«التأذيع المسرحي».. مشاهدة المسرح بالأذن

قد يصاب القارئ بالدهشة عند مطالعته عنوان هذا المقال، إذ كيف نشاهد بآذاننا؟!

لكن الحقيقة أن المشاهدة بالأذن هي أرقى أشكال المشاهدة؛ لأنها تحفز الخيال وتستنهض كوامن التأمل داخل الانسان، وليس أقدر من المواد الدرامية الإذاعية على إشاعة هذه الحالة، ولأن الدراما الإذاعية هي ابنة أصيلة للمسرح، الذي هو أبو الفنون جميعًا، فلا بد من الحديث عن “التأذيع المسرحي” الذي يمثل واحدة من أهم حلقات علاقة المسرح بالإذاعة، فالتأذيع المسرحي هو الممهد لميلاد فن الدراما الإذاعية التي مرت بمراحل كثيرة متعاقبة حتي أصبح لها ملامحها الخاصة وأدواتها الإبداعية المميزة لها، كما أخرجت للحركة الفنية كوادر شديدة التأثير بإسهاماتها وتجاربها في كافة مناحي الفنون.

عندما ألقت الحرب العالمية بظلالها الكئيبة على العالم، وجد الإنسان نفسه محاصرًا بالتناحر ومحوطًا بالخوف والفقد والكآبة، ولأن الترفيه كان وسيظل مهمًا للترويح عن النفس البشرية المثقلة بالهموم، فلقد وجد الناس أنفسهم محرومين من كل وسائله وأغلقت أمامهم أبواب المسارح ودور السينما والملاهي وغيرها من وسائل الترفيه الأخرى، وحتى من لم يغلق بابه منها حيل بين الكثيرين وبين الذهاب إليها، وهي المرحلة التي أطلق عليها “مرحلة الإعتام”.

تم انتشار الإذاعة كواحدة من أخطر وأهم وسائل الاتصال – وقتئذ – وكانت البداية ببث تجريبي عام 1910 تم خلاله نقل حفل غنائي بمدينة نيويورك، ونظرا لقدرة الإذاعة الفائقة علي نقل المعلومة بسرعة كبيرة وسهولة انتشارها والتقاطها، وأيضا قدرتها على تخطي الحدود والعوائق بتكلفة يسيرة، فلقد تم استخدام هذا الوليد السحري كأحد الأسلحة الدعائية في الحرب وتبارى المتناحرون في تطويع الإذاعة لأغراضهم وفي غزو أرض أعدائهم وبث الرسائل التي تخدم خططهم العسكرية حتي شاع وقتها مصطلح “حرب الأثير”.

لقد تم الاهتداء للإذاعة كوسيلة فاعلة للتغلب على “الإعتام” الذي صاحب الحرب؛ وذلك باستخدامها في توصيل وسائل الترفيه إلى المستمعين، بعدما حيل بينهم وبين الذهاب لقاعات العرض المسرحي ولدور السينما ولغيرها من وسائل الترفيه الأخرى.

وإلى جانب ذلك، كان لزامًا أن تستفيد الاذاعة من فن المسرح، وبدأ ذلك بنقل العروض المسرحية عبر الأثير، وفيه كان يتم إذاعة العرض المسرحي كما هو – كما يقدم على الخشبة – من خلال الميكروفون كي تتلقاه أذن المستمع، لكن المشكلة التي واجهت المستمع وحالت دون تفاعله التام مع العرض هي عدم رؤيته للتفاصيل الكاملة للعمل الفني، من ديكور وإضاءة وحركة ممثلين وغير ذلك من بقية عناصر العرض المسرحي، ناهيك عن إصابة المستمع بالحيرة والارتباك مثلا حين يستمع إلى ضحكات جمهور الحاضرين بسبب حركة أو إيماءة قام بها أحد أبطال العرض، وبالطبع المستمع لم ير ذلك ولا يعرف سببا للضحك!! ومن هنا بدأ التفكير في وسيلة تمكن هؤلاء البعيدين عن قاعة العرض من المشاهدة بآذانهم والاندماج في إيقاع العرض المسرحي، ولقد حدث ذلك عبر مرحلتين مهمتين للغاية:

المرحلة الأولى: تم فيها الاستعانة بمذيع/ راوٍ، يقوم بالتعليق على ما يحدث فوق خشبة المسرح ويصف للمستمعين كل عناصر العرض المسرحي، ولقد أسهم هذا الأمر بدرجة كبيرة في تفاعل المستمع مع العرض المسرحي وشعوره بأنه يشاهد ما يحدث من خلال أذنه أو من خلال “الراوي”، لكن في نفس الوقت الذي كان فيه الراوي يقوم بهذا الدور المهم، كان يمثل عقبة كبيرة أمام أولئك الذين يمتلكون خيالا خصبًا يتوق للتحليق وللتأمل ويسعى للمشاركة في العملية الإبداعية التي يستمع إليها، وهذا ما أدى للتفكير في وسيلة أخرى للتغلب على هذه العقبة فكانت المرحلة الثانية..

تعد هذه المرحلة من أنضج مراحل عملية “التأذيع المسرحي” ففيها كان يتم عمل إعداد إذاعي للنص المسرحي بحيث يحتفظ بروحه وبعالمه مع إضافة عناصر الإذاعة المختلفة إليه، وذلك بالطبع لخلق حالة درامية مميزة، فكان الحوار المناسب المكثف، والإيقاع السريع، والموسيقى، والمؤثرات الصوتية التي تساعد في عملية الايهام لبلوغ أعلى مراحل المحاكاة، هذا بالإضافة لتخير ممثلين يمتلكون أصواتًا تلائم الإذاعة، ولقد وجد المستمع نفسه هنا مشاركًا في العملية الإبداعية، وأصبح يشاهد العرض المسرحي بأذنيه بعدما تم صبه في قالب يلائم الوسيط الإذاعي، وكانت هذه المرحلة هي اللبنة الأولى لمولد “فن الدراما الإذاعية” الذي يعد عالما فنيا قائما بذاته من حيث أدواته وعناصره ومقوماته الابداعية والتقنية.

ولقد جذبت الإذاعة الكثيرين فكتبوا لها نصوصا معدة عن أصول مسرحية “تأذيع” وآخرون كتبوا للإذاعة نصوصًا مسرحية تلائمها وتتوافق مع طبيعتها وأدواتها الفنية، ومن أبرز أمثلة هؤلاء، الكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت (1906 – 1986)،كاتب العبث الشهير وصاحب الإسهامات الفنية المهمة، والحاصل على جائزة نوبل في الآداب 1969.

لقد كتب بيكيت لإذاعة البرنامج الثالث بالإذاعة البريطانية الـــ B.B.C مجموعة من النصوص منها «الساقطون»، «الجمرات»، «الأغنية القديمة»، «كلمات وأغانٍ»، «مشروع المسرحية الإذاعية».. ومن لا يعرف فإن هذه الأعمال قد كتبت خصيصا للإذاعة، ولن يلحظ أي اختلافات في تكنيك كتابة “بيكيت”، وهذا بالطبع يرجع لطبيعة وروح إبداعه، فحواره مكثف إلى حد التقطير، ولغته محددة وواضحة، وجمله قصيرة، وهو معني بوصف الحالة النفسية لشخوص أعماله، وغيرها الكثير والكثير من الأدوات التي تعين المخرج الإذاعي في مهمة التصدي لإخراج عمل فني مسرحي عبر الإذاعة لبيكيت.

أيضًا، ممن كتبوا نصوصًا مسرحية خصيصًا للإذاعة، الكاتب السويسري فردريش دورينمات (1921- 1990) وأشهر هذه الأعمال «قضية ظل الحمار»، وكتب للإذاعة أيضًا الكاتب النرويجي هنريك إبسن (1828- 1906) والكاتب الأيرلندي برنارد شو (1856 – 1950).

في مصر، خرج من عالم الدراما الإذاعية أساطين العمل الدرامي؛ أمثال: المخرج أحمد كامل مرسي، والمخرج والمؤلف والممثل سيد بدير، والناقد علي الراعي الذي عمل لفترة في الإخراج الاذاعي. كما شهد البرنامج الثاني (إذاعة البرنامج الثقافي الآن) بالإذاعة المصرية مرحلة مهمة للغاية كان فيها قلعة من قلاع الدراما والانتاج المسرحي المؤذع، وعمل به نجوم أمثال: الفنان محمود مرسي الذي ترك ميراثا كبيرا من المسرحيات الإذاعية، والكاتب بهاء طاهر الذي عمل مخرجًا إذاعيا ومؤلفًا في العديد من المحطات الاذاعية في الستينيات من القرن العشرين، وأيضا المترجم والمخرج الشريف خاطر، وما زال “البرنامج الثقافي” محطة مهمة من محطات الإنتاج الدرامي المتخصص والمميز، ويأتي علي رأس ذلك الدراما الإذاعية المسرحية.

لقد ساعد التأذيع المسرحي على تنمية الخيال الذي هو أهم وأثمن من المعرفة، حيث يسهل تكوين قاعدة معرفية من خلال التزود بشتى مقومات التثقيف والنهل من منابع العلوم المختلفة، بينما الخيال هبة إلهية عظيمة علينا أن ننميها ونعظم من شأنها لأننا بالخيال وحده سنتمكن من العبور فوق قبح وحماقة الواقع الأليم الذي نعيشه، والذي يشهد على ضمور منابع الخيال لدى إنسان هذا العصر الذي أصبح مستعبدا من قبل “الصورة” التي أحالته إلى مجرد متلق سلبي لا دخل له بأي إبداع ولا أي خلق، مع أن الإنسان بطبعه قد جبل على المحاكاة والتخيل منذ بداية وجوده علي ظهر الأرض.

———————————————————————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – عماد مطاوع – المؤسسة الثقافية السويسرية

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *