أزمة المسرح مابين عوامل التكوين في الفكرالأرسطي وجذورالحل في ممارسة أنطونان أرتو

عامر خ.مراد
“لقد نشأت كل من المأساة والملهاة بطريقة فجّة ومن غير خطّة مرسومة ولا فكرة مدروسة, الأولى من قادة الأغاني العنزية ( الديثرامبوس ) والأخرى من أولئك الذين كانوا يقومون بقيادة أناشيد الذكورة” أرسطو.
” إن المنصة مكان مادي ملموس يحتاج منّا أن نملأه وأن نجعله يتكلم لغته المادية التي تخاطب الحواس مستقلة عن الكلام… كما أن الإخراج هو المسرح أكثر من النص المكتوب والمنطوق” أنطونان أرتو.

هي الطبول البدائية من استطاعت أن تعبّد الطريق أمام المسرح بكونه طقسا دينيا مؤثرا على جماعة المتعبدين عبر الموسيقى التي لعبت وما تزال الدور الأكثر ايجابية وتأثيرا في الإنسان ويبدأ منه ازدهار هذا الفن الذي ولد في كنف الموسيقى والإنشاد الديني كحالة استطاعت أن تلعب دورها المنوط بها, وينطلق المولود ليفعل فعله الأول والذي يتسم عادة بالنجاح ولكن تبدأ فيما بعد وعبر تغير ظروف الكينونة عوامل تؤدي إلى مراوحة هذا الإبداع مكانه لزمن أو حتى التراجع ريثما يجد لنفسه السبيل لانطلاقة جديدة عبر الحل الذي يقدمه القائم عليه وعلى تطويره.

(أزمة المسرح)

عنوان طالما اندرجت تحته الكثير من التحليلات والآراء حول ماهيتها وأسبابها وطرق معالجتها واتجه المحللون يمنة ويسرة لتحديد الجذور لها, وإذا كان الكثير منهم تطرق لمضمون الإبداع المسرحي فإنه يبقى بعيدا عن روح المسرح ومكنونه العميق.

من المؤكد أن المسرح نشأ ليزدهر تارة ويخبو أخرى, ولكن ما الذي كان يضاف له فيثيره ليملأ الأرض حركة وديناميكية, وما الذي كان ينقصه حين يخفت نجمه ويعود القهقرى؟ هنا يكمن سر هذا المد والجزر في العملية المسرحية!

إن المسرح هو العملية التي لم تلد وحيدة فلقد ولد المسرح نتيجة عملية ولادة أنجب فيها التوق الانساني ” نحو تمثيل واقعه وترسمه مسرحيا ” توأما, أولهما المسرح ويبقى شبيها بذاته الأولى مع التحديث, والثاني توأمه الذي كان الموسيقى بداية وظل هو أيضا عرضة للتغيير الذي أنكره أحيانا فخبا معه المسرح وأبدع فيه أحيانا أخرى فلمع المسرح وانتعش.

صيرورة الظهور والاختفاء

حين بدأ المسرح مشواره إلى جانب الموسيقى كان في طور العظمة ثم بدأ الاهتمام ينصب على المسرح دون الموسيقى فأخذ المسرح شكلا تمثيليا أخذت فيه الكلمة دور العامل الحاسم وما أن تم للكلمة ذلك حتى ذبل المسرح شيئا فشيئا ولأول مرة تحول من توأم للموسيقى المعبرة عن كل شيء وعن مشاعر كل كائن إلى كلمة ينطق بها فلان فتظهر جوهره وينطق بها الآخر فتثير فقط غريزته وهكذا حتى تحولت الكلمة بفعل ضغط الأزمة إلى ما يشبه الموسيقى بثوب الشعر وأصبحت موسيقى الشعر تلعب الدور الأساسي وهذا ما أنعش المسرح حينا وأذهل الناس بإبداعات مؤلفين مسرحيين كبار في هذا المجال.

ولكن عودة المسرح إلى ذكريات توأمه الأول ( الموسيقى) – ولو في أدنى درجاتها – أزعج الكثير من النقاد الذين عرّفوا المسرح بما يجب أن يكون ممثلا على الخشبة لا أن يبقى أسير القصائد والأشعار ( المسرحية ) المؤلفة على الصفحات الورقية وكان لهم في ذلك امتلاك جزء من الحقيقة قبل الدخول في تفاصيل الفعل المسرحي اللاحق حسب ما أرادوه.

وما أن ارتجل الشعر نحو التمثيل حتى ظل المسرح في مقامه حينا ولكن فسد الشعر بأمر من النثر الذي أصبح ( الأكثر قدرة على ادراج الهم الإنساني في خضم القافلة المسرحية ) وهذا بالذات ما أعاد الموسيقى لجحرها وأطلق العنان للكلمة من جديد ليبدأ المسرح بالخبو شيئا فشيئا.

ما وجه العلاقة بين المسرح والموسيقى في ( الكل المسرحي )؟

يظهر المسرح بكل ما يؤلفه من عناصر مادية سينوغرافية ومن بينها الممثل والفعل والأداء المسرحي والكلمة بماديتها وكل هذا يتطور, ولكن تبقى الحلقة الأقوى في ارتباطها بالعنصر المؤثر وهو الموسيقى والتي بارتباطها مع الحركة المسرحية داخل العرض ككل تلعب دورا أساسيا وتبقى الغلبة لا لتغيير الحلقات والموازين الموسيقية بل لروح تلك الموسيقى التي تختلف عن مادية الموسيقى أيضا بعد اندماجها بالكائن المسرحي بأكمله, فكل عنصر منهما يجد نفسه ضمن الآخر ويجد نفسه مختلفا جدا حين الارتباط مع الآخر.

محاولات لدمج التوأمين ( دون معرفة حقيقة هذه التوأمة )

لم يستطع نقاد المسرح الوصول إلى المرض الحقيقي الذي يعاني منه المسرح ولكنهم أبدعوا بعضا من الحالات المسرحية التي كانت دواء شافيا لعله لم يتم التعرف عليها, فنشأ المسرح الاحتفالي الذي أعاد الطقس الديني الاحتفالي للواجهة وأعاد بهجة التراث والفلكلور إلى الواجهة, وسنحت الفرصة للاحتفالية المسرحية المتضمنة في جوهرها التوأم الغائب (الموسيقى) للاندماج مع المسرح من جديد ليعود المسرح إلى سابق مجده, ولكن يبقى كل ابداع أسيرا للحظة من الزمن الذي يطلق العنان لأزلامه ليفعلوا فعلهم في الوليد الجديد, وهكذا بدأت هذه الاحتفالية تتلقى النقد من هنا وهناك, وهنا بدأت الموسيقى وملحقاتها كما قال أكثرهم تطغى على المسرح ذاته والفعل المسرحي وشيئا فشيئا ننتقل إلى حالة ابداعية جديدة وهي المونودراما التي لخصت الفعل المسرحي بشخصية واحدة كانت أكثر أدواتها ايجابية هي الموسيقى والايحاء, فلعبق الموسيقى دور كبير في مساعدة الممثل الوحيد وغير القادر لوحده شأن المسرح بمجمله على مصارعة التوق الجماهيري, فعمل كل من الفعل المسرحي والموسيقى المهمة في المونودراما على ايجاد الآلية السليمة لمحاكاة الهدف الأسمى الذي يرنو له المسرح , ولكن ضعف إمكانيات الأداء المسرحي هذه المرة وعدم قدرة الممثل على محاكاة المسرح من جهة ومجاراة توأمه المفترض من جهة أخرى أدى إلى ضعف هذه التجربة وإن تم فيها الكثير من الابداع الهائل ولكن مرة أخرى نعود ونعود للأزمة ونبقى جزءا من القافلة التي تسير من كتب أرسطو وتاريخه إلى المحاولات الاخراجية لأرتو وواقعيته الاحتفالية.

—————————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *