آلية استقبال العرض المسرحي – العراق

بتأثير من العلوم الإنسانية جرى، في السبعينيات من القرن الماضي، التركيز على المتلقي الفرد، أو المتفرج، في المسرح وآلية استقباله للعرض المسرحي بدلا من معالجة ذلك على مستوى مجموع المتلقين، انطلاقا من أن عملية التلقي هي فعل يمس كل متلقٍّ على انفراد بشكل متفاوت، وأنها عملية ذاتية تتحكم بها عناصر اجتماعية ونفسية وثقافية. وقد خصصت الباحثة الفرنسية آن أوبرسفيلد الفصلين الأخيرين من كتابها «مدرسة المتفرج» للبحث في آلية عمل المتفرج في المسرح، والأدوار التي يقوم بها، وأنواع اللذة التي يحصل عليها من ممارسته لتلك الأدوار. موجهات بريخت 

تكشف أفكار أوبرسفيلد والرؤية التي تصدر عنها، في مقاربتها لهذا الموضوع، عن حضور واضح لاتخفيه لموجهات بريخت وبارت وفرويد عليها، ففي تمهيدها لعمل المتفرج تجد أن العرض المسرحي حدث متعدد الشخصيات، منها شخصية جوهرية، بيد أنها لا تظهر على خشبة المسرح، وقد لا تعمل شيئا (بمعنى لا تشترك في الفعل الدرامي)، إنها شخصية المتفرج، فهو الذي يوجّه إليه الخطاب الشفهي والمسرحي، وهو المتلقي في قضية الاتصالات، وهو ملك الحفل. 

وفي ضوء هذه المكانة التي تمنحها أوبرسفيلد للمتفرج تقرر مسألة محسومة أصلا في نظرية التواصل المسرحي، وهي عدم وجود عرض مسرحي إذا لم يكن ثمة متفرج في المسرح (مكان العرض)، على الرغم من أن الباحثة الكندية سوزان بينيت تعتقد بأن بحوث أوبرسفيلد تتجاوز نماذج التواصل المسرحي لتبحث في مسألة لذة المتفرج. لكن هذه المكانة لا تتحقق لكل شخص يحضر إلى المسرح لمشاهدة عرض ما، بل لمن يؤدي عملا ذهنيا في أثناء المشاهدة، ويستجيب سايكولوجيا لذلك العرض. 

ويتمثل هذا العمل بتنسيق المتفرج لإحساسه، وتذكره، من دون حاجة إلى أن يذكره أحد، للصور التي تتشكّل منها مشاهد العرض، ومحاولة فهمها وكأن حياته وقف على ذلك، ومن ثم عدم نسيان استشعار الراحة التي تعقب المتعة. إنه يصنع بعناصر مختلفة مونتاجات متزامنة، سواء أكانت لوحات تحتضنها العين في حركة واحدة، أم علامات منفردة ينبغي على إدراكه (المتفرج) أن ينسج فيما بينها نوعا من الصلة. 

الجهد الذهني للمتفرج

 

لكن أوبرسفيلد تستدرك صعوبة هذا العمل تزامنيا، ذلك أن من المستحيل أن يستطيع المتفرج أن يرى ويسمع كل شيء في آن واحد، ويشاهد جميع الممثلين، ويفهم جميع الرموز. وإذا كان ثمة اليوم اتجاه حالي للإخراج فهو يتجه الى التحرر التدريجي من هذا الشكل المبدع عند المتفرج، سواء عرضت عليه حركات متقطعة يلزمه أن يبذل مجهودا لتجميعها، وأن يقترح لها معنى، أو كان ثراء الحركات الضئيلة التي يقوم بها الممثلون ودقتها يجعلان من الصعوبة أن يتابعها كلها عند جميع الممثلين، أو كان المتفرج غارقا تحت شلال العلامات والصور (كما في تجارب المخرج الفرنسي روجيه بلانشون). وفي كل تلك الحالات يقوم المتفرج ببناء أساليبه في حدود قدراته على الملاحظة، واتساع ثقافته (المسرحية والتشكيلية) حتى في الحال التي يوجد فيها توازن في الخلق المسرحي حين يكون المتفرج غير معرض للضياع، ويُثرى العمل الثقافي التركيبي للصور حين يضطر المتفرج الى بذل المجهود، وتركيز جميع مراجعه الثقافية (ومن بينها الصور). إن الجهد الذهني الذي يبذله المتفرج، وهو يتلقى التجارب الإخراجية الحديثة، أكبر بكثير مما يبذله مع التجارب التقليدية، لكون الأولى تميل إلى التعقيد في بنائها الفني، حيث تتبعثر الأشياء فيها بطريقة شاذة، وتتنافر الإشارات التي يقوم بها الممثل، فيضطر المتفرج الى الاستعانة عن ذلك التقطيع ببناء أنظمة صغيرة متماسكة لها وحدة في المعنى، ولكنها لا تشكل حوارا منظما، بل كوكبات ذات معنى، ولا يستطيع المتفرج، في كثير من الحالات، أن يشكل، بوساطة المونتاج، تلك المجموعات ذات المعنى، بل يكتفي باللصق، وفي هذه الحال سيكون التنافر له معنى بالنسبة له. لكن أوبرسفيلد تعترف بصعوبة هذا العمل، الذي يتصف بالبراعة، وترى أنه يتطلب نوعا من الخفة، وسرعة الإدراك الذي لا يتكرر. وهذا يعني أنها تتحدث عن متفرج مثالي أو نادر الوجود، الأمر الذي يجعل من رؤيتها لعملية التلقي في المسرح ذات منحى محدود من الناحية العملية.

     

نظرية الاتصال المسرحي

                                                                                                        

تبحث أوبرسفيلد في عملية الأدوار التي يؤديها المتفرج من خلال نظرية الاتصال المسرحي، فثمة من يتحدث على خشبة المسرح، وهو كائن إنساني له شخصية مزدوجة: شخصيته الذاتية كممثل، والشخصية الأخرى التي يؤديها، ويكون اهتمام الممثل متجها صوب المتفرج، ويشترك معه في مشاهدة الممثلين الآخرين، وبقية المتفرجين: (أنا الممثل ــــــ أنت المتفرج ـــــ هم الممثلون والمتفرجون)، وتنتج عن ذلك علاقة متبادلة، فالصوت الداخلي للمتفرج يجيب على صوت الممثل: (أنا المتفرج ــــــ أنت الممثل ــــــ هم الآخرون متفرجون)، ومع عمل الخيال تتعقد الأشياء، فيجري الخلط بين: (الأنا، شخصية ــــــ أنت شخصية أخرى ــــــ هو المتفرج).

تبادل الأدوار 

 ومن هذا المنطلق يصبح المتفرج في دور الشاهد، لكنه ليس في حاجة الى أن يوجه للشخصية جوابا ما دام لم يوجه اليه سؤالا، بيد أن  أوبرسفيلد تناقض نفسها بقولها إن المتفرج يأخذ الكلمة، ويتجه الى الشخصية، سواء أخذ مكانه في الحديث، وتقمص شخصيته، أو أجاب عن الشخص الآخر، أو تقمص شخصية بطل المسرحية، وأحيانا يتقمص الشخصيتين معا مستثمرا الحوار، أو الحركات: (أنا، متفرج، شخصية ــــــ أنت شخصية ــــــ هو شخصية أخرى)، وفي هذه الحال، تلاحظ أوبرسفيلد، أن المتفرج عندما يتقمص شخصية الأنا لا يتخذ كشاهد لبقية المتفرجين، ولا كمتفرج آخر ذي حظوة، بل يتقمص كل فرد ذاته، وهنا يكون المتفرج فاعلا: (أنا، المتفرج ــــــ أنت الآخر متفرج ــــــ هو شخصية 

ممثل).  لكننا إذا ما نظرنا الى عملية تبادل الأدوار هذه برؤية نقدية تخضعها لمنطق الممارسة الفعلية سنجد أنها تنطوي على مقاربة افتراضية، أو تصور تجريدي لما يمكن أن يحدث بين قطبي الواقعة الاتصالية: المرسل والمستقبل من خلال قناة المسرح.

————————————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – عواد علي – الصباح

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *