين واعيا بالطبيعة التواصلية للمسرح، كما كان مدركا لخصوصية هذا التواصل. فالتواصل المسرحي يختلف عن التواصل الأدبي في كونه، ليس تواصلا بين ذاتين منفردتين (الكاتب/القارئ)، وإنما هو تواصل مباشر وحي بين جماعتين: المبدعون من جهة (المؤلف، المخرج، مهندسو الإنارة والديكور والصوت…)، والمتفرجون من جهة ثانية (جماعة غير متجانسة من الناس من حيث انتماءاتها الطبقية والاجتماعية، والعمرية…)، يصهر بينهم العرض في الآن/هنا.

ميز محمد مسكين في التواصل المسرحي بين “ثلاثة عناصر أساساية [استعارها من جورج مونان كما يصرح بذلك]:

ـ المرسل/المبلغ.

ـ المرسل إليه/المتلقي.

ـ الخطاب المسرحي.

إن الخطاب المسرحي بالدلالة اللسنية يشكل أداة التواصل بين المبدع والمتلقي. وهو يتبين –يأخذ شكل البنية- من ثلاث ثوابت أو لحظات:

ـ لحظة إيديولوجية.

ـ لحظة معرفية.

ـ جمالية.

إن هاته اللحظات الثلاث تتداخل فيما بينها لتقدم للكتابة المسرحية صيغتها المسرحية النهائية كنص مسرحي”. وما دامت الكتابة المسرحية لا تأخذ دلالتها النهائية إلا في العرض المسرحي –كما أكد مسكين ذاته- فإن المقصود بالنص المسرحي هنا، ليس النص الدرامي، وإنما نص الفرجة. وبذلك ليس المقصود بالمرسل والمتلقي هو الكاتب والقارئ، بل المتفرج ومعدو الفرجة.

لقد وظف مسكين في حديثه عن التواصل المسرحي نوعين من المفاهيم، ينتميان لنظريتين متباينتين، وإن كانتا متكاملتين، هما نظرية التواصل ونظرية التلقي. فقد أخذ من نظرية التواصل مفهومي المرسل والمرسل إليه، واستعار من نظرية التلقي مفهومي المتلقي والخطاب. ومعلوم أن نظرية التواصل رغم نجاحها في تفكيك مكونات الفعل التواصلي –خطاطة جاكوبسون مثلا-، فإنها أغفلت التفاعل بين المرسل والمتلقي، ومن ثم أغفلت السياق. وهو ما حاولت نظرية التلقي تلافيه. بعبارة أخرى، إذا كانت نظرية التواصل حاولت الإمساك بالظاهرة التواصلية في سكونها، أي باعتبارها بنية ثابتة، فإن نظرية التلقي ستنظر لها بوصفها فعلا ديناميا، لا تقل فيه مساهمة المتلقي أهمية عن مساهمة المرسل. ولعل مسكين حين وظف مفاهيم نظرية التلقي، إنما كان مدفوعا بإدراكه الحدسي بأن التواصل المسرحي هو أكثر أشكال التواصل تجسيدا لهذا التفاعل. ويظهر هذا جليا في حديثه عن الرسائل –أو الثوابت على حد تعبيره- الثلاث التي ينقلها الخطاب المسرحي: الإيديولوجية والمعرفية والجمالية. فهذه الرسائل لا تتحقق (se concrétise) إلا بمقدار استعداد المتلقي لاستيعابها، وقدرته على فك شفراتها.

يتبدى من خلال هذا التحليل، أن محمد مسكين كان يدرك بحدسه الطابع التواصلي للمسرح، وكان يشعر بأن التواصل المسرحي يختلف عن باقي أشكال التواصل الفني الأخرى، ولا سيما منها التواصل الأدبي المسطح، والأحادي الاتجاه.

2-4-لغات الخشبة ومسألة اللغة الواصفة:

يوظف العرض المسرحي أنساقا علامية متعددة ومتباينة من حيث مادتها التعبيرية، وحجم وحداتها، وقنوات إدراكها.. فهو كما يقول رولان بارث يتميز بـ”بوليفونية إبلاغية قل نظيرها. وإذا كان المسرح الكلاسيكي يسيد النسق اللفظي، ويجعل الأنساق السمعية والبصرية الأخرى في مرتبة ثانوية، فإن المسرح الطليعي حاول أن يعيد الاعتبار لتلك الأنساق، وذلك حين أسند لها وظائف دلالية وجمالية لا تقل أهمية في نقل مضمون المسرحية السردي والفني عن اللغة اللفظية. وقد اقتدت السيميائيات المعاصرة بالطليعية المسرحية في الاهتمام بكل أنساق العلامات، البصرية منها والسمعية، وبوأت النسق اللفظي مكانه الطبيعي داخل الأنساق الأخرى.

وقد مرة بنا كيف أن محمد مسكين ألح على ضرورة تخليص المسرح من هيمنة الأدب، وتحرير الخشبة من سطوة الكلمة، وإيلاء “اللغات” الأخرى للخشبة، ولا سيما البصرية منها، ما تستحق من عناية. وقد أدخل في هذه “اللغات”، ليس تلك المعروفة فحسب، كإيماء الممثل ولباسه وتصفيف شعره والديكور والأكسوسوار وأبعاد الفضاء.. بل أضاف إليها أنساقا أخرى، تستطيع اختراقها جميعا، والتعبير من خلالها، وهي المواد والأشكال والألوان. يقول: “إن المسرح النقدي يجب أن يعتمد على الجانب المرئي في خطابه الإبداعي، من خلال مخاطبة عين المتلقي، عبر أشكال ومواد جديدة (خيوط، أسلاك، زجاج، ورق، حجر، جلد، عظام، قصب..). يجب أن يتحول الفضاء المسرحي نسقا من العلامات والدلالات، يتحول فيها اللون لغة تؤسس علاقة فاعلة مع الشخوص والأحداث”. إن العرض بهذا المعنى لا يقتصر على كونه دالا كبيرا لمدلول كبير هو حكاية المسرحية، بحيث يعمل المتفرج على ترجمة مكوناته المادية إلى مدلولات تخييلية، تتحصل له من خلالها المتعة الجمالية الخاصة بالفن المسرحي؛ وإنما هو لعبة رمزية أيضا، تتبادل فيها العلامات الوظائف والمواقع، وتؤسس لشفراتها الخاصة التي تجعل الفرجة أثرا مفتوحا –بتعبير أمبرتو إيكو-، مليئا بالمفاجآت والاكتشافات والتحولات(*). بهذه التحولات التي تجعل من المتفرج كيانا يقظا، مشاركا في بناء المعنى، لا مجرد مستهلك خمول للحكايات. “لهذا يمكن للمسرح النقدي أن يحول الممثل/الشخصية/الجسد مدلولا للألوان مثلا. هكذا نكون أمام دال (اللون) ومدلول (الممثل)(…) إن اللون في المسرح النقدي يعتبر كيانا يمتلك حياته الخاصة، ويبحث عن مدلولاته في عناصر أخرى”.

معنى هذا أن محمد مسكين حلم بلغة ركحية مادية وحسية، تخاطب حواس المتفرج، وتؤسس لجمالية تشكيلية مسرحية، لا تقتصر فيها الدوال على الإحالة على مرجع تخييلي غائب (حكاية المسرحية)، بقدرما تحيل في المقام الأول على ذاتها، وعلى وجودها المادي الشاخص في الآن/هنا.

إن دعوة محمد مسكين إلى هذه الجمالية الجديدة على مستوى الإبداع كانت مساوقة لدعوته إلى تبني المنهج السيميائي في تحليل العرض المسرحي على مستوى النقد. وقد كان يدرك ما كانت تطرحه هذه الجمالية من تحديات أمام الناقد. ويأتي على رأس هذه التحديات قضية اللغة الواصفة أو الميتالغة (Le métalangage). ذلك بأن توظيف الخشبة لكل هذه الأنساق العلامية، يجعل من الصعب على المحلل الإحاطة بها كلها، ووصف مكوناتها بواسطة اللغة الطبيعية/اللفظية. وتتضاعف هذه الصعوبة عندما يتعلق الأمر باللغات البصرية، إذ تخضع هذه اللغات في تركيبها لمنطق المجاورة (La parataxe) في حين تخضع اللغة اللفظية لمنطق التتابع. وهو ما يجعلها عاجزة عن استنفاذ الرسائل البصرية، وتسمية كل ما تشمله من علامات. يقول محمد مسكين عن هذه الصعوبات: “إن الوحدات المكونة للكولاج المسرحي، هي علامات ورموز ودلالات. من الصعوبات التي واجهتها السيميولوجيا التشكيلية غياب المصطلح الوصفي. خاصة وأن التعامل يتم مع لغة لا تعتمد الكلمات، ولكن تخلق قواعدها الخاصة في التواصل من خلال الألوان والأشكال والظلال والمساحات…”.

تركيب:

هكذا ننتهي إلى أن المرحوم محمد مسكين كان يحمل مشروعا إبداعيا ونقديا يراهن على المنهج البنيوي السيميائي باعتباره منهجا يمكن أن يخلص النقد المسرحي المغربي/العربي من أزمته، ويعطيه مصداقية علمية ومعرفية، من جهة، ويمكنه أن يساهم –من جهة أخرى- في تطوير الممارسة المسرحية، إبداعا وتلقيا. فمن جانب الإبداع، يمكن للسيميائيات أن تجعل المبدع (بصيغة الجمع) أكثر انتباها لما يصدر عنه من رسائل، ومن ثم أكثر تحكما في أداته الفنية. ومن جانب التلقي، تستطيع السيميائيات أن تطور قدرة المتفرج على التفاعل مع الإبداع، وقدرته كذلك على صناعة مفاتيحه الخاصة التي يلج بها عالم الفرجة، عوض اقتناء مفاتيح نمطية تدعي أنها قادر على قراءة كل الفرجات. والسؤال الذي يبقى مطروحا هو: ماذا تحقق من حلم محمد مسكين في الساحة النقدية المغربية بعد أن مضى على وفاته ما يربو على العقد؟

————————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – محمد العماري

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *