الإسباني أليخاندرو كاسونا يصطحب نوارسه البيضاء إلى القاهرة / شريف الشافعي

الكاتب الإسباني أليخاندرو كاسونا يتسلل إلى القلوب المتلهفة بخفة النوارس البيضاء في مسرحيته “مركب بلا صياد”، ويقوم بمعالجة جديدة تتميز بالدفء الإنساني والعمق وحساسية التعبير.

من سمات المسرح المصري اللافتة اتكاؤه على نصوص عالمية بارزة، خصوصا في العروض التي تقدمها الفرق المستقلة ومسرح الجامعة والبيت الفني للمسرح ومراكز الإبداع وقصور الثقافة، وتعتني بالمضمون الجيد قبل التفكير في التربح التجاري الذي يكاد يرسم بمفرده خارطة مسرح القطاع الخاص. وفي هذا الإطار، تأتي مسرحية “مركب بلا صياد” المعروضة حاليا في القاهرة بمعالجة درامية جديدة لنص الكاتب الإسباني أليخاندرو كاسونا.

على مسرح مركز الهناجر للفنون بالقاهرة، يراهن عرض “مركب بلا صياد” (دراماتورج وإخراج عمرو قابيل) على النص الأصلي الزاخم والأفكار المتعمقة حول الحياة والموت والعشق والصراع بين الخير والشر للكاتب الإسباني أليخاندرو كاسونا (1903-1965)، والتناول المسرحي المعاصر من خلال المعالجة الجديدة التي تتسم بالحساسية والدفء الإنساني.

بهذين الجناحين يسعى العرض إلى التحليق خارج مدار الكساد المسرحي السائد وأزمة الكتابة وفقر النصوص المحلية، بما يغري باللجوء إلى أعمال عالمية، كما يحاول العرض بمنظومة عناصره المسرحية المختلفة أن يتحسس طريقه الخاص بين عروض “المهرجان القومي للمسرح” (19 يوليو-2 أغسطس).

قلوب متعطشة

الإسباني أليخاندرو كاسونا يصطحب نوارسه البيضاء إلى القاهرة
مسرحية الدفء الإنساني والأمواج المتصارعة

جاء الرهان الأول موفقا ويُحسب لفريق العمل، فالقماشة “الخام” التي جرى الاشتغال عليها بالغة الجودة والثراء، إذ يطرح كاسونا في مسرحيته ضمن قالب جمالي فلسفة إنسانية واسعة، تصلح لكل زمان ومكان، ومن ثم فإنه يجدر به أن يصطحب نوارسه البيضاء إلى القاهرة، هربا من الصقيع، وأملا في شاطئ افتراضي مشمس، تتراقص فيه الأسماك، ويضع الدفء حدا للأمواج المتصارعة.

من السهولة أن يتسلل كاسونا إلى القلوب المتعطشة للعشق، ففي مسرحيته “مركب بلا صياد” فيض لا ينفد من الطاقة الإيجابية المعينة على ظلمات الحياة وظلمها وثلوجها القاسية، فكل الأمور السيئة قابلة للتغيير، وبالمشاعر الصادقة ولحظات الرومانسية يمكن أن يسترد الإنسان جوهره الغائب، ويعم الخير والسلام، ويعترف الشيطان بهزيمته في معركة إغواء البشر.

تقدم المسرحية عالمين متناقضين تماما، يتوازيان مع الثنائيات التقليدية: الخير والشر، الحياة والموت، الملاك والشيطان، الوفاء والغدر، وغيرها. العالم الأول: مجتمع الصيادين البسطاء، الذين يعيشون في أكواخ فقيرة الأثاث، ويقدسون قيمة العمل، وتربطهم أواصر المحبة وروح التضحية والإيثار، ويتحدّون برودة الطقس الشمالي بالأحاسيس الصادقة الجياشة والألفة العائلية.

في المقابل، يأتي العالم الثاني، في الجنوب الدافئ شكلا البارد موضوعا، حيث مجتمع الأثرياء وكبار الرأسماليين وتجار البورصة الذين تجمّدت حواسّهم من فرط أنانيتهم، فتحولوا تدريجيا إلى قتلة، يلقون بأطنان الموز في البحر للمحافظة على سعره، في حين يتضور الأطفال الفقراء جوعا.

يتعرض الرأسمالي ريكاردو خوردان لضربة موجعة في السوق، تفقده ثروته ووجاهته لصالح خصومه، وهنا يظهر الشيطان في صورة آدمي، ليقدم له عرضا مغريا بأن يعيد له كل ما فقده، في مقابل أن يبدي ريكاردو النية في قتل أي إنسان لا يعرفه، في أي موضع بعيد من العالم، كي لا يصاب بتأنيب الضمير بعد موته، ويظهر له شبح القتيل في الكوابيس.

ويقع الاختيار العشوائي على الصياد الفقير بيتر أندرسون، ويموت قتيلا بالفعل في ليلة عاصفة، بعد ساعات قليلة من شرائه قاربا جديدا كان يتمنى أن يعمل عليه ليعوّض زوجته ستيلا سنوات من الفقر المدقع والذل والقهر، وتعيش ستيلا مع جدتها وحيدتين صامتتين من فرط الحزن والصدمة.

لم يمت ضمير ريكاردو مثلما ظن هو والشيطان، فقرر الذهاب إلى كوخ الضحية بيتر ومقابلة أسرته للاعتراف بجريمته، وهناك ينخرط في حياة البسطاء ويتعرف على مجتمع المحبة والإخاء والصدق والعمل، ويبدأ في استرداد إنسانيته المفقودة شيئا فشيئا، وتنشأ علاقة حب بينه وبين ستيلا التي صارت تعمل في تقطيع الأخشاب لمواجهة أعباء الحياة، لكنها تتراجع عن العشق احتراما لروح زوجها، كما يتراجع ريكاردو بسبب تورطه القديم في العقد المبرم مع الشيطان.

وعندما يهم ريكاردو بالاعتراف لستيلا بكل ما حدث أملا في الانتصار لحبه، تتكشف الحقيقة، وهي أن شخصا آخر هو الذي قتل بيتر، قبل دقائق معدودة من صفقة ريكاردو والشيطان، وهذا القاتل هو كريستيان زوج أخت ستيلا، بدافع الغيرة والحقد. وهنا، يتنازل ريكاردو عن ثروته وحياته القديمة كلها، ليولد ريكاردو أندرسون كإنسان جديد متطهر من خطاياه بالعشق، ويقترن بعقد آخر مع ستيلا الحبيبة، ويعترف الشيطان بهزيمته وفقدانه القدرة على التأثير في الإنسان.

التفاصل الصغيرة

اللعب بالتفاصيل الإنسانية الصغيرة
اللعب بالتفاصيل الإنسانية الصغيرة

بدأ المخرج عمرو قابيل رهانه الثاني مبكرا، فمنذ الوهلة الأولى وقبل انطلاق العرض يجد المتفرجون أنفسهم في قلب المشهد، إذ يأخذهم صوت خرير الماء وعصف الرياح وديكور المسرح مباشرة إلى ذلك الكوخ الساحلي الفقير الذي يخص أسرة بيتر في الشمال الأوروبي البارد، ثم يبدأ الشخوص في الظهور تباعا، وتتلاحق الأحداث اللاهثة.

أدرك صنّاع المسرحية أن سر نجاح تقديمها بأسلوب معاصر يكمن في اللعب على التفاصيل الإنسانية الصغيرة التي تمس أوتار القلب، وليس ترديد الشعارات الطنانة عن الفضيلة والشرف وما نحو ذلك من أغراض لم تعد مناسبة، لذلك اعتمد العرض على مساحات حوارية وحكائية تعرّي الروح والنفس الإنسانية في حالات الطهر والشفافية والعشق، وأيضا في لحظات القسوة والغدر والكراهية.

فلسفة أن يكون الإنسان إنسانا، حققها العرض خلال تلك المسحة الشاعرية التي غلفت الأحداث كطقس عام، في أوقات الحزن والسعادة على السواء، ففي يأسها مثلا بعد رحيل زوجها تتوحد ستيلا مع شباك الصيد لتغدو جمادا تفر من ثقوبه عناصر الحياة. وعند ارتباطها بريكاردو وتشابك أصابع يديهما تتحول إلى باليرينا راقصة تكاد تطير من فرط النشوة وتشع من وجهها النورانية.

هذه الحساسية في المعالجة طالت كل تفاصيل العرض، فتغير ريكاردو من مادي إلى روحاني يمكن التقاطه من خلال استغنائه عن ساعة يده بعدما تعلم معرفة الوقت بأسلوب الصيادين في مراقبة الشمس، ورغبته في إعادة تشكيل ذاته تتوازى مع براعته التي اكتسبها في طلاء القوارب، ورهافة روحه تبلغ منتهاها عندما صار بمقدوره استكشاف مواعيد هبوب العواصف من ردود أفعال النوارس.

أداء الممثلين عمرو قابيل، منحة زيتون، هاني عبدالناصر، راندا عوض، مي رضا، إبراهيم فرحات، جاء متزنا هادئا، يعتمد على ما وراء الكلمة والحركة من انفعال كامن، فتناول الزوجة والجدة الطعام مثلا بعد رحيل الزوج بيتر يتحول إلى روتين يومي مؤلم وتمارين آلية، فقد غاب الرجل الذي يملأ البيت ويبارك الطعام. وتضيف إضاءة محمد عبدالمحسن الذكية الكثير إلى هذه الطقوس التي تتكشف فيها الملامح من خلال الأنوار والظلال.

لم يخرج عن النسق التمثيلي العام سوى شخصية الشيطان، التي جسّدها هاني عبدالناصر، فلم يكن مناسبا إضفاء طابع كوميدي على هذا الشيطان في حركاته و”قفشاته” المقحمة، في حين أن جميع الشخصيات الأخرى تتحدث وتتحرك بحساب، وتصطبغ بتلك النزعة الفلسفية التي تحكم العرض، ولديها إمكانات تعبيرية من خلال الشفافية والوضاءة الداخلية وليس من خلال الاستعراض الباهت.

انسجمت تماما موسيقى حازم الكفراوي وتوزيعات أحمد حامد مع الحالات النفسية المتفاوتة التي يقدمها العرض، بين الفرح والحزن، والأمل واليأس، والحياة والموت، وجاءت رقصة النهاية بمصاحبة أنغام الأوكرديون بمثابة تحليق للطيور الغرّيدة في الفضاء. وتلاءمت ديكورات محمد زكريا وأزياء ريم شاهين مع العالمين اللذين يقدمهما العرض، في مجتمع الصيادين البسطاء، ومجتمع الرأسماليين الأثرياء.

انطلقت المسرحية من منصة نص أصيل أعطاها قوة دفع ابتدائية، واجتهد صنّاعها بقدر إمكاناتهم في استحداث طاقات جديدة لاستكمال المسار الصعب.

التحليق خارج مدار الكساد المسرحي السائد
التحليق خارج مدار الكساد المسرحي السائد

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *