التداول الفكري والجمالي للمشهد المسرحي

يعد المشهد المسرحي بمثابة الوحدة الكبرى في خضم التركيب الكلي للعرض المسرحي، بوصفه وحدة شاملة تنطوي على العناصر السمعية والبصرية والحركية . وإذا كان المشهد يتحدد بتغير المنظر،

أو بدخول شخصية أو خروجها كما هو الحال في المشهد الفرنسي، فأن المسرح المعاصر لا يلتزم بهذه القاعدة، وفقاً لحركة أنسقه العرض المتحولة علاماتياً ولصيغ التداول الإخراجي .

ولما كان المشهد عبارة عن بنية محبوكة ومتكاملة متعددة الوسائل والعناصر، فأن كل وسيلة أو عنصر هو بحد ذاته غني بالتحفيزات التفاضلية (differential )، ويشكل هذا الكم منطقة لعب حر للمخرج الحاذق أذا ما أحسن استخدامه .

نستدل على أن المساحة الزمنية لأي مشهد تنطوي على عدد من المحطات التي تعتبر ركائز أساسية لبلوغ ثيمة المشهد الدرامية أو الكوميدية .

ويرى (كليرمن) (أن قلب المسرح ليس موجوداً في واحد من أعضاءه على الرغم من أن بعض هذه الأعضاء قد يغذي الأعضاء الأخرى أو يزيد

من زخمها) . وهذا ما يذهب إليه الكثير من المنظرين (بوبوف في التكامل الفني، وعبد الفتاح رياض في التكوين التشكيلي) .

فالفن المسرحي فن جماعي وفق تفصيلاته من فريق العمل والمؤدون وصولاً للعناصر الداخلة في صلبه، لذا فأن وجهة النظر النقدية تفترض أن منظومة التعبير فيه هي منظومة الكل الذي يعبر عن وظائفية أجزاءه، بحسب (جيروم ستولنتز) .وأن من لا يعبر عن كل الجزئيات، لا يعبر عن شيء، فالدراما بوصفها وحدة فنية لا تنفصل عن هذا المفهوم بل تمثله أصدق تمثيل .

 ولعل بعض المخرجين قد ركزوا قدراتهم في واحد أو أثنين من عناصر العرض كما هو الحال في سيمياء المسرح والدراما، مما هيأ لظهور تيارات واتجاهات جديدة في المسرح، (كالمسرح الأسود والمسرح البيئي والمسرح المفتوح ومسرح الضوء والصوت والمسرح التشكيلي والمسرح الفقير والمسرح البيئي الخ) وغيرها من المسارح التجريبية التي تتغذى على أحادية أو ثنائية العناصر .

يقدم المشهد المسرحي ثلاثة أنواع من القيم، هما القيمة الجمالية، والقيمة الفكرية  

والقيمة الدرامية على مستوى التعاطف بمفهوم (التطهير)، فالتطهير قناة نهائية تتراكم ضمن سياقها العوامل التعاطفية بشكل منطقي في التراجيديا الإغريقية بوصفها أسباب . في حين تصب القيمة الفكرية والفلسفية الحسية في قناة الذائقة الجمالية، خصوصاً في المسرح الحديث والمعاصر عند المثالين الجدد أمثال

(كريج) ومن تبعوه كما يسميه (دولمان) (بالجذب الحسي الذي لم يحلم به الإغريق) . فالمسرح الحديث أستند إلى التقنية الجمالية كهدف لجعل المتصور أكثر وضوحاً وإقناعا وإثارة، كما أن الضرب على المستوى الجمالي من شأنه أن يحدث نوعا من التطهير يمكن أن نطلق عليه أن جاز لنا التعبير مفهوم (التطهير الجمالي) إذ غالباً ما يثير فينا التكوين الجمالي إحساسا بالانتماء والتبني للصورة الجمالية عبر التجرد عن كل العلاقات الحكمية والقيمية في تقويم التكوين المعروض .

وتأسيساً على ما سبق فالقاعدة الأساسية في مرحلة نشوء العرض تتمظهر في توزيع حيثيات الفكرة على المشاهد ابتداء من المشهد الاستهلالي وصولاً إلى المشهد النهائي . ولما كان المشهد ينطوي على وسائل عدة يحتفظ كل منها قدراً كبيرا من القيم، تتجلى مهمة المخرج بالاختيار الدقيق للعناصر المتسيدة، كما ينبغي أن يكون لكل مشهد عنصره المتسيد، وهكذا يسري الحال على المشاهد الأخرى، ليصبح العنصر (المتسيد) والمبرز هو العنصر الأهم في المشهد وفقاً للماهية التي ينطوي عليها المشهد .

وهو ما تناولته الدراسات السيميائية على مستوى التصدر ألعلامي والإبانة، إن الصيغ المتداولة في المسرح المعاصر عند الكثير من المخرجين، انعطفت نحو هذا المنعطف، فمنهم من سيد الشخصية (غروتوفسكي)، وآخر أتخذ من الحركة عنصرا فاعلاً في السيادة (بارو وششنر)، والبعض أهتم بالتكوينات المؤثرة في الميزان سين وفقا لتصورات خيالية بغية الإحالة الواقعية(بوبوف)، وينحو آخرين صوب المتغيرات السريعة لأنساق العرض الدلالية والعلاماتية والكودات والشفرات المتلاطمة في التكوين البصري(باربا وششنر وكانتور)، من المشاكل الناجمة في هذا الأسلوب اعتماد بعض المخرجين على منح عنصر السيادة المفرز قاسما مشتركا ًلكل المشاهد . قد يحقق تقدما في مشهد أو مشهدين فقط، إلا أنه لا يسري على العرض كله، أن العرض بهذه الصيغة سيميل إلى نوع من التراتب غير المتجانس، ناهيك عن فقدان عنصر التنويع (variety) الذي يسبب بدوره عنصر الملل . (أن المفاهيم والمكونات غير الثابتة والغامضة غير مقبولة في البناء المعرفي) بحسب المخرج (كونراد كارتر) .

المشهد المسرحي ما هو إلا وحدة متصلة بما قبلها وتهيئ لما بعدها وأن ما يبدأ في القاعدة ينتهي بالقمة وفقا للربط المحكم من الوحدات الصغرى وصولا للوحدات الكبرى . فالإيماءة والإشارة واللون والضوء والتشكيل الحركي قد تبدو ضمنية، ولكنها غاية في الأهمية على مستوى إيصال وتعزيز الرسالة ضمن البناء السمعي والبصري للإنشائية المشهد . ولعل هذا التزاحم (الديناميكي) المضطرد قد يبدو مبعثرا للوهلة الأولى في خضم تلك الرؤى والتصورات التي تختلج ذهن المخرج . إلا أن المهم في هذا هو ليس الكم المبعثر منها، بل المهم هو الكيفية التي يجانس بها المخرج تلك الرؤى في قالب خاضع للتخطيط المسبق، والذي يقودنا بالضرورة إلى تراتب الأحداث بشكل منطقي لضمان ديمومة

(منطقية الصراع) و(منطقية الحدث) المفعمة بالقيمة الفكرية والجمالية .

في المرحلة التأسيسية الأولى لنشوء المشهد هو تحديد الفعل العام للعرض والذي ينطوي على الفكرة والثيمة من كون جميع الأفعال تتراصف خلفه، يتبعه تحديد الصراع السلوكي للشخصيات بوصفه الدافع الأساسي للحركة العامة والوجه الأخر للصورة بتشكيل الميزان سينات تحت نظام الضبط والدقة الحركية. في حين يأخذ فعل المشهد (الحدث) المرحلة الثانوية، ثم تأتي الأفعال المتساوقة في البنية حسب الأهمية بوصفها المعنية بالإنشاء والتعزيز في المرحلة الثالثة من التراتب .

إلا أن العرض سيقلب هذه المعادلة ليكون التعاقب تراتتبي من الأصغر إلى الأكبر _ وبهذا يضع المخرج مفاتيح لعبته الإبداعية (أن الجزء العام لا يتم بحجمه الفعلي في المكان والزمان حسب، بل بإعادة تنظيمه حتى يتعرف عليه المتلقي بيسر بفضل وضعه الجديد) .

ولعل سمفونية العرض تحتوي بين الحين والأخر (ضربات) متعددة هنا وهناك لغرض التوكيد على فعل ما دون الأفعال الأخرى لأيقاظ ذاكرة المتلقي وإنعاشها، وبين الصورة البصرية والضربات السمعية تبدأ ذاكرة المتفرج بالإنشاء الذهني والدخول في لعبة العرض بفيض من الترقب والربط .

أن أي شرخ في نسق الأنبناء الآلي التداولي قد يقلب المعادلة، لارتباك الصورة في ذهن المتفرج من خلال زعزعة أيمانه بلا منطقية ما يقدم (وعندما يعجز المتلقي عن الاستجابة للمسرحية وأدراك مغزاها ومتابعتها باحترام، لن يكون في وسعك أن تفعل شيئاً) .

يطالعنا المسرح المعاصر بمرجعياته المستندة إلى فلسفة القرن العشرين (بادراك انتفاء المطلق ونسبية التجربة والانشغال الشديد بطبيعة اللغة وتراكيبها …. فقد وجد الفنانون أنفسهم في مأزق حقيقي، بين الاعتماد على تعقيدات اللغة وتراكيبها وبين الاستناد إلى نسبية المعنى والتجربة..وترى (نهاد صليحه) أن القرن العشرين لهذا السبب شهد كماً هائلاً من التجارب الأدبية والفنية لم يسبق لها مثيل …. ولكون المسرح انعكاسا لفلسفات الواقع فقد وقع الاختيار على الجانب البصري .فكانت الاستعارة المرئية والإحالة والإبانة والتأويل صفة ملازمة له، في حين كانت الإيماءة والإشارة والدلالة والرمز(symbol) والعلامة ظهيرة للمعنى. فأصبح التشكيل الحركي والجسدانية والطقسية والعودة إلى البدائية والأنماط الأصلية والأنثربولوجية هي أدواته لتبليغ رسالته الدرامية.

ومن البديهي أن يتحول العرض البصري إلى لغة مفهومه من الكلمات وفقا للعلاقات السببية، مما هيأ لأن يتحول الشكل إلى مضمون مفعم بالمعاني

الدلالية . فأصبح عمل المخرج أكثر تعقيدا من ذي قبل خصوصا بعد إقصاء دور المؤلف، كما أصبح الحذر هو الذي يسود أنتاج العلامة وأشتغالاتها صوب المتلقي، ومرد ذلك الحذر هو أن تأتي اختيارات وتفضيلات المخرج الأشارية والدلالية متشضية يصعب على المتلقي إدراكها وفك شفراتها بوصفها كودات(code) . ولكون العرض المسرحي سيال ومتجدد في كل لحضه، عندها ينبغي أن يكون التأويل مستوفي لشرائط الإدراك الحسي والذهني . فالتأويل…

(يبحث في رد الظواهر إلى دلالاتها ومعانيها، كما أننا من خلاله نتلمس ما نفعله ونرمز إليه، بوصفه مستوى أخر من مراحل ومستويات الفهم، فهو استشراف… للمعنى وليس تهشيم للصورة بل دائما هو إعادة بناء …فهو إذن

(التأليف الثاني) أي أعادة إنتاج العمل المبدع) بحسب توكيدات (ف-ي- فاليزي) .

ويرى (هوكز) بأن التتابع المنطقي للأحداث هو لاستقصاء المعنى وملاحقته واكتشاف الخلاصة الكنفية المدججة بالتفاصيل التأويلية .ولما كانت صورة المشهد المعاصر تتأطر بتلك الكثافة الهائلة من العلاقات في الفراغ بشقيه ألزماني والمكاني، فأن عوامل الربط المحكم بين الشكل المنجز والبناء التأويلي، ينبغي أن يجد له مرتكزه الواقعي، الذي تحتمه خصوبة الرؤيا، فالمسرح يعتمد على الفعل المرتد (feedback) وبهذا يمكن اعتبار المسرح كما يرى (بارت) آلة سبرنتيكية (cybernetic) فأدوات الاستقبال الحسية لدى المتلقي تقوم على علاقة قوامها التحليل والتركيب وفقاً لآلية التوالد الدلالي وخصائص الإبانة(ostension) والتصدر ألعلامي، وأن أي اهتزاز في البناء المعرفي التأويلي أو عدم أدراك المعنى سيؤل إلى ذهاب جهود العاملين سدى .

وفقاً لما تقدم بما تنطوي علية صورة المشهد البصرية، يعني استنفار تدفق الأفعال واستمراريتها من كونه ذو مساس مباشر بالفكرة العامة المكونة من أجزاء تسعى في ديمومتها لأن تتوحد في مجرى الكل . (والكل نامياً أبداً متطوراً أبداً، فهو يزداد أتساعا ويزداد غزارة وحصيلة، وأن الشريحتين المتعاقبتين في الزمن وأن تساوتا رياضياً فلن تتساويا في كثافة الخبرة وغزارتها، لأن الشريحة التالية في التراتب لابد أن ترث حصيلة الشريحة السابقة ثم تضيف إليها ما قد استخدمته بفعل التطور والنمو). وبهذا الوصف تصبح القيمة الجمالية في المشهد المعاصر نتاج القيمتين التأويلية والفكرية .على الرغم من أن الذائقة الجمالية للمتلقي خاضعة إلى نسبية التجربة وإنتاج المعنى، فالجميل جميل لذاته، وأن عناصر الجمال بائنة في علاقة التفاضل بين إشتغالات العلامة(signs) والإشارة (system).لتعين قصدية (intentionality)المعنى.

———————————————————————————–

المصدر :مجلة الفنون المسرحية – د. حسين التكمجي – المثقف – العدد 1088 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *